حصريا

مسألة في الترحُّم والاستغفار للكافر الميت ووصفه بالشهادة-د.بلال فيصل البحر-العراق-

0 499

مسألة
في الترحُّم والاستغفار للكافر الميت ووصفه بالشهادة
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فإن الدعاء بالرحمة والمغفرة للكافر الميت لا يسوغ عند عامة العلماء حتى نقل القاضي عياض والنووي الإجماع على منعه، وسند الإجماع النصوص الظاهرة كقوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى) [التوبة: 113] فإذا منعه لذوي القربى مع شدة الميل لهم، فمنعه في غيرهم أولى في القياس والنظر.
وهذا قاطع لأنه قرر المنع بنفي الكون، وهو أبلغ في النهي من مجرد تسليط النفي على الفعل، إذ معناه أنه يمتنع صدور الاستغفار للمشرك منهم بحال، كقوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً) {الأحزاب 53}.
وأما من يفتي من العصريين بجوازه، فلا سند لهم إلا عمومات غلطوا في نقلها أو فهمها، كما يحتج بعضهم بقوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء) {الأعراف 156} ويذهل عن تتمتها بقوله تعالى: (فسأكتبها للذين يتقون) الآية! ولهذا قال العلماء بالتفسير؛ قتادة وغيره: وسعت رحمته البر والفاجر في الدنيا، وهي في الآخرة للذين يتقون خاصة.
وقد فسره بما بعدها وهو قوله: (الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) ومفهومه أن من لم يتبع النبي الأمي من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار، فلا تناله رحمته تعالى، كما أخرج ابن جرير عن قتادة، قال: (عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء) فقال إبليس: أنا من ذلك الشيء! فأنزل الله: (فسأكتبها للذين يتقون) معاصي الله (والذين هم بآياتنا يؤمنون) فتمنَّتها اليهود والنصارى، فأنزل الله شرطا وثيقا بيِّنا، فقال: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) فهو نبيكم، كان أميا لا يكتب صلى الله عليه وسلم.
وقد أجمع أهل التأويل على قولين في معناها، فمنهم من قال كابن عباس وغيره: هي من العام الذي أريد به الخصوص، وهذا الذي ذكره عبد العزيز الكناني المكي لبشر المريسي في مناظرته بحضرة المأمون، فإنه ذكر له وجوه محامل نصوص القرآن، فذكر منها الخبر الخاص الذي مخرجه عام مثل: (ورحمتي وسعت كل شيء) قال: وهي لم تسع إبليس والكفار، لقوله: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك) وهؤلاء العصريون من هنا أُتي المتحذلق منهم، من جهة عدم معرفة الأصول ووجوه الخطاب القرآني وأنواعه.
ومن أهل العلم بالتفسير كالحسن وغيره من قال: إن عمومها في الدنيا للبر والفاجر، وخصوصها لأهل الإسلام في الآخرة، كما نقله عنهم أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما، فهي عامة في الدنيا خاصة في الآخرة كقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) فهو عام من وجه خاص من وجه.
ولم يقل أحد من العلماء إنـها من العموم الشمولي، وأن عمومها شامل للمسلم والكافر، في الدنيا والآخرة، كما يقوله هؤلاء العصريون بلا سند ولا أصل، فالقول به غلط ظاهر لما تقرر في الأصول من عدم جواز إحداث قول ثالث ينقض أصلا مشتركا عليه بين القولين.
وهكذا القول في نظائره كقوله تعالى: (إن ربك واسع المغفرة) ونحوه، فإنه يختص بأهل الإسلام في الآخرة على معنى دخول الجنة، والنجاة من النار، ومن حمله على عمومه في الدنيا والآخرة للمسلم والكافر، فقد ناقض وضرب نصوص القرآن بعضها ببعض، لأن الله أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به، وأخبر بأن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن بالله ورسوله، وغير ذلك من النصوص القاطعة، والقطعيات لا تتناقض.
ومن أغرب ما رأيناه من الاستدلال أن عصام تليمة توهم أنه يحتج للجواز بخطاب النبي عليه الصلاة والسلام لهرقل بعظيم الروم أو للمقوقس بعظيم القبط، ويروم عبثا تقرير أن الشهادة إنما تطلق على الكافر الميت بحسب عرف دينه، فيزعم أنه إنما يطلقها على هذا المراد!
وهذا لو سلم فغايته أن يفيد إطلاق الشهادة مقيدة فيقال: شهيد النصارى، لأنه عليه الصلاة والسلام وصفه بلقب (العظيم) مقيداً كما ترى، ولم يطلقه، فأطلقه أنتَ مقيداً وخلاك ذم، فأما إطلاقه مجرداً فلا يصح بوجه لأن لفظ الشهادة إذا أطلق انصرف إلى المعنى الشرعي المعهود.
ومعلوم أن قياس هذا الإطلاق من أصله، على تسمية المقوقس بعظيم القبط، قياس مع الفارق وهو باطل، لأن الكلام إنما هو في الميت، وهذا المقوقس حي، والحي الكافر يسوغ الدعاء له بالرحمة والمغفرة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لقومي) بخلاف الميت.
وأيضا فإنه إنما خاطبه بذلك لأن الشرع كلف الناس بالتنزل على الواقع، والواقع أنه عظيم في قومه، وأما الشهادة فالواقع أنـها لا تصح للميت الكافر الذي حرم الله عليه الجنة، فتسميتك له بذلك مناقض لحكم الله فيهم، ولا واقعية فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فهو عبث لا أصل له إلا الهوى المستحكم.
وأيضا: يقال له: هل يدخل الكافر الميت -بـهذه الشهادة- الجنةَ أم لا؟ فإن قال: يدخل، فقد ناقض النص والإجماع اللذين دلَّا على أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وهذا كافر بالله ورسوله، وإن قال: لا يدخل، فأي طائل من وصفه بالشهادة إذن؟ وهذا عبث يتنزه عنه الشارع الحكيم، وإن أراد بالشهادة معنى آخر فما هو؟ فليذكره حتى نتكلم عليه.
والعجب أنه يحتج بحديث شهداء الدنيا، وهم المبطون والغريق وغيرهم ممن صح بـهم الخبر النبوي، وهذا من جنس العبث واللعب بالدين ونصوصه وأحكامه، فإن الأحاديث الواردة في هذا المعنى تختص بالإجماع بمن مات على الإسلام بغرق وحرق وهدم ونحو ذلك، والأعجب منه أن هذا المستدل حين ساق الحديث، أورده بلفظ: (شهداء أمتي) ثم يستدل به على جواز إطلاق وصف الشهادة على من مات كافراً!
وهذا الوهم الغريب وقع فيه الدكتور القره داغي في فتيا له يحاول فيها تقرير جواز إطلاق لقب الشهيد على غير المسلم، وأبعد في الوهم فزعم أنه يجوز إطلاق الشهيد على من قتل في سبيل الذب عن وطنه وقضيته وإن كان غير مسلم، وخلط بين الشهيد لغة فأنزله على الشهيد شرعا الذي أطبق العلماء أن لازمه دخول الجنة فلا يطلق إلا على مسلم.
ووجه أن الشهيد له اعتباران، لغوي وهو من شهد شيئا أو شهد به، وشرعي وهو من شهد له الشرع بالجنة والثواب المخصوص للشهداء في الدنيا والآخرة بأنه حي يرزق عن الله، وبه يبطل تعلقه بحديث: (من قتل دون عرضه وأرضه فهو شهيد) لأن المراد به من قتل من أهل الإسلام إجماعا، وما ذكره القره داغي عن النووي أنه قسم الشهداء إلى ثلاثة أنواع: واعلم أن الشهيد ثلاثة أقسام:
أحدها: المقتول في حرب الكفار بسبب من أسباب القتال، فهذا له حكم الشهداء في ثواب الآخرة وفي أحكام الدنيا، وهو أنه لا يغسل ولا يصلى عليه.
