اللحن القرآني في الأداء الفني – د.محمد جمعة الدربي -مصر-
- اللَّحْن القرآني في الأداء الفنِّي
بقلم الدكتور محمد جمعة الدِّربيّ
المُحقِّق اللغويّ وعضو اتحاد كتَّاب مصر
لا أحد يُنكر تأثير الفنّ على الجماهير؛ فربَّما يفعل المشهد الدِّراميّ أو السينمائيّ في الذاكرة ما لا تفعله الكتب والمجلَّات!
وقد أدرك رجال الفَنّ قديمًا قيمة أعمالهم؛ فكان منهم الأديب والشاعر، بل كان منهم الغَيور على اللغة العربيَّة مثل الفنَّان المُمثِّل المصريّ عبد الوارث عسر الذي ألَّف كتابًا سمَّاه:” فَنّ الإلقاء”!(يُراجع: http://mktba22.blogspot.com.eg/2015/11/pdf_946.html)
وفي الأداء الفنيّ المصريّ- وأقصد الدِّراما والسينما- نماذج مُشرِّفة للحفاظ قدر الإمكان على سلامة اللغة العربيَّة؛ ولكنَّ الضعف اللغويّ العامّ الذي أصاب لُغة القضاة والمُفتين ولحِق أيضًا كتابات وأحاديث بعض المُتخصصين في اللغة العربيَّة، يستدعي التوقُّف عند لغة الأداء الفنِّيّ المصريّ!(يُراجع: لغة القاضي والمفتي- د.محمد جمعة الدِّربيّ- العدد 31- مجلة الربيئة- نادي الرقيم العلميّ- جمعية العلماء المسلمين الجزائريِّين- الجزائر ط/2025م).
ولا مَدعاة لاستفاضة الحديث عن أخطاء السياق غير اللغويّ التي ترتبط بصدق المنطوق في الأداء الفنِّيّ مثل: مجيء الفنَّان المصريّ ياسر جلال في مسلسل(ضِلّ راجل) يتلقَّى مُكالمة هاتفية بموبايل مقلوب! ومثل ظهور الفنَّان المصريّ أحمد مكي في مسلسل (الاختيار 2) وفي يده موبايل موديل 2017م، على الرَّغم من أن أحداث المسلسل تتناول عام 2013م! ومثل مُسلسل (ملوك الجدعنة) الذي جسَّد فيه أحد الفنانين دور أمين شرطة ممتاز أول، مع ظهور الشارة على كتفه تحتوي على أربعة شرائط أو كتَّافات بدلًا من ثلاثة! (يُراجع جمع شريط على شرائط في معجم اللغة العربيَّة المعاصرة للدكتور أحمد مختار بمُساعدة فريق عمل كنتُ واحدًا منهم).
ولا مَدعاة أيضًا للوقفة الطويلة هنا عند اللَّحن في كتابة عناوين الأفلام والمُسلسلات؛ ومُعظم اللَّحن- أو التصحيف- في كتابة التاء المربوطة بدون نقطتين؛ فتختلط بهاء الضمير؛ ففي معظم الأفلام المصريَّة يُكتَب اسم الفنَّانة فاتن حمامه (كذا!) بالهاء غير المنقوطة! ويمكن التمثيل كذلك بفيلم(حدثَ ذات ليله!)، وفيلم (ليلة الدُّخْله!) بطولة الفنَّان المصريّ إسماعيل ياسين؛ ونلاحظ هنا إثبات النقطتين في كلمة(ليلة)، وإسقاطهما في كلمة(الدُّخلة)!
ومن اللَّحن- أو التصحيف- الخلط بين همزة القطع وألف الوصل؛ ومثاله فيلم:(اشاعة حب) بطولة الفنَّانة المصريَّة سعاد حسني، وفيلم (اماني(!) العمر) بطولة الفنَّانة المصريَّة ماجدة، وفيلم (إمرأة(!) زوجي) بطولة الفنَّان المصريّ صلاح ذو الفقار، وفيلم (انا(!) العدالة) بطولة الفنَّان المصريّ حسين صدقي! ومسلسل (الإختيار(!))بطولة الفنَّان المصريّ أمير كرارة، وقد حظي بإعجاب المشاهدين في شهر رمضان عام 2020م تقديرًا للشهيد المصريّ أحمد منسي ورفاقه في معركة البرث، ولم يتكرَّر الخطأ في تتر الجزء الثاني من المسلسل(الاختيار 2) الذي عُرض في شهر رمضان 2021م؛ ولا ندري هل تمَّ الإصلاح بناء على مُراجعة لُغويَّة أو من قبيل المصادفة؟! مع الاعتراف ببقاء الخطأ في بعض الإعلانات عن الجزء الثاني!
