ابن تيمية وابن القيم… أعلام الفكر الاقتصادي الإسلامي – أ.سارة فؤاد -مصر-
ابن تيمية وابن القيم… أعلام الفكر الاقتصادي الإسلامي
في الوقت الذي تنشغل فيه الدول والمجتمعات الحديثة بالبحث عن حلول للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يلفت الانتباه ما قدّمه علماء المسلمين الأوائل من اجتهادات عميقة ومتكاملة في هذا المجال. من بين أبرز هؤلاء يأتي اسما ابن تيمية وابن القيم، اللذان أرسيا قواعد فكر اقتصادي إسلامي متماسك سابق لعصره، يجمع بين مبادئ الشريعة وروح العدالة وواقعية السوق.
الاقتصاد الإسلامي كمنظومة متكاملة
الاقتصاد الإسلامي ليس مجرد منظومة مالية منعزلة، بل هو جزء من النظام الإسلامي الشامل الذي يهدف إلى تحقيق مقاصد الشريعة الخمس، وعلى رأسها حفظ المال، من خلال تنظيم سلوك الأفراد في المعاملات المالية، وضبط الأسواق، وتوزيع الثروة بطريقة تحقق العدالة والتكافل.
من هذا المنطلق، جاءت إسهامات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، لتُجسّد هذا التوازن الدقيق بين الحقوق والواجبات، بين الحرية الاقتصادية والضبط الأخلاقي.
ابن تيمية: هندسة اقتصادية في إطار الشريعة
كان ابن تيمية (661–728هـ) فقيهًا ومفكرًا موسوعيًا، وأحد أبرز المجددين في الفقه والفكر الإسلامي. وقدّم اجتهادات مهمة في قضايا السوق والأسعار، وحقوق الملكية، والعدالة الاقتصادية.
1ـضبط السوق ومفهوم الحسبة
في كتابه “الحسبة في الإسلام”، يوضح ابن تيمية أن من واجبات الدولة مراقبة السوق لمنع الغش والتلاعب، وضمان استقرار الأسعار. فترك السوق دون رقابة قد يؤدي إلى فساد كبير وتلاعب يضر بالمجتمع، خصوصًا الضعفاء.
قال “ويأمر المحتسب بالجمع والجماعات وبصدق الحديث وأداء الأمانات، وينهى عن الكذب والخيانة وتطفيف المكيال والميزان والغش في الصناعات والبيع.”
2ـ القيمة والثمن والتسعير
فرّق ابن تيمية بين الثمن (سعر البيع والشراء) والقيمة (العدل السوقي)، وأجاز التسعير إذا أدى تركه إلى ظلم أو احتكار فالسعر قد يتغير، لكن القيمة يجب أن تُراعى دائمًا لتحديد ما هو عادل.
ويستند ابن تيمية علي قاعدة أن الأصل حرية السوق ،وترك الأسعار تتجدد عن طريق قوي السوق ولا تدخل إلا عند الضرورة ،ويقسم رحمه الله التسعير إلي نوعين :
1 ـ ظلم محرم ،وذلك عندما يتم إكراههم بغير الحق علي سعر لا يرضونه .
2ـ عدل جائز،وذلك عندما يتضمن العدل بين الناس وإكراههم علي ما يجب عليهم بثمن المثل .
وأكّد أن الأصل هو حرية السوق، لكن إذا وقع ظلم أو احتكار، وجب على ولي الأمر التدخل.
3ـ العدالة والملكية
يرى أن الملكية الخاصة مشروعة، لكنها مقيّدة بعدم الإضرار بالآخرين. فالغني يجب أن يُسهم في رفاهية المجتمع، والمال أمانة من الله لا يجوز استعماله بطريقة تضر بالفقراء.
“المال مال الله، والناس مستخلفون فيه.”
ابن القيم: روح الشريعة في الاقتصاد
أما ابن القيم (691–751هـ)، فكان تلميذًا نجيبًا لابن تيمية، وأكمل مسيرته في ترسيخ أسس الفكر الاقتصادي الإسلامي، مع تركيز أكبر على البُعد الاجتماعي والروحي.