والثاني: شهيد في الثواب دون أحكام الدنيا، وهو المبطون والمطعون وصاحب الهدم ومن قتل دون ماله وغيرهم ممن جاءت الأحاديث الصحيحة بتسميته شهيداً، فهذا يغسل ويصلى عليه وله في الآخرة ثواب الشهداء، ولا يلزم أن يكون مثل ثواب الأول.
والثالث: من غلَّ فى الغنيمة وشبهه ممن وردت الآثار بنفي تسميته شهيداً إذا قُتل في حرب الكفار، فهذا له حكم الشهداء في الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه، وليس له ثوابـهم الكامل في الآخرة، والله أعلم.
هذا كلامه بحروفه، وهو ظاهر كما ترى من سياقه وسباقه أنه يتكلم عن شهداء المسلمين لا غير، فقول القره داغي: (فإطلاق العلماء لفظ الشهيد على من غل وسرق وأدبر، دليل على جواز إطلاقه على شهداء الدنيا مثل شهيد الوطن وشهيد القضية أو الكلمة)!
وهذا الاستدلال الذي لا أصل له ولا فرع، يذكرنا بما حكاه ابن حزم أنه ناظر رجلا من غلاة المقلدين الذين لا يعرفون وجوه الأدلة ومواقع الاستدلال ومدارك النظر وما يرد عليها من الموانع والمعارضات، فاحتج عليه بدليل هو أجنبي عن محل البحث، فقال ابن حزم: وأنا دليل: (قل أعوذ برب الناس)!
فكلام النووي الذي ساقه الدكتور القره داغي منحصر في شهداء المسلمين، ثم النووي صرح أن الغال والفار من الزحف لا يسمى شهيداً، لكن له حكم الشهداء في الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه، وليس له ثوابـهم الكامل في الآخرة، وهذا لأنه اجتمع في حقه كبيرة وفضيلة، فالفضيلة كونه يجاهد الكفار في سبيل الله، والكبيرة أنه غل أو فر من الزحف، فوقع للقره داغي أوهام منها:
الأول: توهمه أن الكلام عام، وإنما هو خاص بقتلى المسلمين.
الثاني: أنه في قتيل المعركة، وليس في سبيل القضية فضلا عن أن يكون كلامه في قتيل الوطن!
الثالث: أن النووي صرح أنه لا يسمى شهيداً، فطار به القره داغي وأطلق الشهيد على الكافر مستدلا بكلام النووي الذي يمنع أصلا من إطلاق لقب الشهيد على مسلم فر من الزحف أو غل، فكيف تعتمد عليه أنتَ في تجويز إطلاقه على كافر!
الرابع: أن النووي صرح أنه ليس له ثوابـهم الكامل في الآخرة، وهو ظاهر جداً في أنه إنما يقصد به من قتل من أهل الإسلام، لأن الكافر ليس له ثواب الشهداء لا كاملا ولا ناقصا.
الخامس: أن النووي صرح بأن حظه من ثواب الشهداء هو الثواب الدنيوي، وهو أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وهو ظاهر في اختصاصه بالمسلم لأن الكافر لا يصلى عليه إجماعا.
السادس: أن النووي استوفى بالنقل عن أهل اللغة سبب تسمية الشهيد بذلك شرعا، فذكر قول النضر لأن روحه تشهد الجنة، وأرواح غير الشهداء لا تشهدها إلا يوم القيامة، وعن ابن الأنباري لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة، وقيل سمي شهيداً لأنه يشهد عند خروج روحه ما له من الثواب والكرامة، وقيل لأن ملائكة الرحمة يشهدون فيأخذون روحه، وقيل لأنه شهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله، وقيل لأن عليه شاهداً يشهد بكونه شهيداً، وهو دمه؛ فإنه يبعث وجرحه يثعب دما، وحكى الأزهري وغيره قولا آخر أنه سمي شهيداً لكونه ممن يشهد يوم القيامة على الأمم.
وكل هذه الأسباب تختص بشهيد المسلمين كما ترى، وقد يتوهم أن آخرها يشمل غيرهم وهو وهم لأن الشهداء على الأمم يوم القيامة هم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والكافر ليس من أمته صلى الله عليه وسلم بالاتفاق.
وهذا كاف في بطلان ما حاول الدكتور القره داغي تقريره اعتماداً على كلام الإمام الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله، وأما سائر كلامه في هذه الفتيا الغريبة التي لا ترجع إلى أصل ولا نقل ولا اعتبار فسيأتي نقضه في غضون الرد على غيره ممن تكلم في هذه المسألة على معنى الجواز.
وقد يستدل بعضهم بقوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) {التوبة 80} تخريجا على قول الحسن وقتادة وعروة إنه تخيير، والجمهور على أنه تأييس بدليل قوله بعدها: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) وعلى القول بأنه تخيير فقيل: إنه منسوخ بقوله تعالى: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) {المنافقون: 6} ولهذا عد هذا من موافقات عمر رضي الله عنه، لأنه أشار على النبي عليه الصلاة والسلام بترك الاستغفار فنزلت الآية على مقتضى مشورته، كما أشار إليه الحافظ السيوطي في (نظم موافقات عمر) بقوله:
وقولهُ لا يؤمنونَ حتى … يُحكِّموكَ إذ بَقْتْلٍ افْتَى
وآيةٌ فيها لبَدْرٍ اوْبَهْ … ولا تُصَلِّ آيةٌ في التوبهْ
وقيل: إنه خاص بولد عبد الله بن أُبي لتطييب خاطره، وقيل: يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أن المغفرة قطعا لن تحصل لهم لقوله تعالى: (لن يغفر الله لهم) فرخص في مجرد الاستغفار لهم، له عليه السلام خاصة، تحنُّثا لأنه تعهد بذلك فكانت الرخصة فيه للتبرر من العهد كموعدة إبراهيم في الاستغفار لأبيه سواء، ولهذا نفى كونه بعد واقعة ابن أُبي بقوله: (ما كان للنبي والمذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) فمن يجوزه اعتماداً على استغفاره لابن أُبي فإنه يناقض نص القرآن بالنفي الصريح، ولهذا لم يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم مع غيره، ومع هذه الاحتمالات الظاهرة لا يتم الاستدلال.
وفي (المسند) وحسَّنه الترمذي وصححه الحاكم والذهبي عن علي عليه السلام، قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه، وهما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك؟ قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) {التوبة: 113} إلى آخر الآيتين، قال عبد الرحمن: فأنزل الله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) {التوبة: 114}.
فأبطل النبي عليه الصلاة والسلام استدلال من استدل باستغفار إبراهيم لأبيه، على الاستغفار للمشرك ولم يفصل، ومعلوم أن ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما قاله الشافعي، ولا بيَّن، والمقرر في الأصول أن ترك البيان عن وقت الحاجة لا يسوغ، وهذا قاطع في امتناع صدور الاستغفار للمشرك الميت.
وأيضا: فإن إبراهيم عليه السلام إنما استغفر لأبيه -على الخلاف هل كان أباه أو عمه- لوعد تقدم منه بأن يؤمن، ولهذا لما تبين له أنه كافر بالله تعالى، تبرأ منه، كما قال تعالى: (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) {التوبة 114}.
