حصريا

الوزير حسن كتبي: بين الإسناد والوجدان د. علي زين العابدين الحسيني-مصر-

0 4

الوزير حسن كتبي: بين الإسناد والوجدان

  1. د. علي زين العابدين الحسيني

كاتب وأديب مصري

من أبرز ما يُثبّت قيمة الإنسان في مجتمعه أن يُعرف بفنٍّ أو مجالٍ محدّد، فيُشار إليه بين المنتسبين إلى العلم بما تميّز فيه، وتُبنى له مكانة راسخة لا تلتبس على أحد. صحيح أنّ الجمع بين الفنون وتداخل المعارف في شخصية واحدة يُعَدّ من علامات النبوغ، غير أنّه في واقع الناس قد لا يضمن لصاحبه وضوح الصورة ولا اكتمال التقدير؛ إذ يظل متردّدًا بين مجالات شتّى، فلا يُعرف على وجه الدقة بواحدٍ منها، وفي حياتنا العلمية نماذج كثيرة من النابغين لم تعرف قيمتهم على الوجه الأكمل بسبب ذلك.

لهذا أرى أنّ التخصّص في فنٍّ بعينه أجدى، وأنّ بذل الجهد فيه حتى يتفرّد المرء بإتقانه أولى من التوزّع في ميادين متعدّدة، قد لا يثمر فيها إلا القليل من كلّ شيء. فإنّ الناس -في الغالب- لا يحفظون لصاحبهم إلا ما رسخ في أذهانهم عنه، فإذا تشتّت أثره تضاءل وزنه، وإذا اتّسق عطاؤه في فن واحد عُرف به وأُثني عليه، وتضاعف تأثيره.

ومن هنا كانت قيمة التخصّص: ليس إعراضًا عن سعة المعرفة ولا إغلاقًا لباب الثقافة، وإنما هو وعي بضرورة أن يترك الإنسان بصمته في مجالٍ يُحسنُه، ليبقى أثرُه فيه أبينَ وأبقى.

والشخصية التي أقدّمها اليوم واحدة من الذين غلبت عليهم نزعة الموسوعية؛ فقد انفتح على ميادين متعددة من المعرفة، فجمع أطرافًا شتّى من العلوم والفنون. وهذه السعة -على جلالها- قد تكون سيفًا ذا حدين؛ إذ تمنح صاحبها ثراءً في الرؤية وعمقًا في الفهم، لكنها قد تصرفه عن التفرغ لتفصيل جانب من حياته العلمية، أو تحرير مشيخته على نحوٍ وافٍ. ولعل هذا ما حدث معه؛ فمشيخته لم تُفصَّل تفصيلًا يبرز جميع معالمها، وقد بقيت ملامحها متناثرة لا تجتمع في صورة مكتملة.

من أجلّ الأعلام الذين لقيتهم بالحجاز، وأخذت عنهم: الوزير الشريف حسن بن محمد بن عبد الهادي بن محمد صالح بن محمد حسين كتبي الحسني (ت ١٤٣٣)، وقد كان المرحوم رجلاً مهابًا، يلوح الوقار في محيّاه، وتُعرف عراقة نسبه في قسمات وجهه وعينيه. وقد استغرق لقائي الأول به مدة سنتين من السعي، إذ كان الرجل محجوبًا عن الزائرين لأسبابٍ خاصة، حتى تيسرت الزيارة الأولى بمساعٍ من ابن أخيه بمكة، ومنذئذ عرفت بيته العامر بالمدنية المنورة، ولزمته بالزيارة والمجالسة، ودوّنت مشيخته من لفظه.

حسن كتبي: وُلد الوزير الشريف حسن كتبي بمدينة الطائف سنة 1329 في أسرة دَيّنة علمية لوالدين ذوي قرابة، ونشأ يتيم الأم، فتربّى في كنف أبيه وجده، وانتقل صغيرًا إلى مكة المكرمة حيث حفظ القرآن الكريم كاملًا وهو ابن ثمان سنين. ثم التحق بمدارس الفلاح بمكة المكرمة، فدرس التفسير والحديث والفقه وأصوله، وحفظ عددًا من المتون، وكان يؤم الناس بصلاة التراويح بالمسجد الحرام. ولتفوقه أُوفد إلى مدارس الفلاح بـ”بمباي” بالهند سنة 1350، فأكمل دراسته العليا في العلوم الشرعية وتخرّج منها.

