حصريا

من أين يبدأ الإقلاع؟

0 214

من أين يبدأ الإقلاع؟

بقلم، د. فتيحة محمد بوشعالة

يؤرقني ويدمي قلبي حال الأمة، وما هي عليه من هوان وذلة وصغار وتخلف ؛  على ما لديها من إمكانات جبارة مما يؤهلها للريادة:

دين رباني محفوظ، رسم لنا منهج الحياة ، صالح لكل زمان ومكان، ثروات طبيعية لا يمتلكها  غيرها.

فأين الخلل؟  وكيف تلحق الأمة المسلمة بركب الأمم المتقدمة؟ وأول ما يهمني كيف تلحق الجزائر بقطار النهضة والريادة؟

لمعرفة الخلل لا بد من تشخيص لحال الأمة لمعرفة موضع الداء، ومن ثم كيف يتم علاجه؟ وكيف يكون الانطلاق والإقلاع.

عقيدتناالثابتة  والتي لا شك فيها، أن لا عزة لنا ولا كرامة ولا تمكين في الأرض إلا بالرجوع إلى القرآن والسنة

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

النور 55

والله لا يخلف الميعاد، فهل نحن مؤمنون  كما يرضى ربنا؟ هل عملنا الصالحات حتى يستخلفنا؟ هل مكن لنا ولهذا الدين؟ هل نحن آمنون عسكريا، اقتصاديا، علميا؟

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ

آل عمران 110

هل حققنا هذه الخيرية بين الأمم؟

هل حققنا وظيفة الشهادة على البشرية؟

المطلع  على حال الأمة في هذا العصر ومنذ قرون يجدها من سيئ إلى أسوأ، يجدها في منحنى تنازلي إلى الأسفل…رغم أنها تمتلك كل مقومات التمكين والريادة:  خيرات وثروات مادية وبشرية ومعها القرآن والسنة.

فأين الخلل؟

رغم كثرة المتدينين وكثرة الحفاظ وكثرة الجامعات وكثرة البحوث في العلوم الشرعية، رغم كل هذا لم  نحقق ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات) بدليل أننا لم نستخلف ولم يمكن لنا في الأرض، ولم تأمن الأمة على نفسها من جميع النواحي، ووعد الله حق.

نجد الشرق المسلم يفخر بعلمائه والغرب المسلم يعتز بنوابغه ومفكريه، علماء الشام مزهوون بعلمهم الشرعي، علماء الحجاز لا يرون مثل أنفسهم، علماء مصر يرون أنفسهم الأصل، علماء الرافدين معتدون بقدراتهم، علماء المغرب ينسبون أنفسهم إلى التميز، وكل مدرسة فرحة بما أنتجت…..ولكن ما أثر ذلك على الأمة؟

نضرب مثلا بموريتانيا التي تسمى بلد العلماء والحفاظ، علماء شنقيط أشهر من نار على علم، موطن الحفاظ والمسندين، موطن حفاظ القرآن والقراءات والمتون بصورة مذهلة منقطعة النظير، كيف حالها؟ من أفقر الدول المسلمة وأكثرها تخلفا.

ماذا قدمنا للأمة بهذه التركة؟ ما فائدة حفظ القرآن وإنتاج ملايين النسخ البشرية من القرآن؟ ما فائدة حفظ السنن والمسانيد والأسانيد؟ وحفظ المتون؟ ما فائدة المصنفات والبحوث التي ملأت الرفوف؟ لما لم تنفع الأمة؟.

أين الخلل؟

مع هذا الكم الهائل من الأطباء والمهندسين والخبراء الاقتصاديين والفيزيائيين والعلماء، لما لم تتحرك عجلة التطور والريادة في الأمة؟

الخلل في قناعتي ليس في الوحي ولا في العلوم الشرعية ولا العلوم الإنسانية والتجريبية، بل في مناهج كل تلك العلوم، وفي فهم الوحي وتنزيله على الواقع، وفي كيفية توظيف الوحي والعلوم الشرعية  وغيرهاللنهوض بالأمة.