وقد حكى الفخر في (تفسيره) أن من الناس من حمل قوله: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) على صلاة الجنازة، قال: (وبـهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار: تخفيف العقاب، قالوا: والدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى منع من الصلاة على المنافقين، وهو قوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً} وفي هذه الآية عمَّ هذا الحكم، ومنع من الصلاة على المشركين، سواء كان منافقا أو كان مظهراً لذلك الشرك، وهذا قول غريب).
وهو على غرابته، يختص بالاستغفار ولا يعم الشهادة، لأن الشهادة يلزم منها دخول الجنة، والكافر ممنوع من دخولها أبد الآبدين، وأما الاستغفار فلا يلزم منه ذلك، بل إن قُدِّر جوازه على هذا القول الغريب، فالمراد به تخفيف العذاب كما تراه في كلام الفخر، وبه تعلم أن من تـهوك في إطلاق لقب الشهيد على الكافر الميت فقد جازف وارتكب جهلا فاضحا!
وأيضا: فلا يلزم من حمل النهي في الآية عن الاستغفار للمنافقين، على صلاة الجنازة، جواز الاستغفار للكافر الميت، لأن النهي عنه -على تقدير أن هذه الآية لا تفيده- قد أفادته ودلت عليه النصوص الأخرى كما يأتي، فكيف والنص الدال على النهي عن الاستغفار لهم، مستقل عن النهي عن الصلاة عليهم، فقصره عليه بلا دليل تحكُّم وهو فاسد.
وليعلم أن من الناس كالدكتور معتز الخطيب من خلط بين مسألة انتفاع الكافر بأعماله الصالحة في الآخرة، وبين الدعاء له بالرحمة والمغفرة، فتوهم أن الثانية أصل للأولى، واندفع يقرر الخلاف في الدعاء للكافر الميت بالرحمة، بناء على الخلاف في انتفاعه بأعماله الصالحة، واجترأ على تخطئة العلماء الناقلين للإجماع كعياض والنووي، بمجرد هذا الفهم الخاطئ!
وهذا من جنس غلط الألباني في مسألة القراءة عند القبور، فإنه توهم أنـها مبنية على مسألة حكم وصول ثواب القراءة للميت وانتفاعه بـها، فنسب للشافعي المنع من قراءة القرآن عند القبر لأجل قوله بأن ثواب القراءة لا يصل للميت، مع أن الشافعي نص في القديم والجديد على استحباب القراءة عند القبر! ولا يلزم من القول بعدم وصول ثواب القراءة للميت، القول بعدم جواز القراءة على قبره، لأن الشافعي نص على أنه ينتفع بنزول السكينة بقراءة القرآن عند قبره وإن لم يصل ثوابـها إليه.
وكذا لا يلزم من القول بانتفاع الميت الكافر بأعماله الصالحة في الآخرة جواز الترحم عليه، لأن معنى انتفاعه بعمله الصالح تخفيف العذاب عنه كما ورد الخبر به في حال أبي طالب، وهذا لا يسوغ الدعاء له بالرحمة والمغفرة لأن لازمها النجاة وليس هو بناج إجماعا، فالدعاء له بذلك عبث يتنزه عنه الشارع الحكيم، ولهذا لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم دعا لأبي طالب مع أنه أخبر أنه يخفف عنه العذاب بشافعته له، كما في (الصحيح) عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار، يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه).
ولما توهم الدكتور معتز التلازم بينهما، اندفع يقرر جواز الدعاء لموتى الكفار بالرحمة على معنى تخفيف العذاب، ولم يقدر أن يسوق نصا واحداً يدل على الجواز لا عن الشارع ولا عن العلماء، وغاية ما صنعه نقل نصوصهم في انتفاع الميت الكافر بعمله بـهذا المعنى الذي هو تخفيف العذاب، وهذا لا ينازعه فيه أحد، وإنما النزاع في نفس الدعاء له بالرحمة والمغفرة.
ثم وقع في زلل أعظم فاحتج بحديث حكيم بن حزام أنه قال للنبي الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ أموراً كنت أتحنثُ بـها في الجاهلية، هل لي فيها من شيء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير) قال: (وظاهر هذا الحديث يدل على اعتبار حسنات الكافر في كفره، كما فهم منه غير واحد من الشراح، ولذلك قال الإمام المازري: “ظاهره خلاف ما تقتضي الأصول” وحار العلماء في تأويله).
ولا دليل فيه بوجه، ولا معارضة بينه وبين النصوص القاطعة التي تفيد تخليد الكفار في النار وعدم انتفاعهم بأعمالهم في الخروج منها، لأن حديث حكيم خاص فيمن أسلم فإن الله يحتسب له أعماله الصالحة حال الكفر، كما لو عملها حال إسلامه، وكما يغفر له أعماله السيئة حال الكفر بالإسلام الذي يهدم ما قبله، تحسب له أعماله الصالحة حال كفره إذا أسلم، وهذا لا يشمل من مات على الكفر، فلا معارضة، فانتفاع الكافر بأعماله الصالحة على معنى النجاة في الآخرة مقيد بشرط الموت على الإيمان.
وأما إذا مات على الكفر فانتفاعه بـها إنما هو على معنى تخفيف عذابه في الآخرة، أو إثابته عليها في الدنيا بالمال والصحة ونحوها، فلا معارضة بين خبر حكيم ودلالة حديث عائشة عند مسلم أنـها قالت: يارسول الله، إن ابن جدعان كانت يصل الرحم ويحمل الكَلَّ ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك -أي: ينجيه من النار- فقال عليه السلام: (لا، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) أي: لم يُسلم.
إذا تقرر هذا -والدكتور معتز يقرره- لم يجز أن يجعل هذا بمجرده دليلا على جواز الدعاء له بالمغفرة والرحمة، لما تقرر بالنص والإجماع أن الدعاء بذلك لا يسوغ إلا للمسلم كما يأتي ذكر بعض النصوص في هذا، ويلزمه والحال هذه أن يقيم نصا خاصا يفيد هذا المعنى، وإلا فهو تحكُّم باطل، وخرق للإجماع بلا مستند، واجتراء على ضرب النصوص ببعضها، فما ذكره من النصوص لا يفيد إلا معنى انتفاع الكفار بصالح أعمالهم في تخفيف العذاب عنهم، ولا يعطي جواز الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة الذي دلت النصوص القاطعة على اختصاص المسلمين بـه.
ومن توهمات الدكتور معتز: ظنُّه تعارض عمومات الكتاب الدالة على نفي تخفيف العذاب عن الكفار وإثبات حبوط أعمالهم، مع عمومات دالة على تخفيف العذاب عنهم بمقتضى صالح ما قدموه من عمل حال الكفر، ومجرد تصور التعارض هنا غلط قبيح فكيف بفرضه!؟
وبيانه أن إثبات حبوط أعمالهم معناه امتناع انتفاعهم بـها على معنى النجاة من العذاب ودخول الجنة، لافتقارها إلى شرط الإيمان بالله ورسوله، فلا معارضة بينها وبين النصوص الدالة على انتفاعهم بأعمالهم على معنى تخفيف العذاب عنهم، وأما نفس تخفيف العذاب فتحكمه المشيئة، وعليه تحمل النصوص التي ظاهرها الاختلاف في هذا الباب، فإنه إذا كان أهل الكبائر من المسلمين تحت المشيئة؛ إن شاء غفرها لهم وأدخلهم الجنة بالإيمان، وإن شاء عذَّبـهم على قدر كبائرهم وأدخلهم الجنة بالإأيمان، فالكفار أولى بذلك في باب انتفاعهم بأعمالهم الصالحة، إن شاء خفَّف عنهم العذاب بـها كما وردت به النصوص، وإن شاء أحبطها لهم فلم تنفعهم في تخفيف العذاب كما وردت به النصوص أيضا.