وبعد عودته إلى مكة تولّى التدريس بالمعهد العلمي السعودي سنة 1350 مدرسًا للقضاء الشرعي، ثم انتقل إلى وزارة المالية حتى سنة 1369، ثم ارتحل إلى القاهرة فاشتغل بالتجارة وتأسيس الشركات، وأسس سنة 1375 فرعًا للبنك الأهلي التجاري هناك، ثم رجع إلى مكة سنة 1378 وانصرف إلى أعماله التجارية. وفي سنة 1382 بدأ يشارك في القضايا الإسلامية ممثلًا المملكة في المؤتمرات والندوات، حتى صدر الأمر الملكي سنة 1390 بتعيينه وزيرًا للحج والأوقاف في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز.

وقد ذكرت ترجمته في كتابي “حديث الأموات .. تراجم ناطقة عن شخصيات سابقة” ص264، ومما جاء فيها: “هو أجلُّ أساتذتي الذين التقيتُ بهم وعرفتهم في بلاد الحجاز، ومن أفراد العصر الذين جمعوا بين أمور عديدة لا أظنُّ أنها اجتمعت في شخصٍ غيره، منها شرف نسبه؛ فهو ينتمي لأسرة معرفية علوية النسب تـُـعدُّ من طلائع الأسر المكية في البذل والعلم والوجاهة، وجمعه بين الدراسة الشرعية والتكوين والأدبي والمخزون الثقافي المتنوع، ورفعة مناصبه؛ فهو أول وزير للحج والأوقاف في المملكة العربية السعودية في عهد الـملك فيصل آل سعود، وبجانب ذلك يـُـعدُّ خاتمة وزراء المسلمين -على حد علمي- ممن كان يسند ويروي الأحاديث وغيرها بالأسانيد المتصلة، ولذا فهو يمثل حالة فريدة نادرة الحدوث في زماننا. عرفتُ هذا السيِّد الشريف عن قُـربٍ، وتوطدت بيني وبينه صلة وثيقة، ترتَّبت عليها عـدَّة زيارات ولقاءات في بيته العامر بالمدينة المنورة، وقـد أتاح لي فرصة الدخول عليه دون سابق موعدٍ وهو مَن هو في فضله ووجاهته وشرف منصبه وعلوّ كعبه!”.

وذكرت بعض مشايخه وأساتذته في قولي: “أخــذ عن فحول العلمـاء، فممَّن تلقَّى عليهم: الشَّيخ عبد الستـار الدهلوي، والشيخ محمد علي حسين المالكي، والشيخ عمر بن حمدان المحرسي، والسيد عبد الحي الكتاني، والشيخ عبد الباقي اللكنوي، والشيخ عبد الله حمدوه السناري، وتلقى في “بمباي” بالهند عن الشيخ محمد أمين سويد، والشيخ محمود العطار، وأدرك جَـدَّه عبد الهادي كـتبي إدراكـًا بيِّــنـًا لكن لا تتحقق إجازته منه، ويـروي حـديث الرحمة الـمسلسل بالأوليـة عن شيخه عبد الستار بن عبد الوهاب الدهلوي”. اهـــ

ثم انكشف لي عند مراجعة كتاب “رفع الأستار عن ترجمة ومشيخة الشيخ الكتبي عبد الستار” للأستاذ ماجد بن محمد الحكمي المكي أنه ذكر شيخَنا الوزير حسن كتبي (ص282) في الفصل الثالث، عند كلامه على مَن ينبغي التثبت في الرواية عن العلامة الشهير عبد الستار الدهلوي بعد نقل كلامي السابق عن أساتذته. وكانت حجته في ذلك قوله: “ولم أجد الشيخ ذكر الرواية في ترجمته الذاتية (هذه حياتي)، ولا التي كتبها للاثنينية التي نشرت في الجزء الثاني عام 1404، ولعل الله ييسر الوقوف على شيء يقوي ذلك”.

