موقف الدكتور أحمد معبد من العلامة المعلّمي وديار اليمن د.عمر ماجد السنوي -العراق-
موقف الأستاذ الدكتور أحمد معبد
من العلامة المعلّمي وديار اليمن
عمر ماجد السنوي
(العراق)
فوجئتُ في أحد الأيام وأنا أستمع إلى مقطع مصوَّر لشيخِنا المحدِّث أ.د. أحمد مَعبد عبد الكريم، وقد جاء ذِكر الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المُعلِّميّ اليمانيّ -رحمه الله- فتكلّم فيه بكلام شديد!
والعلامة المعلّمي هو العالم الموسوعي المحقِّق الذي لا يُنكِر عِلمه وفضله إلّا مَن يجهله أو في قلبه هوى وتعصُّب، وليس ثَمَّ أحدٌ فوق النقد، لكنّ النقد لا يعني نسف عِلم العالِم وانتقاص قَدْره.
ولكي لا يكون نقدي كلامَ شيخِنا أحمد مَعبد نقدًا منقوصًا، فإنني هُنا أسوق للقارئ المنصف العاقل ما قاله شيخنا بالنصّ، لينظر فيه ويدرك ما يحمله من طعن شديد وسخرية مُنكَرة!!
قال -هداه الله-:
((الشيخ المعلّمي [اليَماني] جاءت له خلفية علمية من تحقيق الكتب… فبدأ يكتب، لكن لمّا بدأ يكتب لم يكتب في العِلم كعِلم، لكن بدأ يكتب في العِلم مرتبطًا بقضيّة مَذهَب، وأحيانًا المَذهب يكون سببًا في حَجب الحقيقة والتأثير عليها؛ فالشيخ أول ما دخل دخل [يرد على تقي الدين السبكي في مسألة الزيارة] وأن الأدلة التي ذكرها السبكي بناها على تصحيحات، وهذه التصحيحات يريد أن ينسفها! لأنه داخل على قضية لا بد أن ينحاز فيها! مَن يوافقه يقول بأنّه انحاز إلى الحقّ، ومَن يخالفه يقول انحاز إلى الباطل! ونحن لا نقول هذا، ونقول: واللهِ هو رأى هذا وبناءً عليه دخل على القضية من هذا المدخل)).
ثمّ ذكرَ كلامًا للمعلّمي في أحد رواة الحديث وماذا قال عنه علماء الجرح والتعديل، وعلّق عليه بقوله:
((هذا الكلام ليس واقعيًا، لكنه يعمل به هكذا ويمرّنه لكي يصل إلى القول بأنّ ابن مَعين وثّقَ راويًا “ملوش لازمة”))!
بعد هذا التَقَوُّل والافتراء على العلامة المعلّمي والطعن في نيّته وطريقته العلمية، قال الشيخ أحمد مَعبد -وبئس ما قال- وهو يخاطِب المعلّمي بالدارجة المصرية العامّية:
((امّال انتَ اللي ليك لازمة؟ انت لسة أصلًا جاي من اليمن امْبـارح))!!
ولي على هذا الكلام مآخذ، أختصِرُها في النقاط التالية:
أوّلًا: إنّ استعمال هذه الألفاظ العامّيّة للسخرية والطعن لا يناسب مَقام مَجالس الِعلم، وهي تدلّ على مبالغة في الانتقاص والذمّ، لا سيّما أنّها تتعدّى مجرّد الاعتداء على مَقام عالِم واحدٍ، إلى التعدِّي على شَعْب بأكمَلِه، فيكون هذا الشَّعب أو أولئك القوم عندَ المتكلِّم مَضربَ مَثلٍ للتخلُّف والجهْل! فهو لا يقول له: (أنت ابنُ البارحة)، وإنّما يقول له (أنتَ جئت من اليمن البارحة)! وشتّان بين العبارتين.
وكلّنا يَعلم أنّ علماء اليمن قادوا نهضة علمية حديثة، على يد أئمّة فحول، كالزبيدي والصنعاني والشوكاني وغيرهم، وكانت اليمن عبر التاريخ -وما زالت- ولّادة للعلماء، وأهلُ اليمن مَضرب مثل في الإيمان والعلم، مصداقًا لقول نبيّنا عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين-: (الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية).