ثم فرض الدكتور معتز تعارضا آخر توهمه في نصوص الكتاب العزيز، حتى إن من يطالع مقالته يختلج إلى صدره أن الرجل وضعها لإثبات تعارض الكتاب العزيز وتناقض آياته! فإنه تخيل التعارض بين عموم النهي عن استغفار النبي والمؤمنين للمشركين، وبين استغفار إبراهيم لوالديه فقال: ولكن إبراهيم نفسه استغفر لأبيه حين بلغ سن الشيخوخة كما في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [إبراهيم: 39-41]!
وهو غريب منه، وقد مرَّ أن إبراهيم عليه السلام إنما استغفر لأبيه من أجل موعدة وعدها إياه أنه يؤمن فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما أخبر الله تعالى به، ولهذا ذكر العلماء أن الله تعالى أمرنا باتباع ملة إبراهيم الحنيفية إلا في هذه الخصلة لاختصاصها به عليه السلام.
وأما استغفاره لوالديه، فجوابه ما قاله القرطبي في (تفسيره): (قيل: استغفر إبراهيم لوالديه قبل أن يثبت عنده أنـهما عدوان لله، قال القشيري: ولا يبعد أن تكون أُمُّه مسلمة؛ لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه، قلت: وعلى هذا قراءة سعيد بن جبير “رب اغفر لي ولوالديْ” يعني أباه، وقيل: استغفر لهما طمعا في إيمانـهما، وقيل: استغفر لهما بشرط أن يسلما، وقيل: أراد آدم وحواء، وقد روي أن العبد إذا قال: اللهم اغفر لي ولوالديَّ، وكان أبواه قد ماتا كافرين، انصرفت المغفرة إلى آدم وحواء؛ لأنـهما والدا الخلق أجمع، وقيل: إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق، وكان إبراهيم النخعي يقرأ: “ولولدي” يعني ابنيه، وكذلك قرأ يحيى بن يعمر، ذكره الماوردي والنحاس).
ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، والعجب ممن يعارض القواطع بتوهمات لا قطع فيها، فإن استغفاره لهما هنا إنما وقع على مقتضى الموعدة فلا معارضة أصلا، لأنه إنما استغفر طمعا في إيمان والده، وهذا خاص به عليه السلام، وأيضا فإنه قرن استغفاره لهما بالاستغفار للمؤمنين فيلزم من الدكتور معتز أن يقر بإيمانـهما لما تقرر في الأصول من صحة دلالة الاقتران في عطف المفرد على المفرد، والنصوص ظاهرة قاطعة في إكفار والد إبراهيم عليه السلام ولهذا تبرأ منه إبراهيم، واللازم فاسد جداً فالملزوم مثله.
ومن تعاجيب استدلال الدكتور معتز، تعلقه بقوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة) الآيات إلى قوله: (ثم كان من الذين آمنوا) {البلد: 11-18} فإنه ذكر أن (ثم) للتراخي في الزمان على قول، وقال: (فالإيمان إنما وقع بعد عمل الخير (وهو هنا العتق والإطعام)، ويؤيد هذا الفهم حديث حكيم بن حزام: “أسلمت على ما أسلفت من خير”، وقد تنبه إلى هذا المعنى الدقيق الإمام ابن الملقن فقال: “صح بـهذه الآية عظم نعمة الله على عباده في قبول كل عمل بر عملوه في كفرهم ثم أسلموا، فالآية على ظاهرها، وهي زائدة على ما في القرآن من قبوله أعمال من آمن ثم عمل الخير”، أي أن في القرآن معنيين لا معنى واحدًا: الأول: قبول العمل المقترن بالإيمان، والثاني: قبول العمل الصالح الذي سبق الإيمان).
ولا يفيده هذا في شيء لو تدبر كلام ابن الملقن، فإنه قيد الانتفاع بالإسلام كما ترى، ومراده أن النصوص نوعين: نوع في قبول عمل من آمن بعد إيمانه، وآخر في قبول عمل الكافر الذي عمله حال كفره بعدما يسلم، فإن لم يسلم فلا يقبل، وهذا ظاهر، وأما قول الدكتور: (والثاني: العمل الصالح الذي سبق الإيمان) فالظاهر أنه أخطأ في العبارة، لأن سبقه الإيمان معناه أنه آمن بعده، وهذا لا نزاع في قبوله ولا يختلف عن الأول الذي سماه الدكتور: (قبول العمل المقترن بالإيمان) فأي فرق بينهما؟!
والظاهر أنه احتد حال البحث على مخالفه فزل في العبارة، وإنما أراد بالثاني: قبول العمل الذي عمله الكافر وإن لم يؤمن، وهذا كما ترى لا يساعده عليه كلام ابن الملقن، بل هو تقوُّل عليه ما لم يقله، وعلى التنزل فقد تقدم أن هذا القبول معناه تخفيف العذاب لا النجاة منه، والمقتضي لجواز الاستغفار له والرحم إنما هو النجاة من العذاب، لا مجرد تخفيفه، فسقط تمويه الدكتور معتز.
وكلامه على إفادة (ثم) التراخي الذي حاول منه تقرير انتفاع الكافر بعمله الصالح، ضائع ولا موقع له، لأنه إن قصد به التخفيف من العذاب فقد مر أنه لا يفيد تقرير جواز الترحم والاستغفار له، ويأتي مزيد توضيح فيه، وإن قصد نجاته من العذاب فباطل لأنه خلاف النص والإجماع، على أن الآيات في هذا المعنى من الاستفهام الإنكاري، و(ثم) فيها إن كانت لتراخي الرتبة فالمعنى: توبيخهم على عدم إيمانـهم الذي بسببه لم تنفعهم أعمالهم الصالحة، فهو نقيض قصد الدكتور معتز.
وإن كانت لتراخي الزمان فالذم على معنى أن أعمالهم الصالحة لم تنفعهم لأنـها لم تكن خالصة لوجه الله، ولهذا عطف فلم تخرج الآية عن معنى عدم انتفاع الكفار بعملهم الصالح الذي يقتحمون به العقبة الأخروية، ويلزم الدكتور على المعنى الذي يحاوله أن يقر بأن عملهم الصالح يفيدهم في اقتحام العقبة الأخروية، وهذا باطل ولا يقوله فملزومه باطل مثله، بل سياق الآيات يناقضه، لأنـها استفهام إنكاري، أي: هلا اقتحم الكافر ما ينجيه من العذاب بالعمل الصالح من فك رقبة أو إطعام أو إيمان، وقدم الأعمال على الإيمان لأنـها داعية له فإذا لم يؤمن لم تنفعه، ولأن أعمال الخير تقع من المؤمن والكافر سواء فقدمها، فالقول بأن العمل الصالح هنا منفك عن الإيمان المعطوف عليه، لازمه أن يقتحم الكافر العقبة بعمله لا بالإيمان، وهو نقيض مقصود الآية أصلا!
وبه تعلم أن استدعاء الدكتور معتز مسألة خطاب الكفار بالفروع لا حاصل له، لأن فائدتـها دنيوية محضة، ولهذا أنكر استدعائها العلامة ابن عاشور فقال: (واعلم أنه إن كان المراد بالإنسان الجنس المخصوص، أي المشركين، كان نفي فك الرقاب والإطعام كناية عن انتفاء تحليهم بشرائع الإسلام؛ لأن فك الرقاب وإطعام الجياع من القربات التي جاء بـها الإسلام؛ من إطعام الجياع والمحاويج، وفيه تعريض بتعيير المشركين بأنـهم إنما يحبون التفاخر والسمعة وإرضاء أنفسهم بذلك، أو لمؤانسة الأخلاء، وذلك غالب أحوالهم، أي لم يطعموا يتيما ولا مسكينا في يوم مسغبة، أي الطعام الذي يرضاه الله.. وإن كان المراد من الإنسان واحداً معينا، جاز أن يكون المعنى على نحو ما تقدم، وجاز أن يكون ذما له باللؤم والتفاخر الكاذب، وفضحا له بأنه لم يسبق منه عمل نافع لقومه قبل الإسلام، فلم يغرم غرامة في فكاك أسير أو مأخوذ بدم أو من بحرية على عبد، وأيًّا ما كان فليس في الآية دلالة على أن الله كلف المشركين بـهذه القرب، ولا أنه عاقبهم على تركهم هذه القربات، حتى تفرض فيه مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة، وهي مسألة قليلة الجدوى وفرضها هنا أقل إجداء).