1ـالزكاة والوقف
أكّد ابن القيم أن الزكاة ليست فقط فريضة دينية، بل أداة اقتصادية لتوزيع الثروة وتحقيق التوازن الاجتماعي.
“الزكاة تطهّر المال وتزيده، وهي وسيلة لقطع دابر الفقر من جذوره.”
كما اهتم بالوقف، واعتبره مؤسسة اقتصادية دائمة، تضمن استمرار الخدمات العامة مثل التعليم والصحة.
2ـ الأمانة في المعاملات
قال إن الصدق والأمانة في البيع والشراء، أساس قيام سوق مستقرة، وإن المعاملات الفاسدة تضر بالاقتصاد وتفقد الثقة.
“العدل الذي قامت به السماوات والأرض، هو ما جاءت به الشريعة.”
3ـ الربا والعمل
رفض الربا بشدة، واعتبره من أسباب الفقر والاستغلال، ودعا إلى بدائل مثل المضاربة والمرابحة. كما شدد على قيمة العمل الشريف، قائلاً إن الكسب من الحلال هو عبادة.
4ـ التسعير
نهج ابن القيم نهج شيخه في هذا الأمر بجواز التسعير ، ويقسم رحمه الله التسعير إلي نوعين :
1 ـ ظلم محرم ،وذلك عندما يتم إكراههم بغير الحق علي سعر لا يرضونه .
2ـ عدل جائز،وذلك عندما يتضمن العدل بين الناس وإكراههم علي ما يجب عليهم بثمن المثل .
مقاربات بين العالمين
كلاهما:
رفض الربا.
دعم العدالة في السوق.
طالب بمراقبة الدولة للأسعار عند الحاجة.
أكدا على التكافل من خلال الزكاة والوقف.
لكن ابن القيم توسع أكثر في الجوانب الاجتماعية والتنموية، بينما ركّز ابن تيمية على الضبط المؤسسي للسوق.
التطبيقات المعاصرة لأفكارهما
تُعد أفكار هذين العالمين مصدر إلهام للبنوك الإسلامية، وأنظمة التمويل الشرعي، كالمضاربة والمرابحة ومؤسسات الزكاة والوقف المعاصرة. بل إن كثيرًا من المبادئ التي تحدثا عنها، مثل التسعير العادل وتحقيق التوازن بين العرض والطلب ومحاربة الاحتكار، أصبحت اليوم جزءًا من الأدبيات الاقتصادية الحديثة.
خاتمة
قد لا يُنظر إلى ابن تيمية وابن القيم اليوم كمجرد فقهاء، بل كمفكرَين اقتصاديين أسسا لنموذج اقتصادي إسلامي متكامل،فكرهما يدعو إلى اقتصاد أخلاقي، واقعي، وإنساني، يحقق التوازن بين السوق والمجتمع، بين الفرد والدولة، وبين المصلحة الخاصة والصالح العام.
في ظل الأزمات العالمية، من المهم العودة إلى هذا الفكر العميق والرصين، الذي يجمع بين روح الشريعة ومصلحة الإنسان.
المراجع:
- ابن تيمية، الحسبة في الإسلام، مطبعة الفيض، بغداد، 1946.
- ابن تيمية، مجموع الفتاوى، المكتبة التوفيقية.
- ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق محمد حامد الفقي، دار ابن القيم، بيروت.
- ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، مكتبة نور.
- العامايدة، التسعير والأثمان في فقه شيخ الإسلام ابن تيمية، مجلة الفكر الإسلامي المعاصر، العدد 22، ص 200.
- المبارك، آراء ابن تيمية في الدولة ومدى تدخلها في الاقتصاد، دار الفكر، 2022.
- فتحي، فقه الزكاة في فكر ابن القيم، مكتبة نور.
- عبد الرحمن، فكر ابن القيم حول العمل، مكتبة نور.
- دراز، العدالة الاجتماعية في الإسلام.
- عاشور، الحسبة الاقتصادية في الفكر المالي لابن تيمية، 2018.
- Azim Islahi, Economic Concepts of IbnTaimiyah, 2016.