ثانيًا: زعَم شيخُنا أحمد مَعبد أنّ العلامة المعلّمي اكتسب العلم من اشتغاله بالكتُب وتحقيقها، أيْ بسبب وظيفته في مكتبة الحرم المكي، وقبْلها في دائرة المعارف العثمانية بالهند.
وهذا إمّا تدليس من أجل الانتقاص، أو جهل بحال العلامة المعلّمي، وأحلاهما مُرّ!!
فالعلامة المعلّمي (المولود سنة 1313هـ) تكوَّنت عِلميّته في بلده اليمن، وتدرّج في سائر العلوم والفنون، وتسنّم منصب القضاء، ولُقّب رسميًّا بشيخ الإسلام، كل هذا قبل خروجه من اليمن، في شبابه. وهو من بيت علم أصلًا، تتلمذ لأبيه وأخيه الأكبر، ورحل في سبيل العلم إلى مناطق متفرقة في اليمن.
ولمّا رحل إلى الهند (حوالي سنة 1345هـ) كان علماؤها يخاطبونه بلفظ (العالم العامل) ونحوها.
أما مقامه بمكّة فلم يكن إلّا في أواخر حياته، نحو عقد ونصف، فلمّا جاءها جاءها وهو عالِم، فعرفوا له قدْره وسلّموه أمانة مكتبة الحرم المكي، حتى توفي سنة (1386هـ) رحمه الله.
ثالثًا: زعَم شيخُنا أحمد مَعبد أنّ العلامة المعلّمي بدأ يكتب بعد أن حصّل العِلم من انشغاله بالكتب! وهذا غير صحيح، فالمعلّمي كانت له مؤلَّفات وتحقيقات وأشعار قبل ذلك.
انظر إليه وهو يقول في وصيّةٍ لهُ أيّام مقامه عند الأمير محمد بن علي الإدريسي الهاشمي -قبل سنة (1341هـ)-: “أسأل والدي وأخي الشقيق أن يجمَعا ويدوِّنا ما يوجد معي مِن نَظمي أو مُذاكرَتي، وإذا تيسَّر نشُره فذلك خير” [يُنظَر: آثار المعلّمي (1/125)].
ومن الكتب التي ألّفها قبل رحلتي الهند ومكّة:
- تحقيق الكلام في المسائل الثلاث، وهو كتاب في المنهج والعقيدة، في مجلد كبير، وهو من أهم مؤلفاته.
- الرد على حسن الضالعي، وهي رسالة في الرد على أحد دعاة الضلال، يناقشه فيها في مسائل عدة في العقيدة وغيرها.
- حقيقة الوتر ومسمّاه في الشرع، وهي رسالة فقهية تتعلق بأحكام صلاة الوتر.
- مناقشةٌ لحكم بعض القضاة في قضيةٍ تنازع فيها رجلان، وهي يدور موضوعها حول نقض المعلّمي لقضاء قاضٍ في قضية تشاجر فيها رجلان، وفيها بحث مسائل في الدعوى والشهادة، واختلاف البينات وتعارضها.
- قضية في سكوت المدَّعى عليه عن الإقرار والإنكار، وهي رسالة تكلّم فيها المعلمي على هذه القضية وفق الفقه الشافعي.
- الفسخ بالإعسار، وهي رسالة ذكر فيها المعلّمي أن فسخَ النكاح بالإعسار ثابتٌ في المذهب الشافعي، وعِلّته أن النكاح عقدٌ بمقابلٍ، فهو إباحة الانتفاع بالبضع إلى مقابل الصداق والإنفاق.
- مسألتان في الضمان والالتزام، وهي رسالة تكلم فيها الشيخ على قضيتين حكم فيهما القاضي بما هو مخالف للحق والصواب، ونقل من كتب المذهب الشافعي ما يُبيِّن ذلك.
- مناظرة أدبيَّة بين المعلمي والسنوسي، وهي رسالة فيها مذاكرة أدبية شعرية جرت بين المؤلف وبين الشاعر علي بن محمد السنوسي في مجلس الأمير الإدريسي الهاشمي، وذلك يوم عيد الفطر سنة (١٣٣٧هـ).