وهو أمرٌ يدعو إلى العجب؛ إذ كيف يُبنى التوقف في الرواية على مجرد عدم وجود ذِكرٍ لها في مصدرين محدودين معددودين من السير الذاتية الأدبية، مع أن طرق التثبت أوسع من ذلك، ومظان الرواية متشعبة؟! بل إن السكوت في التراجم لا يدل بالضرورة على النفي، وإنما أقصى ما فيه أنه لا ينهض وحده للحسم والقطع.

على أنه حين كتب أستاذنا الوزير سيرته الذاتية لم يكتبها بمنهج الحصر والتوثيق الدقيق لمراحل العمر، وإنما قدّمها بروحٍ أقرب إلى التأمل والانطباع، وكأنما أراد أن يُبقيها تجربة شعورية أكثر منها وثيقة تاريخية. وهذا النمط من الكتابة -على جماله الأدبي- يُضيّع على الباحثين بعده فرصة الوقوف على تفاصيل حياته ومسار تكوينه العلمي بدقة، فيبقى أثره موزّعًا بين سعة الثقافة وغياب التخصيص.

كان السيد حسن -كما عرفته لسنين طويلة- ذا ذاكرة يقظة وصحة جيدة على كبر سنه، لا تكاد تُرى فيه إلا آثار الشيخوخة المعتادة، ومع ذلك فقد اتخذ شيخًا شنقيطيًا يلازمه يوميًا لمراجعة القرآن وضبطه، وهو أمر نادر فيمن جاوز المائة، إذ جمع بين شيخوخة الجسد وفتوّة العزيمة، فكان شاهدًا على عمق تعلقه بالقرآن وحرصه على بقاء العهد حيًّا.

وفي بعض مجالسه التي زرته فيها بالمدينة اجتمع عنده بعض المعتنين بالإسناد والرواية، منهم: الأستاذ المسند الكبير د. صالح بن عبد الله العصيمي، ود. المنذر بن محمد السحيباني، وهو من أهل المدينة، وسمعنا منه يومئذٍ أساتذته الذين أجازوه، وبعض أخبار مشايخه وأسانيدهم، يذكر أستاذنا الفقيد كل ذلك برواية وافية وتوثيق متقن.

غير أن ما يميز سيرته أن ما كتبه عن نفسه جاء في أسلوب أدبي ذاتي، لا في طريقة المحدثين وأهل الرواية، فجمع بين عين المحدث ويد الأديب، فصاغ تجربته بلغة وجدانية تضفي على نقل المشيخة روح المجلس وحرارة التجربة، ليبقى أثره شاهدًا على أن العلم لا يُختزل في الأسانيد وحدها، بل يعيش أيضًا في مجالس الأدب.

وليس العذر في عدم ذكر بعض المشايخ أن سيرته ناقصة، وإنما لأنه صاغها بلسان الأديب لا بقلم المسند، فالتراجم الذاتية تميل إلى بسط التجربة وتصوير الأحوال أكثر من ضبط الأسانيد، وقد عرف المرحوم قديمًا، رحمه الله، بالإسناد والرواية، واستجازه غير واحد من أهل العلم، فكان هذا كافياً لتعويض بعض الجزئيات غير المذكورة، وفي الإجازة التي أجازنا بها السيد مالك العربي السنوسي ذكرٌ لاسمه الكريم ضمن مشايخه الذين أجازوه.

وقد سمعتُ الدكتور صالح بن عبد الله العصيمي -حفظه الله- في دروسه العامة بالمسجد النبوي الشريف يُسنِد حديث الرحمة المسلسل بالأولية من طريق شيخنا الوزير حسن كتبي، عن شيخه عبد الستار الدهلوي بسنده الشهير. وهذه الرواية المسموعة المتصلة تمثل نصًّا صريحًا في إثبات مشيخة الشيخ حسن كتبي في الحديث، وتبطل الاستشكال المبني على مجرد السكوت في بعض التراجم.