وقد يقع اللَّحن- أو التصحيف- نتيجة الخلط بين العاميَّة والفصحى مثل: فيلم (أغلى من عينيّه(!)) بطولة الفنَّانة المصريَّة سميرة أحمد ومعها الفنَّانان المصريَّان عمر الحريري وحسين رياض؛ وهنا خطأ فاحش بإضافة الهاء! ومثل مسلسل(عمو(!) فؤاد) بطولة الفنَّان المصريّ فؤاد المهندس، وفيلم (صباحو(!) كدب) بطولة الفنَّان المصريّ أحمد آدم: وهذا خلط بين لغة الكتابة التي يجب أن تكون بالفصحى ولغة العاميَّة المصريَّة؛ حيث يقول عوامّ المصريِّين: عمُّو حضَر ولا غاب؟ وهنا يجب أن نحذِّر من استعمال الكلمات العاميَّة في العناوين مثل: فيلم البنات عايزه(!) إيه(!) بطولة الفنَّانة المصريَّة سهير رمزي، ومثل مسلسل(في ال لالالاند(!)) بطولة الفنَّانة المصريَّة دنيا سمير غانم ومعها الفنَّان المصريّ محمد سلام، ومثل ذلك يقال عن فيلم:(أصحاب ولَّا أعز)، وفيلم:(ما يبانش عليك)، ومسلسل:(يوميَّات زوجة مفروسة أوي)، ومُسلسل: (الكبير أوي)!
وقد كان التهاون الكِتابيّ سبيلًا إلى اللحن في نطق الفنَّانين؛ ولعلَّ أشهر لَحْن في السينما المصريَّة هو قولُ الفنَّان المصريّ عبد الفتاح القصري في فيلم ابن حميدو:
لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ منَ الأذَى حتى يراقَ على جوانبه الدَّمَ(!)
ولا يخفى الخطأ؛ لأن الكلمة الأخيرة نائب فاعل؛ فالميم مضمومة حسب قواعد النحو. وإذا وقع اللَّحْن في بيت مشهور للمتنبي؛ فماذا يكون نصيب الأخطاء في أبيات أخرى؟!
ومثله ما وقع في فيلم المراية- والصواب المرآة أو المرايا- حيث قام الفنَّان المصريّ عبد المنعم إبراهيم بدور الشيخ الأزهريّ الذي يجمع بين الجِدِّيَّة والكوميديا فقال:” تعلَّمتُ اللغاتَ(!) كلَّها”!
ولا يخفى على المُبتدئين في النحو أن المجموع بألف وتاء يُنصَب ويُجَرُّ بعلامة الكسرة!
ومثله قول الفنَّان المصريّ عادل إمام في فيلم الأفوكاتو: ” سيدي الرَّئيس حضراتَ(!) المستشارين… …إذا كان ربُّ البيتِ بالدُّفِّ ضاربٌ(!) فماذا يفعل…”!
ونلاحظ هنا- بجانب الخطأ في حركة المجموع بألف وتاء- الخطأ في الإعراب برفع ما حقُّه النصب خبرًا للناسخ، ونلاحظ الجرأة على نص البيت بالتغيير والتبديل؛ وهذا يُوهم بعض المثقفين غير المتخصصين في الأدب العربيّ أن النص الذي ينطقه عادل إمام هو النص الحقيقي للبيت الشِّعريّ!
ومثل ذلك يقال عن خطأ الفنَّانة المصريَّة داليا البحيري في مُسلسل:(يوميَّات زوجة مفروسة أوي)؛ حيث أخطأت في إحدى الحلقات في نطق بيت شِعر للأعشي:(… …مصقول عوارضها)، وفي بيتين لامرئ القيس!!
ولعلَّ أفحش اللَّحْن النطقيّ ما يقع في نطق الآيات القرآنيَّة؛ ويكفي التمثيل بخطأ بطلة فيلم (الشيخ حسن) في حوارها مع الفنان المصريّ حسين صدقي حين أسلمَتْ وقالتْ له على فراش الموت:” إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمَنوا(بفتح الميم!) بالله ورسله”! والصواب: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)(النساء: 171).
