هذا الانسان وذلك البيان – أ.وجدان العلي
[cl-popup title=”ترجمة الكاتب” btn_label=”ترجمة الكاتب” align=”center” size=”s” paddings=”” animation=”fadeIn”]الشاعر سيد بن علي عبد المعين، “وجدان العلي”، وُلد في مصر، وتخرج في كلية الآداب قسم اللغة العربية جامعة القاهرة، وتتلمذ لطائفة مِن أهْل العلْم بالعربيَّة والحديث والفِقْه، واتَّصل سببه بأبي فهر محمود محمد شاكر، ولزم بيته أكثر من خمس سنوات، ولديه إجازة الحديث بالسنَد مِن العلاَّمة الدكتور أحمد معبد عبدالكريم، وعمل في ميدان التحقيق التُّراثي والدعوة إلى الله، والأدب والكتابة، وله مقالات ومشاركات متنوعة علميَّة وأدبيَّة بالشبكة وغيرها.
من مواليد الحادي عشر من شهر يونيو 1979م
الدرجة العلمية : ليسانس اللغة العربية من كلية الآداب جامعة القاهرة.[/cl-popup]
هذا الانسان منذ أطل من شرفة البدء صغيرا، إلى أن تبلى فيه الحياة وهو يحاول ملامسة هذا الوجود ومصاولة أسراره، ومكاشفة غيوبه، وقرائته قراءة دائمة لا تنقضي بتفاوت الناس فيها فهما ووعيا وإبانة، تفاوتا لا ينتهي
وهذا العالم كله مبني على أساس “الكلمة” ومتى استقام للإنسان هذا الأصل الزكي، وتلقاه بسقيا الحب والرعاية، وكدّ التحصيل، وتخلية النفس من أوشاب العجمة كانت رؤيته لهذا العالم وناسة، ولتلك النفوس وأطوائها، أوسع حدقة وأرحب أفقا، وأكثر التصاقا بالفطرة الانسانية في صفائها الأول العتيق.
حتى إنه ليطالع الكلام – لم يبصره من قبل – ويسمع القصيدة -لا يعرف صاحبتها – فيبصر وجهه. وقسمات روحه. ومعالم نفسه. باكيا كان عند كتابته أو متصنعا، عابسا أو متجهما، خائفا يأتي ما يأتي على عجل، أو مطمئنا لا يستخفه شيء، ذا دخيلة سوء، أو خبيئة خير، وما له به من علم، إلا ما قرأ من بيانه، وما ذلك إلا لأن البيان _ملفوظا ومكتوبا_ “رشح الروح” الذي لا تخطئه بصيرة من تضلع بأسراره، وأحسن الإصغاء لوقعه على النفس البشرية.
وما مررت بكلمة اليهودية زوج كعب بن الأشرف، وهي تسمع صوتا مجردا من ذي قرابة غير عدو “أخ من الرضاعة” في هدأة الليل.. فتأبى إلا أن تقول: “أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم” وتلك كلمة غريبة، تدلك على هذا المعنى الجليل
فهذا الصوت المجرد، بادي الرأي، تلاقت أصداؤه الموحشة في تلك الروح المتوهجة المغموسة في تنور الخوف والحذر والحيطة الذي نضجت فيه نفسها اليهودية، في مجتمع ثقف معنى الغدر، وبوادره ونفثه الغامض المميت، وهمسه الفاتك، وكل ما يتصل به، ولو بسبب خفي بعيد.
إنه البيان.. أخصّ خصائص النفس البشرية التي تكشف معدنها وتريك حقيقة ما بها، بلا حجاب أو كساء.
وإذا علمت هذا الأصل الشريف، علمت أن محاولات صرف الناس عن البيان، هي في الحقيقة محاولات “لقتل” معنى “الإنسان” فيهم، مما يجعل تفسيرهم للنفوس والدنيا والكون والوجود وحقائق الأشياء والألفاظ تفسيرا شائهًا مختلا، فيكون تواصلهم مع العالم تواصلا ناقصا، مختلفا عن الأخذ بأسباب الحضارة التي هي ” التفاعل الحيّ التام للإنسان مع الكون ومن فيه”، لأن كل ما ترى من بنيان وإنسان وحيوان، ما غاب وما حضر، وما سرى في زوايا العقل من أفكار ورؤى وأحلام، كله “كلمات” في الحقيقة، يفسرها بعض الناس تفسيرا صحيحا، ويتعامل معها تعاملا مستقيما لاستقامة البيان، وحسن الإصغاء لكلمات الوجود، ويلتوي تفسير بعضهم لها التواءً يهوي بصاحبه إلى درك العجمة، ولهذا تفصيل طويل جدا
ومن هنا كان هذا وجها من وجوه النعمة الالهية الجليلة في معجزة القران، فالاتصال الإنساني بالبيان الإلهي الذي وسع الكون والحياة والمصير وحركة النفس الإنسانية، يجعله أكثر استيعابا لحركة الكون، وأكثر فهما لأسراره، وأكثر إبداعا ورقيا وجمالا..