ومن تحكُّمات الدكتور معتز أنه ركب ظاهرية جامدة، فادعى أن النهي عن الدعاء للمشرك بالمغفرة خاص بالدعاء له بمحو الشرك، واستنتج من هذا الخيال الفاسد جواز الدعاء له بمغفرة غير الشرك من الذنوب! فتوهم أن النص على عدم غفران الشرك دليل على غفران غيره، وهذا خطأ قبيح لا يليق بمنصبه الجامعي، لأن عامة الذنوب لا قيمة لها مع الشرك فلا حاجة لمغفرتـها أصلا لأنه من تحصيل الحاصل، وأقل العقلاء يتنزه عنه فتنزيه أحكام الشارع عنه أولى، فما فائدة الاستغفار له أو الإخبار بغفران ذنوبه وهو لا ينفعه في الخلاص والنجاة من ذنب الشرك!؟
فإن قال: فائدته تخفيف عذابه، قيل له: تخفيف عذابه إن أردتَ به المشرك الذي له أعمال صالحة، فهذا قد قلتَ إن قبول أعماله الصالحة يخفف عنه العذاب، فأي طائل من الدعاء له بمغفرة ذنوبه التي ليست بشرك؟! وإن قصدتَ به كل مشرك، فقد ناقضت أصلك هذا في قبول صالح أعمال موتى الكفار، فظهر أن تخصيصك النهي عن الاستغفار للمشرك بالشرك، ضائع لا موقع له، ومثلك فيه كمثل من يحكم على حديث فيه كذاب تالف الرواية، بأن فيه فلانا الضعيف!
وأيضا: فقد قال تعالى: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) {المنافقون: 6} فقد قطع بنفي غفران ذنوبـهم وهو في المنافق الذي ظاهره الإسلام، لا المشرك، فبطل بالنص القاطع تخصيصك النهي عن الاستغفار للمشركين بالشرك، دون غيره.
وأيضا: فقد أجمعنا على أن شرط قبول العمل الإخلاص، وأن حبوطه وردَّه بالشرك، فكيف يقبل عمل أهل الشرك؟ هذه مناقضة صريحة الفساد، ومغالطة عظيمة العناد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين سأله: يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم، ويفعل كذا وكذا، فقال عليه السلام: (إن أباك أراد أمرا فأدركه) يعني الذكر كما قلال سماك راويه، أخرجه أحمد وغيره بسند حسن.
وله شاهد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إن هشام بن المغيرة كان يطعم الطعام ويقري الضيف ويصل الرحم ويفك العناة -تعني الأسرى- ولو أدرك لأسلم، فهل له في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عمك كان يعطي للدنيا وذكرها وجمالها، وما قال يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) وتقدم حديث عائشة في ابن جدعان بمعناه.
بل وقع في (الدلائل) للبيهقي بسند قال عنه الحافظ ابن كثير: (حديث حسن المتن، غريب الإسناد جداً، عزيز المخرج) عن علي عليه السلام في قصة قدوم ابنة حاتم الطائي على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنها قالت: يا محمد، إن رأيت أن تخلي عنا ولا تشمت بي أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولا يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا جارية، هذه صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق).
وقد ذكر السخاوي في (أجوبته) عن القاضي عياض قال: (انعقد الإجماع على أن الكفار لا ينفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض) قال: وقد قال ابن المنير: اعتبار طاعة الكافر مع كفره محال، لأن شرط الطاعة أن يقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر لكن قد تعقب المحبُّ الطبري ابنَ حبان بأن الكافر إذا تصدق يُثاب عليه في الدنيا، كما ورد به الحديث، فيحمل الأجر في حقه على ثواب الدنيا، وفي حق المسلم على ما هو أعم من ذلك.
قال السخاوي: ويستأنس له بما أخرجه الطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات من حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن أبي كان يصل الرحم ويقري الضيف ويفي بالذمة، قال: ولم يدرك الإسلام، قال: (لا) فلما وليت قال: (عليَّ بالشيخ) قال: (يكون ذلك في عقبك، فلن يذلوا أبداً ولن يفتروا).
قال السخاوي: وانتصر شيخنا لابن حبان رحمها الله في (فتح الباري) فإنه قال: وما قاله -يعني الطبري- محتمل، إلا أن الذي قاله ابن حبان أسعد بظاهر الحديث، ولا يتبادر إلى الفهم من إطلاق الأجر إلا الأخروي.
قال السخاوي: ونحوه قوله في (تلخيص تخريج الرافعي) من زياداته: (وقول ابن حبان أقرب للصواب، وظاهر الحديث معه، والمتبادر إلى الفهم منه أن إطلاق الأجر إنما يراد به الأخروي) قال السخاوي: وهو حسن، على أن في كلام البيهقي ما يقتضى تجويز عدم المنع من الأخروي أيضًا فإنه قال: وما ورد من بطلان الخير للكفار، معناه أنه لا يكون لهم التخلص من النار، ولا دخول الجنة ولا جيوز أن يخفف عنهم العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات انتهى، ويتايد ذلك بما ورد في عدة أحاديث.
ثم ذكر السخاوي الأحاديث التي فيها أن ثواب الكافر يقع له في الدنيا، وما ورد أن الكافر لا يقبل عمله لعدم نيته فيها، ثم قال: وعلى تقدير ثبوتـها واعتضاد بعضها ببعض، فلا يدفع بأنه ليس أهلا للنية، بل يقال كما قال ابن المنير: إقامة الكافر على بعض الأعمال تفضل من الله تعالى، وهذا لا يحيله العقل، يعني فلا يكون عمله قربة معتبرة، ولكن يجوز أن يتفضل الله عليه بما شاء، والمتَّبع في ذلك التوقيف، نفيا وإثباتا على أن بعضهم حملها على الحسنات التي لا تفتقر فيها لنية كصلة الرحم، وفيه توقف).
ثم ذكر عن القرطبي الجمع بين الأخبار بأن ما ورد من تخفيف العذاب عن الكفار، خاص بمن ورد النص فيه، أي: فلا يقاس عليه، والتحقيق أنه لا معارضة بين الأخبار والنصوص الواردة في هذا الباب، فمن أعمالهم ما يقبل ويثابون عليه في الدنيا، ومنها ما يكون تحت المشيئة في الآخرة؛ إن شاء الله ردَّها وأحبطها، وإن شاء قبلها فخفَّف عنهم من العذاب بحسبها.
والغريب أن الدكتور معتز قال: (قوله تعالى عام في المسلم والكافر، ومن ثم فإن الدعاء للكافر بمغفرة ما دون الشرك هو طلب من الله تعالى أن يحقق مشيئته سبحانه في بعض عباده، وهذا معنى ثابت بنص القرآن)! فيقال: من أين لك أنه يعم الكافر والله يقول إنه لن يغفر لهم؟ وهل هذا إلا كصنيع الخوارج، عمدوا إلى آيات في الكفار فجعلوها في المسلمين كما قال بعض السلف، وأنتَ عمدتَ إلى آيات خاصة بالمسلمين فجعلتها في المشركين.
