حصريا

المد المستطاع: تقاليد الشرح وأدب التلقي -أ.محمد سالم بحيري -مصر-

0 923

المد المستطاع: تقاليد الشرح وأدب التلقي

أ.محمد سالم بحيري

(مدرس المذهب الشافعي – إندونيسيا)

 

على كثرة متون الفقه عند أئمتنا الشافعية -رحمهم الله- لست تجد متنًا مختصرًا للمبتدئين قد اعتُنِي به كما اعتُنِي بمختصر الإمامِ أبي شجاع -رحمه الله-، فكثرت شروحُهُ ما بين مُطَوَّلٍ ووسيطٍ ومختصرٍ، ووضعت الحواشي النفيسة على بعض هذه الشروح، فحلت ألفاظها، وحررت مُرادَها، وقيدت مطلقَها، وخصصت عمومها.

وتفاوتت الشروحُ اختصارًا وبسطًا تبعًا لحالِ الطالبِ ونظرِ الشيخ، فكانت العادةُ في الأزهر الشريف في زمانٍ أن يدرسَهُ الطالبُ على مرحلتين، فيدرسه ابتداءً بشرح الغزيِّ المُسَمَّى بـ«فتح القريب»، فإذا أتمَّ ذلك درسَهُ بشرح العلامة الخطيب المُسَمَّى بـ«الإقناع»، وفي زمانٍ آخرَ بعد هذا كان الطالبُ يدرسُ بين «فتح القريب» و«الإقناع» شرح ابن قاسم العبادي رحمه الله، فكانت مراحلُ دراستِهِ آنذاكَ ثلاثًا، «فتح القريب» في سنةٍ، وشرح العبادي في سنة، وشرح الخطيب في سنتين، وليس هذا بمستغربٍ، ولا هو من إخراج المتن عن مقصودِهِ، فإن الطالب إذا أحكمَ البدايات سهل عليه ما بعدها، وأكثر تعثر الناس في الكتب بسبب عدم إحكام البدايات.

بل قرأه شيخنا العلامة الفقيه عبد العزيز الشهاوي رضي الله عنه على شيخه العلامة الشيخ عبد الحميد الشهاوي رضي الله عنه من شروح أربعةٍ تِباعًا، كلما أتمَّ كتابًا شرع في الآخر، فقرأه على شيخه مرةً مفردًا، ومرات بشرح الغزيِّ، ومرة بشرح الشبشيري المُسَمَّى بـ«النهاية في شرح الغاية»، ومرة بشرح التقي الحصنيِّ المُسَمَّى بـ«كفاية الأخيارِ»، ومرة بشرح الخطيب.

ولا ريب أن المتن إذا اعتمدت بعضُ شروحِهِ في التدريسِ كثرت عليها الحواشي، فلذلك فإنه على كثرة شروح «مختصر أبي شجاع» كثرت الحواشي على شرحين اثنين من بين شروحه، هما شرحا ابن قاسم والخطيب.

بعض هذه الحواشي لم يكتبه صاحبُهُ ابتداءً، بل تَحَصَّلَ مما ألقاه على تلامذتِهِ في مجلس الدرسِ، ثم تَطَوَّعَ أحدُ الآخذين عن الشيخ، فكتبَ ما ألقاه الشيخ، ومما وقع فيه ذلك «حاشية العلامة الشبراملسي على فتح القريب»، فقد كانت نتاجَ قراءة الشيخ عبد الرحمن المحليِّ وغيره «فتح القريب» علي الشبراملسيِّ، فقد قال: «كان من جملة ما قرأته عليه شرح أبي شجاع لابن قاسم الغزي، وحصلَ من ذلك فوائدُ، حصل بعضُها من مسألة الحاضرين بعد المراجعة قدر الطاقة، وأكثرها فوائد أستاذنا المذكور غير جواب لسؤال».

وتلك كانت عادةً أزهرية قديمة، فلم يكن الدرسُ حلقة تلقينٍ محض، بل كانت مجالسُ الفقه وغيره حيةً بالبحثِ والاستشكالِ والتحريرِ، ولم يكن المشايخ يضجرون من شيءٍ من ذلك، بل كان يعدون ذلك دلالةً على حسنِ فهم الطالبِ لما يُلقى عليه، حتى كان العلامة الشبراملـسي رحمه الله إذا لم يبحث معه الطلبة قال لهم متعجبًا من حالهم: «ما لَنَا اليوم؟».

