هَزيْلَة وَسُمْنَة (من وحي صمود غزة وبطولتها)- أحمد عطية السعودي -الأردن-
هَزيْلَة وَسُمْنَة (من وحي صمود غزة وبطولتها) بقلم: د. أحمد عطية السعودي الأردن ••••••••••••••••••••••• ١ باب الْجَمَل خائر القوى ————————— • إضاءة: أيها الأحبة الكرام، قرأتم كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع، وقرأتم أن دَبْشَليم الملك كان يسأل بَيْدَبا الفيلسوف أن يضرب له الأمثال في شؤون الحياة. • واليوم مع اندلاع أعنف حرب في التاريخ، وأفدح ظلم وقع على البشر والحجر، بُعِثَ الملك (بَطْشَ أليم)، والفيلسوف (عُبَيْدَبَا) على شاكلة أخرى، هذا وصفها، وهذا رصفها. ………………………… قال ابن الْمُرَقَّع في كتاب هَزيْلَة وَسُمْنَة: زعم مؤرخو الإنس أن عُبَيْدَبَا الفيلسوف دخل مُلَثَّمًا على بَطْشَلِيْم الملك في قصره الباذخ في بلاد الهند، فقال له: أيها الشَّاه، قائد الدروع والمُشَاة، وحالب الجيوب وَالشَّاء، إن في جَعْبَتي قصصا طريفة، وحكايات ظريفة، فهل تأذن لي في أن أحدثك، وأُمَتِّع بها سمعك، فذلك عَسِيُّ بإصلاح الحال، وإراحة البال. قال بَطْشَلِيْم الملك، وقد أدلع لسانه، وأرخى آذانه: قل أيها الفيلسوف، ولا تَحِدْ عن الخط المعروف، وإلا فسوف تبكي على شبابك المأسوف، وريشك المنتوف! والآن، أمط اللثام، واضرب لي مثل العدو يتسلط على العاجزين عن ردعه؛ فيأخذ أرضهم، ويهجرهم، ويقذف بهم إلى تيه الشتات، بأرض غير ذات نبات. قال عُبَيْدَبَا الفيلسوف: زعموا أن واحة بأرض الشام، كثيرة الظباء والأنعام، مُتْرَعَة بالزرع والضرع، فيها لبن، وعسل، وسمن، قد عاش حيوانها في أمن مقيم، ورخاء ونعيم، فطمعت فيها ذئاب مسعورة، بأسها بينها شديد، ولا يردعها إلا الحديد. فانبعثت من غابات شتى، فاستولت على الواحة إلا بقعة، وجعلتها حمى لها، وأعلنت أنها وطنها، تموت فيه، وتحيا. ثم بعد النكبة والنكسة، اجتمعت طائفة من الأنعام والظباء في قطب الجليد بمكان بعيد، هناك في مدينة يقال لها “أَيشْ لُهْ” . فتشاورت، وتحاورت، ثم أعلنت على لسان الجمل، والظبي، وَالْحَمَل أن لا طاقة لها بهذه الذئاب، ولا بتحمل العذاب، فأذعنت للتطبيع، والوشاية بمسلك القطيع، وَعَدَّت التنسيق أقدس الأقداس، وأغلى من الذهب والماس! قال بَطْشَلِيْم الملك، وقد أشاح وجهه، وَهَمَّ بالبصق على نعله، وغطى أنفه كمن شم رائحة كريهة: تعسا، لهذا الجمل، وما حَمَل، كيف يأمن عدوه، ولا يقاومه؟! قال عُ بَيْدَبَا الفيلسوف: أيها الملك، مَن يَهُن يسهُل الهوانُ عليه ما لجُرحٍ بميتٍ إيلام! هَزيْلَة وَسُمْنَة ٢ باب الثعلب كِيسْخَنْجَر —————————– • قال بَطْشَلِيْم الملك: أيها الفيلسوف، اضرب لي مثل الخبيث يتلاعب بالجمع الغفير، ويُخَدِّرهم أشد تخدير، ويُخَذِّلهم، ويسحب البساط من تحت أرجلهم. • قال عُبَيْدَبَا الفيلسوف: زعموا أنه كان في أقصى الأرض، وراء البحار، بلد واسع المساحة، كثير الخلق، وكان يتنعم فيه ثعلب ذو خطر ، قد جمع مكر العالم كله، دِقَّهُ وَجلَّهُ، فَلُقِّب بكِيسْخَنْجَر؛ لكثرة الخناجر التي يحملها في كيسه، ويطعن بها خصومه. وكان الثعلب يواد الذئاب المسعورة، ويذود عنها، ويحتال لها؛ ليكون لها الوجود المضمون، وليضفي عليها شرعة القانون. وكان إذا عُقِدَ مجلس أمن الحيوان؛ ليدين الذئاب على النهش بالأنياب، وهدم الحظائر بالحراب، رفع يده واحتج، وأرغى وضج، فمنع الإدانة، وأقر الإهانة. وكان يجول على حظائر الأنعام والظباء في جوار الواحة المسلوبة، ويحذرها من عواقب الغزو، وينذرها من عدم العفو، فتسمع قوله، وترضى بحكمه. • قال بَطْشَلِيْم الملك: وكيف كان ذلك؟ • قال الفيلسوف: في ذات عشية اجتمع الثعلب بالكبش المهيمن على أكبر حظيرة، فقال له: أيها السيد الأنيق، والحكواتي المنطيق، وحامل الغليون، وصاحب القرون، إلام طول الخصام، وخسارة الأرواح والأجسام؟ قال الكبش: سعادة الثعلب المبجل، إنك تعلم أن الذئاب أخذت منا البلاد، وعاثت فيها بالفساد، فنحن نتصدى لها بكل عتاد. قال: اسمع يا كبش، المرعى يسع الجميع، ويسمن أي قطيع، والأرض لله، وأنا أخاف الله، فلا أجور على أحد، بل أقف على مسافة واحدة، وأضع الوتد. قال الكبش: وتقسم على ذلك؟ قال: أستغفر الله، وهل تراني شريرا لا يرعى المواثيق، وغَدَّارا يزرع الخوازيق؟! أيها الكبش، تذكر أنك ومن معك أضعف من الزجاج، وأجبن من الدجاج، فالزموا جحوركم، واعلموا أن لا خلاص لكم إلا بالسلام، وأنا أعدكم وعد الصدق بالعشب الوفير، والماء الغزير. ثم أخرج لِحَاء شجرة، وَفَحْمَة، وأمره بالتوقيع، فَوَقَّع، وَفَرّ من الحظيرة، وما رجع! ثم إن الكبش زار المنتدى الذي تعوي فيه الذئاب، وألقى فيه أبلغ خطاب: لا عداوة بعد اليوم مع الذئاب والبوم! وعلى إثر ذلك مُنِحَت الجوائز ، وكثرت الحواجز، وعادت الذئاب تفترس الخرفان والجديان، دون زاجر، ولا ناهر. • قال بَطْشَلِيْم الملك: اللعنة، اللعنة، فكيف لو يعيش هذا الثعلب مائة سنة؟! • قال عُبَيْدَبَا الفيلسوف: قد عاش أيها الملك، هذه المائة، ثم انتكس، وَفَطَس، فشيعته ذئاب الأرض إلى مزبلة التاريخ! هَزيْلَة وَسُمْنَة ٣ باب الغزالة وقلبها الفولاذي! ———————————- • قال بَطْشَلِيْم الملك: أيها الفيلسوف، اضرب لي مثل الحر الأبي، يغير عليه العدو، فيتصدى له، وينال منه نيلا عظيما، ويلقنه درسا لا ينساه إلى يوم القيامة. • قال الفيلسوف: زعموا أن غزالة في عصر التَنَك والخُرْدَة كانت تسكن في قرية في تلك الواحة المسلوبة على ساحل البحر، وكان آمنة مطمئنة، غير أنها خافت على أولادها الشوَادِن من الذئاب المسعورة؛ فحفرت لهم حُفَرًا تحت الأرض، وجعلت فيها مؤونتهم، وسهاما ونبالا يدفعون بها عن أنفسهم. وكان قلب غزالة من فولاذ؛ لا يرضى الضيم، فأعدت العدة، وباغتت الذئاب المسعورة ذات صباح بوابل من النبال والرماح؛ فأثخنت فيها القتل والجراح، ثم عادت إلى حُفَرِهَا موفورة الأرباح. • قال بَطْشَلِيْم الملك: فما جرى بعد ذلك لغزالة؟ • قال الفيلسوف: حشدت الذئاب المسعورة حشودها، واستعانت بالعجوز الخرف وحيد القرن؛ فأمدها بالكلاب الضالة المدربة على شرب الدم، وبألف ألف سيف، ورمح، ومنجنيق. ثم عَدَتْ عليها الذئاب الهائجة، كأشرس ما يكون الْعَدْو، وأغارت عليها كأفظع ما تكون الغارة، ووغلت في دماء صغارها، وهدمت أكواخها، وردمت ينابيع مائها، وقطعت أشجار غذائها، واستفردت بها، تعوي عليها، وتنهش أشلاءها. • قال بَطْشَلِيْم الملك: أما كان لغزالة إخوة تستنجد بهم، فيهبون لنصرتها هبة غزال واحد، فَيَطْلُعون على الذئاب طلوع المنايا، فتطير هباء، وتصير سدى؟ • قال الفيلسوف: كان، ولكنهم غثاء سيل، وجعجعة بلا طحن، وهم كقبيلة تيم من بني البشر: وَيُقضى الأَمرُ حينَ تَغيبُ تَيمٌ وَلا يُستَأذنونَ وَهُم شُهودُ! • قال بَطْشَلِيْم الملك: إن الأخوة حين يتخلون عن أختهم؛ يلحق بهم العار، ويأتي عليهم “الدور”، فكما أُكِلَ الثور الأبيض سيؤكل كُلّ ثور!