- الخُطَب والوصايا، وهو كتاب حافل يشتمل على نحو ستين خطبة من خطب الجمعة والعيد كان ألقاها في شبابه، أيام حكم الأمير الإدريسي. وهي في مجلّد كبير، له قيمة أدبية تاريخية.
- ديوان شعره، وهو في مجلّد كبير، لم يُطبع حتى الآن، فقد منَعَ من طباعته أحد تلامذته ممن بحوزته هذه النسخة، ولا تُعرَف له نسخة أخرى.
وغير ذلك من المؤلَّفات التي لا أريد الإطالة أكثر باستيعاب ذِكرها.
رابعًا: زعَم شيخُنا أحمد مَعبد أنّ كتابات المعلّمي لم تكن علمية، إنّما هي مذهبية، أيْ أنّه كَتبَها بناءً على اعتقادٍ مُسبَق بأنّ الحقّ مَحصور فيما يتبنّاه مِن مذهب، وأنّه ينتصر له على كلّ حال، وإنْ بالكذب واللّفّ والدروان!! وهذا بهتانٌ عظيم، أنْ يُبهَت الرجلُ في دينه واعتقاده وقصده، دون بيِّنة، سوى ظُنون وتوقُّعات، فوقَع شيخُنا فيما عابَه على المعلّمي!
ولو أنّ شيخنا أحمد مَعبد ينشغل ببيان خطأ المعلّمي (علميًا)، ويدوّن ذلك في مقالات أو كتاب أو بحث، بدلًا من إلقاء الكلام على عواهنه بالطعن والتنقّص والذمّ بين الحين والآخَر، لَكان ذلك خيرًا له، وأنفع لطلبة العلم، سواء أخطأ في نقده أو أصاب، لأنه سيكون بين الأجر والأجرَين!
وإلا فليكسر قلمه ويلجم لسانه؛ فقد جاء في الأثر عن سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “إنَّ الرَّجُلَ لَيَتكلَّمُ بالكَلِمةِ مِن الشَّرِّ ما يَعلَمُ مَبلَغَها، يَكتُبُ اللهُ عَلَيهِ بِها سَخَطَهُ إلَى يَوْمِ يَلْقاهُ”.
نسأل الله أن يجيرنا وشيخَنا من سخطهِ، وأن يهدينا وإيّاه إلى إحسان القول والعمَل والنيّة.
خامسًا: لم يذكر شيخُنا أحمد مَعبد كيف استنتج من كلام المعلّمي الذي نقلَه أنّه يريد به الوصول إلى القول بأنّ يحيى بن معين وثَّقَ راويًا لا يُعـبأ بِـه؟!
إنّ هذا لَهُوَ نوعٌ مِن الكهانة، بلْ هُو مِن التجنِّي والتقوُّل والطعن في النيّات؛ فالمعلّمي لم يصرّح بهذا القول، ولم يسلك هذا المسلَك في كلامه على هذا الراوي.
والعلامة المعلّمي تكلّم في هذه المسألة بناءً على أدلّة، وضربَ عليها أمثلة، بكلامٍ علمي متين، وقواعد عزيزة في باب الجرح والتعديل يندر أن يجدها الطالب عند غيره، ويمكن مراجعة المسألة التي تكلّم عليها شيخنا أحمد معبد، في كتاب العلامة المعلّمي: التنكيل (1/255) طبعة المكتب الإسلامي ببيروت.
فسيجد القارئ هناك جلية الأمر، وهو أنَّ كلامَ شيخنا أحمد معبد كلامُ شخصٍ غيرِ عارفٍ بالمعلّمي، وكفاه أنّه لم يعرِفْ تحريرَ المعلّمي في قضية توثيق الإمام ابن معين للرُّواة، وأنّه عنده على درجات، وقد ذكرَ المعلّمي أنَّ ابن معين ربّما يكونُ توثيقُهُ للرَّجلِ جرحًا له، لأنّ الرُّواةَ ربّما يتجمّلون لابن معين ويتظاهرون أمامه بالصدق والضبط والاستقامة، ما لا يكون منهم عند غيره، فيكونُ توثيق ابن معينٍ لهم جرحًا. وهذا من دقائق أهل النظر في هذا العلم الجليل، ومن أكابر أهل النظر فيه من في العصر الحديث: العلامة المعلّمي رحمه الله.
