لمحة عن تحديات الأسرة المسلمة في الوسط الغربي البريطاني
لمحة عن تحديات الأسرة المسلمة في الوسط الغربي البريطاني
د. فلة لحمر (الأحمر)
يناقش هذا المقال الوصفي تعريفا مجملا بالمجتمع المسلم في الوسط البريطاني وأهم التحديات التي تواجهها الأسرة المسلمة. يبدأ النقاش بتقديم خلفية تاريخية سريعة عن المجتمع المسلم البريطاني وتكوينه الديمغرافي، ثم ينتقل إلى عرض أهم التحديات التي تعترض الأسرة المسلمة، ويختم ببعض مبادرات الاستجابة لهذه التحديات.
الخلفية التاريخية والديمغرافية للمسلمين في بريطانيا:
لقد ساهمت عوامل عديدة في التشكيلة الديمغرافيةللمسلمين في بريطانيا، وتمثل العولمة والهجرة المستمرة عبر القارات بعضا من أهم تلك العوامل، بما في ذلك التاريخ الاستعماري السابق والاضطرابات السياسية في شبه القارة الهندية وشمال أفريقيا والشرق الأوسط. تشير العديد من البحوث الأكاديمية إلى تواجد فردي للمسلمين بالوسط البريطاني منذ قرون بعيدة، ولكن يمكن إرجاع بداية التواجد الجماعي الملاحظ إلى القرن الثامن عشر.وبالرغم من ذلك التواجد المبكر فإن وجودهم لم يشكل تصادما مع المجتمع البريطاني الموسع لأن معظم المسلمين الذين قدموا إلى بريطانيا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم يتصرفوا علنًا بموجب هويتهم الإسلامية. لقد كانت قضايا المسلمين تعالج عموما من منظور اللون، والعرق، والطبقة الاجتماعية، كما شكلت الهجرة الجماعية من المستعمرات البريطانية في أواخر القرن التاسع عشر عامل تحول مهم في بدايات تشكل مجتمع مغاير على أساس الدين: تشكل مجتمع مسلم مقيم إقامة دائمة كمواطن بريطاني وليس مجرد عابر كطالب أو تاجر. مثّلت هموم توفير الأكل الحلال والمساجد للعبادة بعض الحاجيات الأولية للمجتمع المسلم الناشئ بصفة الأقلية.
هناك عوامل عديدة يسّرت تكوّن تجمعات سكانية للمسلمين في بعض المدن،من تلك الأسباب تغيّرات في قوانين الهجرة التي أدّت إلى زيادة ملحوظة لهجرة الأسر من المستعمرات السابقة، وخاصة من شبه القارة الهندية، بعد الحرب العالمية الثانية إلى نهاية السبعينات، وتشابكات العلاقات الاجتماعية لتيسير الهجرة من البلد الأم للأقارب والمعارف. شكّلت اعتبارات الفرص الممكنة للعمل والعلاقات الاجتماعية الداعمة عوامل مهمة في اختيارات الوجهة للمهاجر الجديد، ومن المدن التي تركزت نحوها الهجرة لندن، وليفاربول، وبرمنغهام، ومانشستر، وبرادفورد، ولستر وغير ذلك. فتكونت طبقات عاملة مكتظة في السكن بسبب ضعف المداخيل ومتكتلة في أحياء معينة لتواجد الحاجيات الأساسية من أكل حلال، ومساجد، وعلاقات اجتماعية تحمي من العنصرية بالمجتمع الجديد، كما تدعم حاجيات القادمين الجدد من البلدان الأم.
ساهمت تلك التجمعات السكنية في إبراز “الهوية الإسلامية”، وخاصة بعد توسع المساجد وبداية ظهور الحاجة لتوفير التعليم الإسلامي بنهاية السبعينات وما بعدها. أثار تزايد وجود أطفال المسلمين بالمدارس الحكومية بعض التشنجات بين المدارس وأولياء التلاميذ من حيث التربية الدينية والطعام والعلاقات بين الجنسين. كما طرحت مسألة الهوية الإسلامية للنقاش ضمن قضايا الاندماج وتعدد الثقافات بالمجتمع البريطاني وخاصة إثر نشر كتاب سلمان رشدي، بنهاية الثمانينات، وبعض المصادماتفي مدن كمدينة “برادفورد” ذات التواجد المكثف للمسلمين. كذلك، فإن المجتمع المسلم قد شهد هجرات واسعة من الصومال، ومن العراق، وبعدها من مصر، وسوريا، وليبيا، وغير ذلك من الأماكن المحتقنة. وتمثل الهجرة من الجزائر جزءا بسيطا من التنوع في طبيعة المجتمع المسلم في بريطانيا،فعلى سبيل المثال، عدد كبير من الطلبة الجزائريين المبتعثين إلى بريطانيا اضطروا أو اختاروا الإقامة بسبب الوضع السياسيالمتقلب وغير الآمن بمرحلة التسعينات عقب الانقلاب العسكري. وبسبب تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية والاجتماعية في الجزائر فقد توسعت هجرة الجزائريين إلى بريطانيا لتشمل مختلف شرائح المجتمع بالطرق الشرعية وغير الشرعية. وفَّر الوسط البريطاني مناخا أكثر قبولا للثقافات المتعددة وللخلفيات الدينية مقارنة بالوضع الفرنسي الذي كان التوجه الطبيعي لهجرة الجزائريين منذ زمن، ولعبت العولمة بالإعلام، تيسير التنقل، وسهولة التواصل وبناء العلاقات الاجتماعية للمساعدة وتوفير المعلومة أدوارا مهمة للتعريف بالوسط البريطاني كخيار من بين خيارات هجرة الجزائريين.استقرت هذه المجموعات المختلفة، ومنها الجزائرية، لتنتقل من مرحلة الهجرة إلى حال المواطنة البريطانية والمشاركة الفاعلة بمختلف الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية البريطانية.