الخلل في نظري يكمن في أمرين أساسين هما :مناهج العلوم التي نتعلمها ونعلمها في كل التخصصات، وفي الأنظمة والحكومات التي تطبق تلك المناهج .

أولا: مناهج التعليم والبحث في دول العالم الإسلامي:

هذه المناهج هي العقبة الكؤود التي عطلت قطار التنمية، كونها لا تنتج معرفة جديدة ولا تحسن توظيف ما تنتجه في الميدان، هي مناهج عقيمة.

أعطيكم مثلا مناهج العلوم الشرعية، ما تفعله هذه المناهج هو الحفاظ على هوية الأمة فقط وضمان صلتها بدينها، وهذا جميل ومطلوب ولكنه غير كاف البتة. لا بد من تطويرها لتدفع بنا إلى توظيف تلك الصلة في أداء دور الريادة والشهادة ناهيك عن التطور والازدهار.

لا بد من ثورة في هذه المناهج، مناهج التعليم والبحث وفي جميع التخصصات وأركز على العلوم الشرعية كونها مبنية على مصادر الوحي، فمنها يكون المنطلق لبقية العلوم الأخرى.

ويكون ذلك ب:

  • إعادة النظر في مناهج التعليم الابتدائي بحيث تعمل على بناء الإنسان الفاعل الصالح والمصلح، منذ الصغر، وهذا اختصاص التربويين.
  • إعادة النظر في محتوى العلوم في كل الأطوار ، بحيث التركيز على ما ينفع النشء في عقله وروحه ونفسه وجسمه معا. والتخلي على المقررات التي لا نفع فيها.
  • إعادة النظر في المقاصد والغايات من العملية التعليمية، ماذا نريد الوصول إليه بهذه المناهج؟ وما الذي نصبو إلى تحقيقه وإنجازه؟.
  • إعادة النظر في مناهج ومقاصد البحوث العلمية في العلوم الشرعية، وفي كل العلوم التجريبية والإنسانية، البحث من أجل البحث لا يؤدي إلى نتيجة، لا بد من أن يكون هدف البحوث في العلوم الشرعية هو تجديد فهم النص المقدس والبحث عن كيفية تنزيله على الواقع لحل مشاكل الأمة، لا اجترار مشاكل القرون السابقة وجرنا إلى معاركها، وهي ليست معاركنا. وهنا لا بد من تحديد دور التراث بدقة حتى نخرج من دائرة التقليد، والتركيز على الفهم والتدبر قبل التلقين والحفظ.

وفي العلوم الإنسانية لا بد من العمل على تنوير الفكر الإنساني وتحريره من الخرافة والاستبداد وتكوبن إنسان الحرية والقيم والفاعلية.

أما في مجال العلوم التجريبية فلا بد من توجيه البحوث إلى الابتكار والتجديد عوض الاجترار والتنظير، ولا بد من البناء على التجارب العلمية التي سبقت لاستكمال المسار المعرفي، الذي يخدم مصالح الأمة.

  • بناء العلوم التجريبية والإنسانية على الوحي: الطب والهندسة والسياسة والاقتصاد، التاريخ والجغرافيا، علوم المادة، الفلك، كلها لا بد أن تؤسس على القرآن والسنة الثابتة حتى تسترجع الأمة كيانها وخصوصيتها وتميزها، ولا تكون تابعة.
  • التوجه إلى البحوث التشاركية بين مختلف العلوم، حيث تكون أكثر فائدة وأكثر مصداقية وفاعلية، كالتواصل البحثي بين العلوم الشرعية مثلا وبين البحوث الطبية، أو بين البحث في علم النفس وعلم الجريمة والعقاب، فمثل هذه البحوث تكون أكثر فائدة لمعالجة مشاكل الأمة.
  • لا بد من التأسيس لمناهج خاصة بالمسلمين تنطلق من مصادرهم، ولا بأس (بل لا بد) من الاستفادة من تجارب البشرية في مجال العلوم الإنسانية والتجريبية.