وكل أحد يعلم أن قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} أي: لمن اجتنب الشرك، وقد حكى القرطبي إجماع المفسرين على أن المراد بقوله تعالى: (فاغفر للذين تابوا) {غافر: 7} أي: من الشرك، وقال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) {النساء: 31} وهذا ظاهر في اختصاص مغفرة غير الشرك بالمسلم، بدليل قوله: (وندخلكم مدخلا كريما) والكافر لا ينال هذا المدخل الكريم قطعا بالنص والإجماع.
فقد دل النص والإجماع على أن مغفرة ما دون الشرك خاص بمن أسلم ولا يعم المشرك إذ لا جدوى منه، لأن معه أكبر الذنوب وهو الشرك، والنظر والقياس العقليان يمنعان تعميمه في الكافر، لأنه مع وجود الذنب الأعظم لا يغتفر ما دونه لأنه عبث، فإن قال: فلم يحاسبون على الفروع عند أهل السنة؟ قيل: له: زيادة في يتبكيتهم وتعذيبهم.
وعهدنا بالدكتور الخطيب يجوز الدعاء لهم على معنى تخفيف عذابـهم، ويُخرِّجه على أصل خطاب الكفار بالفروع، فيقال له: وما يدريك أن من تدعو له بالمغفرة من الكفار، هو ممن حوسب على الفروع حتى تتكلف الدعاء له بالمغفرة؟ وأنتَ نقلت عن الآلوسي أن الكفار في قبول صالح أعمالهم من عدمها تحت المشيئة إن شاء قبلها فخفف من عذابه وإن شاء لم يقبلها واطرحه في النار، فلعلها لم تقبل من هذا الكافر المعين فيكون دعاؤك له نقيض مشيئة الله.
فإن قال: ندعو له على جهة الطلب من الله أن يشمله بالقبول فيخفف عنه العذاب بأعماله الصالحة، قيل له: هذا غايته أن تدعو له بتخفيف العذاب نصا، لا بالرحمة والاستغفار، فضلا عن الشهادة كما يقوله من لا يعقل النصوص ولا يرقب لها حرمة ممن رق دينه فغلب هواه كالإعلاميين، لأن في الدعاء له بالرحمة والاستغفار ارتكاب مخاطرة عظيمة بمصادمة نص الشارع بلا دليل، ومناقضة أصل مقصوده وحكمته في شرعه، ومثل هذا لا يرتكب بالأهواء والظنون.
وأيضا فإن الله عز وجل عدل مطلقا لا يظلم شيئا، وقد أثاب هذا الكافر على أعماله الصالحة بثواب دنيوي، كالصحة والمال ونحو ذلك فالدعاء له بالمغفرة والرحمة افتيات على الحق تبارك وتعالى، لأنه قضى أن من أشرك به ولم يؤمن بالنبي الأمي عليه الصلاة والسلام فلا تناله الرحمة والمغفرة.
وأيضا فقد قال الدكتور الزحيلي رحمه الله في (تفسيره): (يلاحظ أنه تعالى في كل موضع ذكر فيه مغفرة ذنوب الكفار، جاء بلفظ “من” وفي كل موضع ذكر فيه مغفرة ذنوب المؤمنين، جاء بغير لفظ “من” مثال الحالة الأولى: قوله تعالى: واتقوه وأطيعون، يغفر لكم من ذنوبكم [نوح 3- 4] وقوله سبحانه: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به، يغفر لكم من ذنوبكم [الأحقاف 31] لأنه يدعوهم إلى الإيمان الذي هو أصل الدين، ومثال الحالة الثانية: قوله عز وجل: قل: إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم [آل عمران 31] وقوله عزت أسماؤه: ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم [الصف 11- 12] لأنه بعد توافر الإيمان لا تكون المغفرة إلا إلى المعاصي).
ومراده أنه إنما قيد مغفرة ذنوب الكفار بـ (من) لأن المراد مغفرة الشرك إذ لا ذنب يقوم معه، ولم يقيده بذلك في ذنوب المؤمنين لأن الشرك منتف عنهم، فليس ثم إلا المعاصي لتغتفر، وهذا يظهر لك أن الكفار لا تغفر ذنوبـهم مع وجود الشرك، وأن مغفرة ما دون الشرك إنما هو لمن تاب من الشرك لا غير.
وأيضا: فقد قال تعالى في الكفار المشركين: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة) {النحل 25} وقوله (كاملة) ظاهر في عدم مغفرة غير الشرك في حقهم، لأنه لا تغفر الذنوب كاملة إلا لغير المشرك، ضرورة أن الشرك لا يغفر.
وأيضا: فإذا كانت ذنوب المسلمين إنما تغتفر بالتوبة في الدنيا، وبالمشيئة في الآخرة، فكيف تغتفر ذنوب المشركين وهم مصرون عليها أصلا لا يتوبون منها، وكيف تغتفر مع وجود الشرك الذي هو سبب ذنوبـهم، وأيضا: فمغفرة ذنوب المشركين إنما تكون بالإيمان والتوحيد والتوبة من الشرك، وهذا معنى أن الإسلام يـهدم ما قبله كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص، وعلى فهم الدكتور معتز لا يكون هناك معنى لهذا الحديث، لأنه إذا كانت ذنوب المشركين تغفر إلا الشرك، لم يكن هناك حاجة إلى السؤال عن ذنوب من تاب من الشرك وأسلم، وكان يكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأن الإسلام يـهدم ما قبله، عبثا ومهدراً حاشاه.
وفي تفسير (الصحيح) عن ابن عباس: أن أناسا من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تدعونا إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة؟ فنزل قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون) {الفرقان: 68} ونزل: (قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) {الزمر 53} قال الرحماني في (المرقاة): (فالخطاب للكفار، والمعنى أن الله يغفر ذنوبـهم بالإيمان، فإن الإيمان يهدم ما كان قبله).
ولا نزاع بين العلماء في هذا المعنى حتى قال الحافظ ابن كثير: (لا يصح حمل هذه الآية على غير التوبة؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه) وإنما تنازعوا في هل مغفرة الذنوب للمسلمين مقيدة بالتوبة منها، كما هو مذهب الجمهور خلافا للشوكاني والقِنَّوْجي، والحال كما قال الواحدي: (المفسرون كلهم قالوا: إن هذه الآية في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام، كالشرك وقتل النفس ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم) ثم نزل البيان بأن الله يغفر جميع الذنوب بالتوبة من الشرك، فاستبشر أهل الإسلام واستبان لهم أن من لا تُغفر ذنوبه؛ الشرك وغيره، هم من استمر على شركه وكفره، فلو كانت ذنوب المشركين مغتفرة لم يكن للإخبار بأن التوبة من الشرك تغفر جميع الذنوب.
أيضا: فقوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) معناه عند جميع العلماء: من يشاء من المسلمين، ولهذا قال العلامة ابن الوزير في (العواصم): (لو لم يُقيِّد ذلك -أي: غفران الذنوب إلا الشرك- بالمشيئة، لزم أن يدخل فيه ما دون الشرك من ذنوب المشركين) ولو أراد المسلمين والكفار لم يقيده بالمشيئة، ولهذا كان في قول الدكتور معتز هذا إبطال لأصل الشفاعة.
ومن تأمل عامة ما ساقه الدكتور معتز، تبين له أنه يدور في تقرير أن عمل الكفار الصالح مقبول على معنى تخفيف عذابه، وهذا خارج عن محل البحث كما مر، ولا يفيده في تجويز الدعاء له بالمغفرة والرحمة، لأن المغفرة: محو الذنب، ولازمه النجاة من العذاب، وهو لا يقوله ولا يمكنه ادعاؤه لأنه ينافي القواطع بأن الكفار مخلدون في العذاب، وعليه فالاستغفار له ممنوع جزما.