سادسًا: إنّ شيخنا أحمد معبد توهّم أنّ سياقَ كلام العلامة المعلّمي هو في الرد على التقي السبكي -رحمه الله-، وهذا وهم عجيب، فلا موضوع كتاب “التنكيل” يتعلق بالرد على السبكي، ولا المَوضِع الذي استشكلَه يتطرّق إلى موضوع الزيارة! ثمّ يتوهّم أنّ مذهب العلامة المعلّمي في هذه المسألة أثّر في أحكامه.
والذي يَنقُض هذه الدعوى من الأساس أنّ كتاب “التنكيل” هو في الردّ على كتاب “تأنيب الخطيب”، في المساجلة العلمية مع العلامة الكوثري، فيما يتعلّق بكلام العلامة الخطيب البغدادي عن الإمام أبي حنيفة -رحم الله الجميع-، وذلك أوضح من الشمس في رائعة النهار، إذْ عنوانه صارخ بذلك، وهو: “التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل”.
سابعًا: لماذا أمسى حال العلماء هكذا؟ ولماذا يَسكُت كثير من أصحاب شيخنا أحمد مَعبد عن جِنايَته وقد طال الزمان عليها وانتشرت في الأصقاع؟! مع أنّ (بعض) أصحابه ذوو ألسِنة طويلة وذِمَم واسعة، يهجمون علينا لمجرّد أن يردّ أحدُنا ردًّا علميًّا على عالِمٍ ما، فيَظنّون أنّ صنيعَنا هذا انتقاصٌ من العلماء، ويأمروننا بالأدَب، وهم مِن أبعَد الناس عن الأدب وعن تطبيق ما حصّلوه من العِلم.
لذا أودّ أن أنبّه إخواني من طلبة العلم، إلى أنّ الواجب في حقّهم أنْ يتنبّهوا إلى الإساءات التي تصدر عن بعض الأعلام، وأنْ يستنكروها، ولا يهابوا علوّ شأن صاحب الإساءة، ولا يُداهنوا في الحقّ مِن أجل مَيلِ هواهم! بينما كثير من المنتسبين إلى العلم يستنكر على بعض الباحثين والعلماء المخالفينَ لهم عندما يتعرّضون لبعض الأعلام بالتقييم العلمي (وليس بالسخرية والطعن في النيات).
وهذا يذكّرني بأناسٍ هاجوا وماجوا لمّا قرؤوا في بعض مقالاتي وأبحاثي نقدًا لبعض أهل العلم كالذهبي والسيوطي وغيرهما، مع أنّ ما قلتُه في حقّهما هو نقد علمي وتقييم منهجيّ، لا سخريةَ فيه ولا طعنًا، ولكنّ أهل التعصّب لا يرضيهم ذلك، ولا يروق لهم إلا أن يكون المرء غاليًا في نقده ومتطرّفًا (جرحًا وتعديلًا)، تابعًا لِمَنظومتـهم الحـزبيـة المَذهبيـة، لا يريدونه أن يفكّر إلا في حدود ما يرسمونه هم في أفقهم الضيّق وجمودهم المعرفي وتعصّبهم الجاهلي!
أخيرًا أحبّ أن أذكُر شيئًا ليكون ختامُ مقالي مصداقًا لأوّله، فأقول: إنّ نقدي هذا لا يعني -بحالٍ من الأحوال- الصـدَّ عن الاسـتفادة من دروس شيخنا أ.د. أحمد مَعبد عَبد الكريم، بل أنا نفسي تابعتُ كثيرًا من دروسه وشروحاته، فضلًا عن مؤلَّفاته وتحقيقاته، وانتفعتُ بما فيها من علمٍ وتحقيق، وقد شـرفتُ بقبول إجازته -حفظه الله وسدّده-.
لكن على الطالب أن يكون واعيًا لما أشرتُ إليه، متيقّظًا لما يخالف المنهج العلمي السديد، ويتحاشى الهوى والتقليد.
والله من وراء القصد وهو على ما نقول شهيد.