حصريا

اللغة الفصحى في استعمال غرض السُّكنى – د.محمد جمعة الدِّربيّ -مصر-

0 57

اللغة الفصحى في استعمال غرض السُّكنى

بقلم الدكتور محمد جمعة الدِّربيّ

المُحقِّق اللغويّ وعضو اتحاد كتَّاب مصر

في الرابع من شهر أغسطس 2025م الموافق العاشر من شهر صفر 1447ه صدر القانون رقم(164) لسنة 2025م بشأن بعض الأحكام المتعلِّقة بقوانين إيجار الأماكن وإعادة تنظيم العلاقة بين المؤجِّر والمُستأجِر”!(نطقَ المستشار المصريّ مرتضى منصور في أحد فيديوهاته المنشورة على صفحاته الإلكترونيَّة كلمة المؤجِّر بإسكان الهمزة وتخفيف الجيم من الفعل آجرَ وهو استعمال قياسيّ صحيح، والمشهور في اللهجة المصريَّة المعاصرة استعمال الفعل أجَّرَ، بالتضعيف). 

وليس من هدفنا هنا التعرُّض لشبهات عدم الدستوريَّة في هذا القانون ومنها انطواء المادة السابعة على مُصادرة لحقّ المستأجر- وذلك في حالة طرده من مسكنه- في وقْف أمر قاضي الأمور الوقتيَّة، فضلًا عن إغفال هذا القانون تنظيمَ الطعون على قرارات لجان تحديد قيمة الإيجار، واعتماده معيارًا تحكُّميًّا في تحديد مستوى العقار!(تُراجع الصفحة الفيسبوكيَّة للدكتور كمال الرخاوي المحامي لدى محكمة النقض ومحاكم الجنايات).

وليس من منهجنا أيضًا تخطئة الاستعمالات المعاصرة التي لها وجه في كلام العرب لا سيَّما الشائع من تلك الاستعمالات، ويمكن التمثيل باستعمال لفظ الاعتبار في الموادّ الرابعة والخامسة والتاسعة والعاشرة بمعنى الاعتداد بدلًا من معنى الاتِّعاظ الوارد في الاستعمال القرآنيّ؛ فهذا شائع في اللهجة المصريَّة المعاصرة على ألسنة الكتَّاب والمثقَّفين والمُتخصصين، وله أصول في بعض عنوانات التأليف العربيّ، وله حضور في ألفيَّة ابن مالك المشهورة في النحو العربيّ؛ فكيف يؤخذ على رجال القانون؟!وكيف يكون الاستعمال القرآنيّ حجَّة للنفي؟!(يُراجع: محمود محمد شاكر لُغويًّا- د.محمد جمعة الدِّربيّ- ضمن كتاب مجلة الربيئة الأول حول الشخصيَّات العلميَّة: محمود محمد شاكر ربيئة التراث- بإشراف أ.بن جدو بلخير ومُراجعة وتدقيق د.محمد جمعة الدّربيّ  ود.الزهرة هراوة وأ.عُمر ماجد السنوي- المكتبة العمريَّة ودار الذخائر- القاهرة ط1/2025م.ص63، 65).  

ومثل هذا يقال عن استعمال(حال) ظرفًا للزمان في المادة السابعة بلفظ:” …وحالَ الامتناع عن الإخلاء يكون للمالك أو المؤجِّر،بحسب الأحوال، أن يطلب من قاضي الأمور الوقتيَّة بالمحكمة الكائن في دائرتها العقار إصدار أمر بطرد المُمتنع عن الإخلاء دُون الإخلال بالحقّ في التعويض إن كان له مُقتضٍ”، وكذلك في المادة الثامنة بلفظ:”…وحالَ إعلان الدَّولة عن وحدات تابعة لها سكنيَّة أو غير سكنيَّة”؛ فالاستعمال صحيح؛ استنادًا إلى ما جاء في تاج العروس للزَّبيديّ(ت1205ه) من أن الحال لها بالظرف شَبَه خاص من حيث إنها مفعول فيها، ومجيئها لبيان هيئة الفاعل أو المفعول.(يُراجع لفظ (حال) في ترتيبه رقم 2029 من معجم الصواب اللغويّ للدكتور أحمد مختار عمر بمُساعدة فريق عمل كان د.محمد جمعة الدِّربيّ واحدًا منهم جـ1/309).