وأما الرحمة: فحقيقتها في حق الميت الكافر: النجاة من العذاب في الآخرة، وهو ممنوع منه بالنص والإجماع فالدعاء له بـها مناقضة صريحة، وقد يقول هو إن نفس تخفيف العذاب عن الكافر بمقتضى انتفاعه بعمله الصالح نوع رحمة، فيسوغ الدعاء له بذلك من هذا الوجه، وهذا غلط لأن الدعاء له بذلك عبادة فيتوقف على ورود نص خاص بجوازه، ولا يسوغ إثباته بمجرد ثبوت تخفيف العذاب عنه بعمله الصالح، فيلزمك على هذا تصحيح النقل به خاصة، ودونه خرط القتاد.
وأيضا فحمل الرحمة على معنى تخفيف العذاب عنه مجاز؛ لا يسوغ ارتكابه لرد القواطع الحقيقية الظاهرة الشاهدة بضده كقوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) وقوله: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) ونحو ذلك، ولم يرد ما يفيد تفسير الرحمة بتخفيف العذاب، بل الوارد تخفيف العذاب بمقتضى قبول العمل الصالح للكافر، فقلنا: إنه نوع رحمة، فمثل هذا لا يسوغ بمجرده أن يدعى للكافر بالرحمة والله يقول: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم) {العنكبوت: 23}!
ومعنى يئسوا أي أنه تعالى منعها عنهم وحرمها عليهم بشركهم وكفرهم حتى داخلهم الشعور باليأس منها مع طمعهم فيها كإبليس لعنه الله، قال المفسرون: أي: (يئسوا من الجنة، ونسب اليأس إليهم والمعنى أويسوا) وإنما عدل عن الإخبار بمنعها عنهم إلى الإخبار بيأسهم منها؛ لأنه أبلغ في المنع، إذ المجرم يطمع في النجاة حتى مع تيقنه بالهلاك لا محالة، فأخبر بنفي هذا الطمع عنهم لشدة يأسهم بمقتضى يقينهم بتحريم الرحمة على المشرك لعظم جرمه الذي هو الشرك بالله والكفر برسوله، ولأن الإخبار به مفيد أن يأسهم من الرحمة إنما هو بسبب كفرهم لا لعدم سعة رحمة الله، فمن دعا لكافر بالرحمة والحال هذه فقد أثبت له ما نفاه الله عنه، وعاند الحق عزوجل في قضائه وحكمه، فالمسألة خلافية بينه وبين الرب جل جلاله!
ومن الناس من خلط بين مسألة جواز غفران بعض الشرك وهو قول طوائف من أهل الكلام والنظر وهي مسألة خلافية، وبين مسألة امتناع الاستغفار والترحم على موتى المشركين وهي مسألة اتفاقية إجماعية، فتوهم أن الثانية لازمة للأولى ومبنية عليها، وهو غلط قبيح ولهذا عجز عن أن يأتي بنقل واحد عن أهل العلم ممن يجوز مغفرة بعض الشرك، في أنه يجوز الاستغفار للمشرك الميت والترحم عليه، ولن يقدر عليه أصلا، لأنـهم داخلون في الإجماع الذي حكاه القاضي عياض والنووي على امتناع الاستغفار والترحم للميت الكافر.
ووجه الخلط أن مسألة جواز غفران بعض الشرك مختصة بالمسلم إذا وقع منه الشرك، وله أدلة لأجلها خص بعض المتكلمين بـها عموم النصوص التي فيها أن الشرك لا يغفر منه شيء، ومن هذه الأدلة حديث الرجل الذي أمر أولاده بحرقه وذَرِّ رماده وقال: لئن قدر الله عليَّ ليجمعني، فهذا شك في قدرة الله وهو شرك، ومع هذا غفر الله له لأن معه الأصل وهو التوحيد، وهذه المسألة مختصة بالمسلمين ولا تجري في المشركين والمرتدين! فلا يلزم من القول بذلك، القول بجواز الاستغفار والترحم على المشرك الميت.
ومنهم من أخطأ الفهم عن الله في قوله: (إن تعذبـهم فإنـهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) {المائدة 118} وهذا يفضي إلى تضاد النصوص واختلافها ولابد وهو مجمع على منعه في نصوص الشارع، لأن نصوص الكتاب قاطعة بأنـهم مخلدون في النار، كقوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) {المائدة 72}.
فيتعين أن المراد بآية (إن تعذبـهم) أنه عليه السلام تأدب مع ربه ففوض الأمر إليه فيما لا وحي فيه، فقضى الله بأن كل كتابي لم يؤمن بالنبي الخاتم مخلد في النار، وأيضا فقول المسيح عليه السلام منسوخ بشرع نبينا صلى الله عليه وسلم الخاتم، وأيضا فكلام المسيح عليه السلام خرج بمقتضى رأفته ورقته ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر به في قضية حكمه على أسرى بدر، وهو عليه السلام لم يحكم عليهم، بل فوض حكمهم إلى الله تعالى، فجاء القاطع بحكمهم أنـهم مخلدون في النار، فلا يستقيم رد القطعي المحكم بظني متشابه فإن هذا من صنع أهل البدع والضلال عائذاً بالله منهم.
على أن في الحيل الشرعية مندوحة عن مخالفة نص الشارع، فإذا اضطر للدعاء للميت الكافر لأجل مقام يقتضي الحال فيه المداراة في سياسة أو إعلام، فله أن يدعو وينوي، فيضمر في نفسه معنى الرحمة من نصب الدنيا وتعبها كما قالوا في التهنئة للكافر بعيده وتعزيته بموت.
والغريب أن هؤلاء الذين يرقبون في الإنسان حق إنسانيته، فيدعون للكافر الميت بالرحمة بمجرد ذلك، يغفلون في الرب جل جلاله حقَّ ربوبيته، وفي النبي صلى الله عليه وسلم حقَّ نبوته، اللذين لم يحترمهما الكافر فكفر بـهما، فلا أعظم في سب الرب من الشرك به تعالى، ولا أعظم جرما في حق النبي صلى الله عليه وسلم من الإعراض عن اتباع شرعه، ومعلوم أن الترحم على الكافر الميت فيه غمط لحق الله ورسوله ورفع من منتقصهم، ولهذا نـهي عنه.
وأما إنسانيته فتكريمها بدفنه كما أخرج ابن حزم أن أم الحارث بن ربيعة وكانت نصرانية فماتت، فشيَّعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا يكون بتعزية أهله وتكريمه بذكر محاسنه والكف عن سبه لعموم حديث: (لا تسبوا الأموات) وهذا معنى احترام موته وإنسانيته.
ولا يكون احترامها بالدعاء له في مقابلة إهمال حق الله ورسوله وشرعه الذي لم يحترمه الكافر، ولهذا نـهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذكر أبي جهل بما يعود بالأذى على ولده عكرمة الصحابي رضي الله عنه، كما لا يسوغ ذكر أبي طالب بالسوء لأن فيه أذية النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الكبائر، لكنه لم ينقل عنه الدعاء والترحم عليه ولا أمر به، ومعلوم أن أبا طالب نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمستضعفين من أصحابه بما لا يقوم به أحد من بعده، ومع هذا لم ينقل عنه أنه أرخص في الدعاء له، فكيف بمن هو أدنى منه.