 

ثانيا: دور الأنظمة والحكومات في تحقيق الإقلاع

لا يستقيم كل ما ذكرت سابقا، ولا يكون ذا فائدة ونتيجة إلا إذا تبنته الحكومات والأنظمة الحاكمة، ضروري جدا أن تكون الدولة هي المبادرة لذلك والقائمة عليه والمنفذة له مع ترك الاستقلالية التامة  في جانب البحث لأهل الاختصاص.

دون هذا لن تؤتي التجربة أكلها ولن تثمر تلك الجهود، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

إن لم تتبن الإرادة السياسية هذا المسار لنهضة الأمة فلا عبرة لكل تلك الجهود، ستبقى مجرد محاولات منعزلة متناثرة هنا وهناك، وقد تعصف بها الأهواء السياسية فتنحرف عن غاياتها. لا بد من قيادة رشيدة تنفذ هذا المشروع وتتبناه عن عقيدة وبصيرة وحكمة ومصلحة.

وعندنا التجربة الماليزية والتركية خير شاهد على ذلك، حيث التكامل المبدع بين البحث العلمي  الهادف والسلطة الرشيدة دفع بالدوليتين إلى مصاف الأمم المتقدمة في فترة وجيزة. هاتان الدولتان عرفتا كيفية الاستفادة من القرآن والسنة وكيفية استخراج العلوم منها فهما وتنزيلا رغم قلة باعهم في العلوم الشرعية مقارنة بالدول العربية، غير أنهما عرفتا من أين تؤكل الكتف، والعبرة بالنتائج.

وأما إصلاح الخلل في الإرادة السياسية فيكون ب:

  • العمل على إبعاد الشرذمة العميلة المسلطة على رقاب الشعوب المسلمة خاصة العربية، والمتغلغلة في مفاصل الحكم، المغروسة غرسا من قبل أعداء الأمة، تلك الأنظمة الاستعمارية القديمة المتجددة حفاظا على مصالحها.

يجب استئصال عملاء الغرب من مراكز القرار بكشفهم وفضحهم وفضح مخططاتهم المعادية لمصالح الأمة ولقضاياها الجوهرية. وهذه مهمة الحكم الراشد والطبقة المثقفة.

  • استخلاف الكفاءات الوطنية المخلصة لمشروع الأمة شريطة أن تكون ذات خبرة كبيرة في ميدان الإدارة والسياسة العامة (القوي الأمين).
  • تقوية العلاقات مع الدول المسلمة السابقة لنا في هذا المجال حيث التعامل معها آمن من حيث التأثير الإيديولوجي والثقافي. لكثرة العوامل المشتركة بيننا. كماليزيا إندونيسيا، تركيا. للاستفادة من تجاربهم وخبراتهم مع الحفاظ على الخصوصية.

ثالثا: مجالات الاستقلالية

  • أوكد المجالات التي ينبغي أن نبدأ بها هي: علينا امتلاك ثلاثة أمور ونخرج من التبعية فيها لغيرنا وهي: السلاح والغذاء والدواء…لا يشترط أن نوازي الغرب في القوة، وإنما علينا أن نمتلك هذه المجالات الثلاثة ابتداء.
  • كل الثروات الباطنية والظاهرة التي نملكها، من غاز ومناجم معادن، وبترول وكهرباء لا بد أن تدار بأيدينا ، بخبرات وطنية متمكنة تُكوَّن تكوينا جيدا.

وفي الأخير، أؤكد الحل يكمن في ثورة في مناهج التعليم والبحث العلمي مع إرادة سياسية صادقة في تنمية الأمة والتقدم بها نحو الأفضل.

ركيزتان أساسيتان لهذه الأمة لكي تقلع: القرآن والسلطان، القرآن مصدر العلوم والسلطان آلية التنفيذ والحماية …….بهذا فقط يكون الإقلاع.

 

 

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.