وبعضُ هذه الحواشي كتبها أصحابُها على هامشِ نسخِهم ابتداءً عند إقرائهم للكتاب، ثم أفردوها خوفَ الضياع، إذ ما يكتبه العالم على هامش نسختِهِ مظنة الضياع غالبًا.

ومنها «حاشية عبد الرحمن الأجهوري على الإقناع»، فقال رحمه الله: «لما وفقني الله تعالى لقراءة كتاب الإقناع للشمس الشربيني الخطيب مرارًا علقتُ عليه بعض فوائد، ثم صرتُ أزيدُ شيئًا فشيئًا كلما قرأته، ثم اطلع على ذلك بعض الإخوان فقال: الهوامشُ قليلة الانتفاع، ومعرضة للضياع، فلو جمعتها لكانت كثيرة الانتفاع ومأمونة من الضياع، فانشرح لقوله صدري».

وبعضُ هذه الحواشي كان تصنيفها بسبب سؤالِ طالبٍ، فقد كان سبب تصنيف العلامة البرماويِّ لحاشيته على «فتح القريب» سؤال ولدِهِ له، فقال: «لَمَّا كان ولدي أحمد ممن وفقهم الله تعالى للاشتغال بالعلم، وكان في ابتداء أمره مما أحب قراءة ومطالعة شرح الغاية للعلامة الغزي .. سألني أن أمليه عليه حاشية لطيفة ينتفع بها، فأجبته إلى سؤاله، طالبًا من الله الثواب، راجيًا أن ينتفع بها هو والطلاب، إنه على ما يشاء قدير، وبعباده لطيف خبير»، ولأخينا الفاضل الدكتور فيصل الخطيب نفع الله به جمع حسن لبواعث تصنيف الحواشي والتقارير، في ورقة له سماها «نبذة في التعريف بالحواشي والتقريرات»، فيها نقول كثيرة في هذا الباب، ولا أعلم هل نشرت للعموم أو لا.

وما زالَ الناسُ على هذا الحالِ، يشغلون المبتدئين بهذا المتن النافع المُبارك، فيحصلُ لهم الانتفاعُ والبركة، وما أحسنَ الاشتغالَ بما اعتمدَهُ العلماءُ تدريسًا وشرحًا وتحشية وتقريرًا.

وقد سارَ على دربِ أئمتنا في الاعتناءِ بهذا المختصر المبارك بشرحه جمعٌ من المعاصرين، وكان من بينهم أخي الفاضل الدكتور علي زين العابدين الحسيني نفع الله به، فوضع شرحًا عليه قد سَمَّاه «المد المستطاع لمقاصد مختصر أبي شجاع»، سلك فيه طريقة كثيرٍ من علماء الأعاجم من بسط مسائل المتنِ وتحريرها دون تتبع ألفاظ المتنِ، وهي إحدى طرائق أئمتنا في شرح المتون، وفي كلٍّ خيرٌ.

وقد أعجبني في كتابه خصالٌ:

  • الجمعُ بين يُسْرِ العبارة وإحكامِها، فقد التزمَ العبارةَ التراثيةَ المُحْكَمة دون أن يجد الطالبُ صعوبة في الشرح، ولا شك أنه من سعادة الشارح يُسْرُ عبارتِهِ مع إحكامِها.
  • حصرُ خصالِ البابِ وعدها واستدراكُ ما لم يذكره المصنف -رحمه الله- على نحوٍ وجيزٍ يليقُ بالمبتدئ.
  • الحرصُ على توجيهِ كلام المصنفِ بتقريره على المعتمد إذا كان ظاهرُهُ خلاف المعتمد، وهذا أدبٌ حسنٌ جرى عليه الشراحُ، وفيه يقول العلامة الشهاب الرمليُّ -رحمه الله-: «حيث أمكن تنزيلُ كلام المصنفين على تصوير صحيح لا يُعدل إلى تغليطهم».
  • ذكره أمهات القيود في بعض المسائل على النحو الذي يناسب المبتدئ، وإلا فليست شروح أبي شجاع محل استيعاب القيود.
  • التزامه بمعتمد المذهب كما هو المتعين على الشارح، فلا يخلط الشرح بما يُخالف المعتمد، وهذا داءٌ معاصرٌ يُبتلى به كثير من الشراح، فيشرحون المتون المذهبيةَ باختياراتهم المخالفة للمعتمد، وهذا إن كان بلا بيانٍ تغريرٌ بالطالب، ومع البيانِ تشتيت للمتفقه المبتدئ وعدولٌ عن جادةِ الشراح، نعم إن كان لحاجةٍ؛ كإرشادٍ إلى قولٍ مخالفٍ يَجُوزُ تقليدُهُ .. فينبغي أن لا يكون بذلك بأسٌ إذا ميزَ المذهب من المرشَدِ إليه.