وفي (الصحيح) أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله ابن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله لأبي طالب: (أي عم، قل لا إله إلا الله أحاج لك بـها عند الله)؟ فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك) فنزلت: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنـهم أصحاب الجحيم) وهذا صريح في النهي، ويصلح أن يكون مثالا ودليلا لمن جوز نسخ السنة بالكتاب خلافا للشافعي وأحمد في المنع، لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (لأستغفرن لك) نُسخ بالآية.
وأيضا فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام استأذن ربه في الاستغفار لأمه آمنة فلم يأذن له، وهي من أهل الفترة الذين لا يُعلم مصيرهم لأنـهم ممتحنون على الصحيح كما صح به الأثر، فكيف بمن عُلم أنه مات على الكفر!
والنصوص في هذا المعنى كثيرة، ومن خالفها فجوز إطلاق وصف الشهادة للكافر الميت، فلا سند له، لا من قرآن ولا سنة ولا قول صاحب ولا قياس ولا نظر صحيح سوى غلبة المؤثر العاطفي على عقله ودينه، ولا له في ذلك سلف من أهل العلم، والعجب أنه يرد كل هذه القواطع المحكمة بظنيات ومشتبهات توهم أنـها أدلة ولا وجود لها إلا في خياله.
وأما الاستغفار للكافر الميت، فلا يسوغ عند عامة العلماء إلا إن اضطر إليه في مقام يستدعي الحرج كما مر، فيدعو بذلك على معنى تخفيف العذاب عنه والرحمة من تعب الدنيا، ويضمره في نفسه احتياطا.
فائدة: قال العلامة الغماري في (التحقيق الباهر) بعد أن نقل ما حكاه الحافظ ابن حزم في باب: (من الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالفها بالإجماع) قوله: (واتفقوا على أن دين الإسلام هو الدين الذي لا دين لله في الأرض سواه، وأنه ناسخ لجميع الاديان قبله، وأنه لا ينسخه دين بعده أبداً، وأن من خالفه ممن بلغه كافر مخلد في النار أبداً).
فقال الغماري رحمه الله: (ووافقه ابن تيمية وغيره، وعلى هذا فما يعتقده بعض الجهلة في الدين أن اليهودي أو النصراني إذا عمل في الدنيا خيراً يدخل الجنة يوم القيامة كفر محض بإجماع المسلمين، وكذا الترحم على موتى اليهود والنصارى هو من هذا القبيل أيضا، لأن الله أخبر أن من مات على غير الإسلام فهو خاسر لا يدخل الجنة ولا تناله الرحمة أبداً، لأنه تمسك بدين منسوخ غير مقبول، وما يفعله أهل الكتاب أو غيرهم من الكفار من خير كصدقة مثلا يثابون عليه في الدنيا بالصحة أو سعة الروزق أو بسطة في الجاه ونحو ذلك، ولا يثاب يوم القيامة إطلاقا لقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} {الفرقان:23} نعم، قد يُخفِّف عن الكافر بعض العذاب -وهو في النار- بعضُ أعماله الصالحة) ثم ذكر خبر أي طالب، وما ورد أن أبا لهب يمص من أصبعه كل يوم اثنين شيئا قليلا لإعتاقه ثويبة حين بشَّرته بولادة النبي صلى الله عليه وآله سلم.
واعلم أن من زلَّ في هذا الباب وضرب النصوص بعضها ممن يقول بجواز الترحم والاستغفار والشهادة للكافر الميت، كتليمة والخطيب وغيرهما، فسببه لمن تأمل حالهم في مقالهم، أمران:
أحدهما: أنـهم اعتقدوا المسألة لا عن استدلال ونظر، بل عن تقليد لبعض كبار الفضلاء من شيوخ العصر، فاندفعوا يرومون الانتصار له وتقرير فعله بتطويع النصوص ووضعها في غير مواضعها وتأويلها على غير ما عليه أهل العلم، فوقع منهم هذا الخبط، ومن هنا قال علماؤنا: (استدل ثم اعتقد) ولهذا عجزوا عن أن يذكروا سلفا لهم من أهل العلم تقدم إلى القول بمقالتهم هذه.
الثاني: أنـهم تأثروا بالإعلام الفضائي الذي صنع في مقتل الصحفية شيرين، تـهويلا لا نظير له، وأفرط في إسباغ ألقاب يخلعها ويوزعها بالجملة على إعلامييه بلا ضابط ولا عقل بل بمحض الهوى والعاطفة وإن كانوا كفاراً، من حيث يمتنع عن إطلاقها على المسلمين من غير إعلامييه من المقاومين للاحتلال بأعذار باردة معروفة، فتأثر هؤلاء الكُتَّاب بما يسمونه في لغة الإعلام (بروباغاندا) وانحدروا في مهيع التقرير والتبرير للإعلاميين في مقابلة اطراح النصوص وكلام العلماء.
خاتمة
وبعد: فيقال لهؤلاء المفتين على هوى الناس والإعلام والسياسة يلتمسون المخارج لهم ولو باطراح الأحكام الثابتة وخرق عمل المسلمين: ما أخرجه أبو نعيم عن مالك بن أنس عن ربيعة قال : وقف علي بن خلدة -قاضيا كان علينا- فقال: يا ربيعة، إن الناس قد طافوا بك، فليكن همك إذا أتاك السائل أن تخلص نفسك وتخلصه.
والعلم الرخصة من ثقة، كما قال سفيان الثوري، وليس الرخصة بلا ثقة كما يريده هؤلاء، وقد قال الأوزاعي: (عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس، وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسَّنوه، فإن الأمر ينجلي وأنتَ منه على صراط مستقيم).
وقد قال ابن سعد في (طبقاته): أخبرنا محمد بن عمر أخبرنا يحيى بن سعيد بن دينار عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السعدي قال: كان مخيريق أيسر بني قينقاع، وكان من أحبار يهود وعلمائها بالتوراة، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد ينصره وهو على دينه، فقال لمحمد بن مسلمة وسلمة بن سلامة: إن أُصِبْتُ فأموالي إلى محمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أراه الله عز وجل، فلما كان يوم السبت وانكسفت قريش ودُفن القتلى، وجِدَ مخيريق مقتولا؛ به جراح، فدُفن ناحية من مقابر المسلمين، ولم يُصَلَّ عليه، ولم يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ولا بعده يترحَّم عليه، ولم يزده على أن قال: (مخيريق خيرُ يهود) فهذا أمره.
وأخرج أبو هلال العسكري في (الأوائل) عن أبي درهم أن الحجاج بعث إلى الحسن البصري، فلما حضر قال له يزيد بن أبي مسلم: إن الأمير يريد أن يدفع إلى التجار ألف درهم على أن يردوها إليه عند الحول (دَه دَوازده) فما ترى؟ قال: (ذلكم محض الربا)! قال: لا تُفسد على الأمير عملَهُ؟ فقال الحسن: (إن الله لم يجعل هذا الدين هوى للملوك).
وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة البرهان الآمدي من (الدرر) وكان نصرانيا أسلم على يد شيخ الإسلام ابن تيمية وصحبه وأصحابه وأخذ عنهم وتفقه على مذهب الشافعي، وكان ديِّنا خيِّراً فاضلا ممتحنا بحب ابن تيمية ونسخ غالب تصانيفه بخطه، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر برياضة وتؤدة، ويناظر في مسائل ابن تيمية من غير مماراة، وكان حسن الوجه منوَّر الشيبة لطيف المحاضرة.
قال الحافظ: قرأت عليه عدة أجزاء، فقلت له مرة: أخبركم رضي الله عنكم وعن والديكم.. فنظر إليَّ منكراً، وقال: ما كانا على الإسلام!
والله أعلم والحمد لله رب العالمين، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
كتبه
بلال فيصل البحر
إسطنبول/19/شوال/1443 من الهجرة

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.