ومثل هذا يقال عمَّا ورد في المادة الثامنة بلفظ:”… إقرار بإخلاء وتسليم العين المستأجرة”؛ لأن العطف على المضاف قبل ذكر المضاف إليه مسموع في بعض الشواهد مثل:    ” قطع الله يدَ ورِجْلَ من قالها”.(تُراجع مسألة الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالعطف تحت رقم 272 من معجم الصواب اللغويّ للدكتور أحمد مختار عمر بمُساعدة فريق عمل كان د.محمد جمعة الدِّربيّ واحدًا منهم جـ2/890) ، وقد وُضِع في هذه المادة الثامنة وغيرها من الموادّ تنوين الفتح على الألف مثل:” مُرفقاً”، وهذا أيضًا ليس خطأ، وإن كان المشهور وضع التنوين على الحرف الذي يسبق الألف، ويجب الالتزام في النص القانونيّ الواحد بأحد الاختيارين.(يُراجع:نظرات في كتاب الأمثال القرآنيَّة للقَّاني- د.محمد جمعة الدِّربيّ- جـ1: 3 (العدد الفصلي الأول)- مجلة العرب- مركز حمد الجاسر- دار اليمامة للبحث والنشر والتوزيع- الرياض- السعودية ط/2022م. ص71).

ولا يسعنا كذلك التركيز على الانحرافات اللغويَّة في هذا القانون ومنها ما وقع في المادة الرابعة بلفظ:” اعتبارًا من موعد استحقاق الأجرة الشهريَّة التالية لتاريخ العمل بهذا القانون تكون القيمة الإيجاريَّة القانونيَّة للأماكن المؤجَّرة لغرض السكني(بالياء!) الخاضعة لأحكام هذا القانون والكائنة في المناطق المتميِّزة بواقع عشرين مثل(كذا بالجرّ والإضافة!) القيمة الإيجاريَّة القانونيَّة السارية وبحدٍّ أدنى مبلغ مقداره ألف جنيه، وبواقع عشرة أمثال القيمة الإيجاريَّة السارية للأماكن الكائنة بالمنطقتين المتوسطة والاقتصاديَّة وبحدٍّ أدنى مبلغ مقداره أربعمائة جنيه للأماكن المتوسطة، ومائتان وخمسون جنيهًا للأماكن الكائنة في المناطق الاقتصاديَّة”! فمن المعلوم أن ألفاظ العقود لا تضاف إلى المعدود؛ والصواب:” بواقع عشرين مِثلًا للقيمة“.(يُضاف هذا إلى: لغة القاضي والمفتي- د.محمد جمعة الدِّربيّ- العدد 31 – مجلة الربيئة- نادي الرقيم العلميّ- جمعية العلماء المسلمين الجزائريِّين- الجزائر ط/ 2025م، ويُراجع أيضًا: الضعفاء من رجال القانون، وثائق ومُذكِّرات في هدي اللِّسانيَّات- د.محمد جمعة الدِّربيّ).

ومن الخطأ أيضًا ما وقع في المادة الثامنة بلفظ:” يتمُّ الالتزام بتخصيص الوحدات السكنيَّة للمُستأجر الأصليّ للوحدة السكنيَّة الذي تحرَّر له عقد إيجار من المالك أو المؤجِّر ابتداءً، وكذلك زوجُه الذي(!) امتدَّ إليه العقْد قبل العمل بأحكام هذا القانون”! فالصواب والأدقُّ هنا استعمال الاسم الموصول(التي)؛ لأنه قرينة لغويَّة على أن المراد بالزَّوج هو الزوجة الأنثى.(تُراجع: تعقبات الأصمعيّ اللغوية، جمع ودراسة – د.محمد جمعة الدِّربيّ- ماجستير- كلية دار العلوم- جامعة القاهرة ط/2006م.ص197: ص201). ولو أراد المُشرِّع امتداد العَقْد من الزوجة الأنثى إلى الزوج الذَّكر؛ لوجب أن يقال: (وكذلك أحد الزوجين الذي…)

ولا يخفى الخطأ الواقع في المادة الثامنة نفسها بلفظ:” …وذلك بطلب يُقدِّمه المستأجر أو من امتدَّ إليه عقد الإيجار مُرفقا به إقرار بإخلاء وتسليم العين المستأجرة… …بمُجرَّد تقدُّمه بطلب مرفقاً(كذا بالتنوين على الألف خلافًا للمشهور!) به إقرار إخلاء الوحدة المستأجرة”! والصواب: ” مُرفَق” بالجرّ على أنها نعت لكلمة ” طلب”، ويجوز أن يقال:” مُرفِقًا به إقرارًا بإخلاء” بإعراب كلمة ” مُرفِقًا” حالًا منصوبة، وبإعراب كلمة “إقرارًا” مفعولًا به.  