فشراح المذهب كالرواة له، والراوي لا يَجُوزُ له تغييرُ المروي، وإلا كان تغريرًا بالطالب الذي استمع لشرح هذا المتن ليطلب فقه ذلك الإمام المتبع، لا مذهب الشارح واختيارَهُ، فإن كان لا بد، وأرادَ شارحُ متنٍ أن يَبُثَّ اختيارًا له من خارج المذهب، أو مخالفة لمعتمده، أو كانت المسألة في المذهب مما يعسر على الناس في زمانه أو بيئته الالتزامُ به، فأرادَ إرشادَ الحاضر إلى تقليدِ مخالفٍ بشرطه .. فليُبَيِّن المذهبَ أولًا لمن أراده، ثم يبين بعد ذلك اختيارَهُ إن صَحَّ أن يكون لمثله اختيارٌ، أو إرشادَهُ إلى قول آخر خلاف المذهب مستوعبًا قيوده أو محيلًا على أهله، مميزًا ذلك الخارج عن المذهبِ بما يدلُّ على ذلك، مراعيًا ما يُناسب أن يلقى على المبتدئ مما لا يُناسبُهُ.

  • على أن المعتمد لا يُراد به المعتمد في الحكم فحسب، بل المعتمد جارٍ في أمورٍ أربعة:

الأولُ: المعتمد في الحكم، ويُعلم من كلام محققي أهل المذهب، فلا يعدل الشارح في مذهبنا عما اعتمده الرافعي والنووي، فإن اختلفا فالنووي، فإن أراد مخالفتهما، وكان أهلًا لهذه المخالفة، وأنى به .. فليميز مخالفته بعد حكاية ما اعتمداه، ولا تثريب عليه حينئذ، وإلا فعامة ما أورد على ما اعتمداه غير متجه، والفقه منه مشكل وغير مشكل، والإشكال والبحث لا يرد المنقولَ كما نصوا عليه.

الثاني: المعتمد في العلة، فالعلل منها صحيح، ومنها مضعف، وذكر العلة الضعيفة يوهم صحة التفريع عليها، لذلك بَيَّنَ أئمتنا العلل الصحيحة والعلل المضعفة في الشروح.

  • الثالث: معتمد في الاستدلال، وقد اعتنى أئمتنا بذلك، وأكثر من اعتنى به الإمام النووي رحمه الله، فلا يستدلُّ الشارحُ إلا بما اعتمدوا الاستدلال به، أو كان مستقيمًا على أصول الإمامِ الاستدلالُ به.
  • الرابعُ: المعتمد في الأصول إذا حكى مسألة أصولية، فبين أهل المذهب اختلافٌ كثيرٌ.

والأضربُ الثلاثة الأخيرة يتساهل فيها كثيرٌ من الناسِ، فيستدلُّ بما يحضرُهُ، ويعللُ بما يتبدَّى له وإن كان طرديًّا عندهم أو لم يخطر لهم على بال، ويحكى ما يحفظ من أصلٍ تلقاه عن تصنيفٍ أصوليٍّ شافعيٍّ دون تحريرٍ أهو معتمدٌ أو لا.

وختامًا، أسألُ الله أن ينفع بأخينا الدكتور علي، وأن يبارك له في تصنيفه، وأن يضع له القبول كما وضع لأصله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.