بل إن مثل هذا السند المتداول على ألسنة المعتنين وطلاب الإسناد -وفي مجالس عامرة بالعلم وأهل الحديث- أظهر في الدلالة من الاقتصار على سطرٍ أو تعريفٍ عابر في سيرةٍ ذاتية أو تعريفٍ ثقافي، إذ الرواية إنما تثبت بمثل هذه الشهادات.

وفي الوقت الذي كنت فيه أذكر بين يدي أستاذنا المرحوم اسم شيخه عبد الستار الدهلوي، كانت ملامح وجهه تشرق بابتسامة تعلوها أريحية خاصة، كأن الاسم يوقظ في نفسه صدى صوتٍ طويل العهد، وقد كان هذا التكرار في ذكر أسماء المشايخ استدعاءً لذكريات حيّة وتجارب راسخة، مع تمييز دقيق بين المعرفة العامة والمعايشة العلمية، فليس كل من عُرف يُعد شيخًا بالإسناد، وإنما الإجازة هي التي تُثبت الميثاق العلمي.

وقد ذكر في سيرته الذاتية “هذه حياتي” عن أستاذه الشيخ أمين سويد أنه كان مدرسًا لجميع العلوم الدينية، ومن كبار المتصوفة، وهو ما يكشف عن عمق نظره في طبقات شيوخه، متجاوزًا حدود الرواية والإسناد إلى البعد التربوي الروحي، فالعالم عنده جامع بين العلم الظاهر والتزكية الباطنة. وهكذا جاءت سيرته تأملية أدبية، بعيدة عن مجرد تحرير الأسانيد أو استقصاء جميع المشايخ، فهي أقرب إلى رسم صورة إنسانية وفكرية لمعلميه، مشبعة بروح الأديب لا مقيدة بضبط المحدث.

ولا يمكن أن تُحاكم سيرة ذاتية كتبت بلسان الوجدان والذكريات بقواعد الرواية، كما لا يمكن أن يُردّ أساتذة الرواية بما ذكر في ملتقى أدبي أو ثقافي؛ فالرواية لها أسلوبها، والثقافة لها جمهورها المختلف، وكلٌ منهما في سياقه. وأنا أعي هذه القضية تمامًا عن تجربة شخصية؛ فما أقدمه من مقالات ثقافية وأدبية يختلف عمّا يكون في ثنايا كلامي عن العلوم الشرعية أو مباحث الرواية والإجازات، وما كتبته لبعض المنتديات الثقافية في بعض البلدان العربية من ترجمة أخاطب بها جمهورًا خاصًا، فلا يمكن الاحتجاج بها فيما بعد على عدم وجود مشيخة إسنادية لي. وهذا يمثل جزءًا من مشكلة من له اهتمام بأكثر من تخصص، وقد نبهتُ إلى ذلك في بعض مقالاتي.

لا أزال أهشّ فرحًا كلما واتتني فرصة الكتابة عن أستاذي الوزير حسن كتبي؛ أهشّ كما يهشّ الغصن حين تهبّ عليه نسمة ربيع، فينتفض بالحياة ويورق من جديد؛ فالكتابة عنه انبعاث وجدانيّ يتردّد في داخلي كلما خطر اسمه، كأن الكلمات نفسها تبتهج حين تُقرن بذكره.

وأرجو أن أعود قريبًا إلى هذه السيرة المباركة لشخصية حضارية كبيرة من زاويةٍ أخرى أحسب أنّ أحدًا لم يلتفت إليها، زاوية تُظهر جانبًا خفيًّا من شخصيته، وتكشف عن عمقٍ ظلّ محجوبًا خلف المشهد الظاهر؛ فلعلّ في ذلك تجديدًا للحديث عنه، وإضاءةً لوجهٍ آخر من وجوه عطائه، يكتمل به البناء، ويزداد به الحضور بهاءً وتمامًا.

 

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.