ومثله خطأ الفنَّانة المصريَّة نبيلة عبيد في فيلم:(رابعة العدوية)؛ حيث قالت:” إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه غفور(!) رحيم(!)” والصواب: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
ومثل ذلك ما وقع في مسلسل:(كلبش) بطولة الفنَّان المصريّ أمير كرارة؛ حيث جاء على لسان القائم بدور الشيخ صالح للقائم بدور عطية الدجال:(وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) كذا بزيادة واو؛ والصواب: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 249).
وقد يصل اللَّحن القرآنيّ إلى زيادة كلمة أو أكثر مثل قول الفنَّان المصريّ محمد مرسي في الجزء الثاني من مُسلسل: (أبو العلا البشري): “يقول الله تعالى في كتابه العزيز: إن الله يغفر الذنوب جميعًا إلا أن يُشرَك به، ويقول كمان[تعني بالعاميَّة المصريَّة:أيضًا] إن الله يغفر الذنوب جميعًا ولو كانت مثل زَبَد البحر، صدق الله العظيم”! والذي في القرآن الكريم:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) (النساء: 48)، وفيه أيضًا:(إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53)؛ فانظر إلى الخلط بين القرآن والحديث؛ حيث جاء في الحديث النبويّ الشريف:” من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حُطَّت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر”(فتح الباري- الحديث رقم 6405).
بل وصل اللحن القرآنيّ في بعض الأعمال الفنيَّة إلى حدّ ادِّعاء بعض الآيات القرآنيَّة التي لا أثر لها في ألفاظ مصاحف المسلمين مثل قول الفنَّان المصريّ حسين رياض في فيلم: (أسرار الناس):” يا هانم، قال الله تعالى في كتابه العزيز: الجنَّة تحت أقدام الأمَّهات؛ ودا في حدّ ذاته أعظم تكريم للأمّ”!! وفي فيلم:(زوج تحت الطلب) جاء على لسان القائم بدور المأذون الشرعيّ ذي العمامة الأزهريَّة في مشهد أمام الفنَّان المصريّ عادل إمام القائم بدور ممدوح:”…مكروهة كراهة التحريم… الطلاق حلال لكنَّه بغيض عند الله؛ يقول الله سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، إن أبغض الحلال عند الله الطلاق، صدق الله العظيم”!! ولا يزال كثير من العوامّ وبعض المثقَّفين يتوهَّمون فعلًا أن هذين القوليْن من القرآن الكريم!!
وبعد؛ فهذه النماذج قليل من كثير؛ والتصحيف واللَّحْن مظهران للضعف وسوء المراجعة اللغويَّة والدِّينيَّة، وإن كنَّا نرى أن التصحيف أقسى مرارة وأشدُّ وقعًا! ولا تعني النماذج السابقة أن الأمل في الإصلاح مفقود، ولكنها تنبيه للقائمين على السينما والدِّراما المصريَّة التي رأينا فيها مُتحدِّثين مُجيدين أو مُحبِّين للفصحى، ويكفي أن تسمع قصيدة (الكلمة) لعبد الرحمن الشرقاوي بأداء رائع لأربعة فنانين مصريِّين هم محمود ياسين، ونور الشريف، وعبد الله غيث، وسهير المرشدي)، وإن تفاوتوا في نطق دال كلمة (الصيادين) تفخيمًا وترقيقًا.
ويجب التعاون بين المجامع اللغويَّة العربيَّة وبين القائمين على السينما والدِّراما؛ وقد فطِن إلى هذا مجمع اللغة المصريّ؛ حيث أقام في الموسم الثاني من البرنامج الثقافيّ يومَ السبت الموافق الحادي والعشرين من شهر شعبان عام 1440ه والسابعَ والعشرين من شهر إبريل عام 2019م ندوةً بعنوان(اللغة العربية والدِّراما التليفزيونية) استضاف فيها الفنان المصريّ أشرف عبد الغفور، وأدارها الدكتور محمد العبد عضو المجمع، وتحدَّث فيها الدكتور صلاح فضل عضو المجمع.
ولكن هذا لا يكفي؛ وننتظر المزيد من النَّدوات والمؤتمرات والمقالات والبحوث التي تناقش الأخطاء اللغويَّة في السينما والدِّراما نطقًا وكتابة؛ فهل من غَيور مُجيب؟!