ولكننا نقف عند استعمال(غرض السكنى) الذي وقع في عدَّة موادّ من هذا القانون:

ففي المادة الأولى من هذا القانون تصريح بسريان أحكامه”  على الأماكن المؤجَّرة لغرض السكنى والأماكن المؤجَّرة للأشخاص الطبيعيَّة لغير غرض السكنى وفقًا لأحكام القانونين رقمي 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجِّر والمُستأجِر“.

ثم جاءت المادة الثانية بلفظ:” تنتهي عقود إيجار الأماكن الخاضعة لأحكام هذا القانون لغرض السكني(كذا بالياء!) بانتهاء مُدَّة سبع سنوات من تاريخ العمل به، وتنتهي عقود إيجار الأماكن للأشخاص الطبيعيَّة لغير غرض السكني بانتهاء مُدَّة خمس سنوات من تاريخ العمل به…”.

ونصَّت المادة الرابعة على أنه:” …تكون القيمة الإيجاريَّة القانونيَّة للأماكن المؤجَّرة لغرض السكني(كذا بالياء!) الخاضعة لأحكام هذا القانون والكائنة في المناطق المتميِّزة بواقع…”.

واتجهت المادة الخامسة للأماكن المؤجَّرة لغير غرض السكنى بلفظ:” اعتبارًا من موعد استحقاق الأجرة الشهريَّة التالية لتاريخ العمل بهذا القانون تكون القيمة الإيجاريَّة القانونيَّة للأماكن المؤجَّرة للأشخاص الطبيعيَّة لغير غرض السكنى خمسة أمثال القيمة الإيجاريَّة القانونيَّة السارية”.

وللفعل (سَكَنَ) بمعنى أقام واستوطن مصدران، الأول: (سَكَنٌ) وهو استعمال مشهور في اللغة العربيَّة المعاصرة، والآخر:(سُكْنى) على وزن (حُسنى وسُوءى) وهو استعمال فصيح وقد يُستعمَل لغير المصدر بمعنى المسكن؛ فيقال:” أين سُكناك؟” ولكن(سُكنى) غير مشهور في العربيَّة المعاصرة!(يُراجع: ديوان الأدب للفارابي بتحقيق د.أحمد مختار عمر- 154 باب فعلى بضم الفاء جـ2/6، وتُراجع مادة(س ك ن) في معجم اللغة العربيَّة المعاصرة للدكتور أحمد مختار عمر بمُساعدة فريق عمل كان د.محمد جمعة الدِّربيّ واحدًا منهم جـ2/1088).

وقد كان ينبغي على المُشرِّع- وهو يصوغ هذا القانون- أن ينأى عن الاستعمال الفصيح غير المشهور، وبخاصة مع إيثاره استعمالات مُعاصرة أخرى مثل: ” اعتبار” بمعنى اعتداد، ومع فصله بين المضاف والمضاف إليه!

وقد أدَّى اختيار اللفظ الفصيح غير المشهور(السُّكنى) إلى اللَّبس في المادة الرابعة بلفظ:” لغرض السُّكْني(كذا بالياء!)”؛ لأن الياء قد تكون خطأ مطبعيًّا يُضاف إلى أخطاء مُراجعي القانون؛ وهذا هو الرَّاجح، وقد تكون الياء مقصودة بمعنى( لغرض الاستعمال السَّكَنيّ) من باب حذف المنعوت مثل قول الله تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ) ]القصص: 44[ ؛ أي: بجانب الجَبَل الغربيّ!

وبعد؛ فإنَّ القوانين- وكذلك الدَّساتير- يجب أن يصوغها رجال القانون المُتحدِّثون بفصحى العصر، وأن يُراجعها المُتخصصون في اللغة المهتمُّون بالقانون؛ كي تُفتَح الأبواب لإثراء الدِّراسات البينيَّة بين اللغة والقانون.    

 

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.