وانظر ذلك الفصل النفيس الذي كتبه العلامة البشير الابراهيمي رحمه الله تعالى في “رسالة الضب” عن شعور العربي القديم، ونفاذ بصيرته، وتغلغله في روح الأشياء من حوله، وإبانته الشريفة عن الصحراء، وما جاشت به نفسه من روائع الفلسفة الوصفية، حتى حاز العرب مكانة باذخة ليست لغيرهم من الأمم، في هذا الفن البشري من البيان الحي الشريف.
ولا كان الاستخفاف بالكلام ودلالاته جريمة حضارية وانسانية، لأنه نشوة أعظم سر صار للإنسان به إنسانا، وتحجب عنه أجمل نعمة تصله برب العالمين، وهي نعمة القرآن العظيم.
وهذا بعض أسرار قوله تعالى:” الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان” اقرأ الآيات مرة أخرى، وانظر إلى هذا الترابط العجيب بين “القرآن_ الانسان_ البيان” لتعلم عظمة هذا السر الإلهي العظيم، ومتى انحدر البيان في الإنسان، على هذا الذي بينت لك، انحدر الإنسان في العمران، فتآكل شيئا فشيئا، عقلا، وإبداعا، وخلقا..ودينا.
فهو يمر بالآيات الإلهية الجليلة مرور الأصم صدئت فيه أذناه، وينظر إلى هذا العالم الفسيح نظرة من لا يحسن يقرأ، فهو في عماية وحيرة، ويجلس بين يدي المصحف جلوس التراب ماتت فيه الحياة، فيتقبله بعينه لا بقلبه.
وتتهدم السنين وتفنى القرون ويتباعد الركب البشري عن الطريق العتيق للصدر الأول، الذي فقه البيان، وكان القرآن فلكه الذي حلق فيه الى عرش التوحيد، وفارق الوثنية الروحية والعقلية والنفسية.
فاكتمل فيه الانسان “علما وعقلا وخلقا وإبداعا” كمالا لم يزل يتناقص إلى يوم الناس هذا، حتى إذا تآكل الانسان وفنيت فيه حياته، لانقطاعه عن الوحي الذي هو البيان الإلهي، أذن الله للشمس بأن تشرق من مغربها، فباد العالم وفني العمران، وإذا شئت نورا فهذه بعض آية من كلام ربنا _تبارك اسمه_ لو مسها قلبك، وإصغى إلى بيانها الجليل لقال كل ما فيك إن هذا الكلام ليس في مقدور أحد من العالمين، وإنه لكلام ربنا تقدست أسماؤه.
يقول تعالى: “ومكر أولئك هو يبور”، فانظر إلى مجيئ ضمير الفصل هنا “هو” فإن مجيئه هنا آية بلاغية معجزة تضرب القلب بخفقات الدهشة من سمو البيان الإلهي الجليل، ولو جاءت الآية عارية عن هذا الضمير لبطل كثير من التبكيت الذي يتضمن حضور الضمير “هو” هنا.
فكأن مكرهم هو صاحب الحظ التام في الخسران والكساد، فمع بهرجتهم له وتزيينهم لقباحته وخبثه الغادر، وحشدهم كل طاقتهم في تسويقه، وبذل الترغيب والترهيب، والتحلية بالتغرير والخداع والكذب، والمناداة عليه باللفظ المعسول والبيان الزائف في كل محفل ومشهد يكسد سوقه، ويخيب سعيهم وتبور سلعتهم، وينصرف الناس عنها وعنهم، ولا يبقى عليها سوى أطلال الخسران وأسراب الذباب.
فمجيئ “هو” هنا مجيئ الاختصاص والقصر، باعتبار البوار صفة راسخة لازمة لزوم القيد الفولاذي الذي لا ينفك عنه هذا المكر، مهما فعل صاحبه وفعل.
وهكذا القرآن كلما أمعنت النظر فيه تحيرت حيرة الطرب، وتناثرت نظرات الدهشة ببريقها العابد من عينيك، وعلمت أن هذا الكلام قطعا مفارق كل المفارقة لكلام البشر الشاحب القاصر، وأنه لا طاقة لأحد من العالمين أن يأتي بمثله قط، وإن النفس الإنسانية لن تنصر إلا بتدبر ها الوحي الإلهي العظيم، وهنالك يصغر ما يكيده الكائدون، ويضمحل متلاشيا في نظر تلك النفس التي تضلعت من هذا المعين، فتطمئن وترتقي وهي تقول بثقة المؤمن بربه: ومكر أولئك هو يبور.
ومتى صيغت النفس البشرية في هذا المحصن، ونهلت من معينه وتشربت أنواره، كان إنسانا عصيا أمام عواصف الدس والمكر ونوازغ الزيغ والضلال، ومتى حيل بينها وبينه كانت كالتي ترى والتي تعلم.
ولذا كانت الصحابة الصحابة، وكان الخلوف الخلوف.