أما بالنسبة للتعداد السكاني فقد مثّل المسلمونثاني أكبر مجموعة دينية في إحصاء السكان لعام 2011 ببريطانيا، بنسبة 5% من التعداد الكلي للسكان. كما تميّز المجتمع المسلم بفئة شبابيةبمجموعة عمرية الأصغر مقارنة بالجماعات الدينية الرئيسية في إنجلترا وويلز في عام 2011،وبناء على نفس الإحصاء السكاني لعام 2011 في إنجلترا وويلز[1]، فقد كان ما يقرب من نصف المسلمين (48٪) بأعمار أقلمن 25 عامًا (1.3 مليون)، وتسعة أعشارالمسلمين (88٪) تقل أعمارهم عن 50 عامًا (2.4 مليون). أما من حيث التنوع العرقي، فإن غالبية المسلمين في بريطانيا من أصول تعود لشبه القارة الهندية، كما توجد مجموعات عرقية أخرى متنوعة ومنها المنحدرة من البلاد العربية.
مشاكل الفقر والبطالة والتخويف من الإسلام:
أظهر نفس الإحصاء السكاني لعام 2011 في إنجلترا وويلز، بأن المجتمع المسلم يعاني من الفقر والتهميش، إذ أن ما يقرب من نصف السكان المسلمينبإنجلترا ووايلز (46٪) يقيمون في 10٪ من المناطق الأكثر حرمانًا في إنجلترا.أما بالنسبة للدراسة الجامعية، فقد كان هناك 329.694 طالبًا مسلمًا بدوام كامل (43٪ إناث و 57٪ ذكور)؛ والعديد من هؤلاء سيكون بحاجة إلى دعم منالأسر، وخاصة في ظل القروض الدراسية المتراكمة ومحاولة تجنب بعضهم الدخول في شبهة القروض الربوية. أما بالنسبة للتوظيف، 29٪ من النساء المسلمات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 16 و 24 سنة كن يعملن مقارنة بما يقاربالنصف بالنسبة للنساء في عموم السكان. من بين النساء المسلمات في الفئة العمرية 16-74 ، 18٪ “يعتنين بالمنزل أو الأسرة” ، مقارنة بـ 6٪ من النساء في عموم السكان. ولعل النسبةالمنخفضة لعمل المرأة المسلمة تساهم فيها عوامل عديدة منها ارتفاع الفئة الشبابية ضمن المسلمين، وبالتالي ضرورة الاهتمام بالأسرة الفتية بأطفال صغار بحاجة إلى رعاية، ولكن من دون إغفال ظروفالتنميط السلبي الذي تتعرض له المرأة المسلمة وإمكانية مساهمته في فرص العمل المتاحة أو التدريب المناسب أو البيئة المناسبة للعمل. أما الإحصاء الوطني في اسكتلندا[2]لسنة 2011 فقد أظهر بأن الاكتظاظ في السكن الواحد هو الأعلى بالنسبة للأسر المسلمة مقارنة بالمجموعات الدينية الرئيسية الأخرى. كذلك بناء على نفس الإحصاء باسكتلاندا فالمسلمون من بين الفئات الأقل امتلاكالمنازلهم الخاصة ويعانون من البطالة حيث 16٪ منهم لم يعملوا أبدًا.
ومن خلال هذه الإحصائيات تتبيّن بعض التحديات التي تواجهها الأسرة المسلمة في هذا الوسط. مثلا، انخفاض الدخل للأسرة سيضطرها إلى الإقامة في أماكن محرومة تضعف فيها المرافق وتكون فيها نسبة الجريمة مرتفعة عادة. كما أنمكان الإقامة يثير أسئلة كثيرة حول جودة الموارد المتاحة للساكنين بتلك المناطق الفقيرة من حيث الصحة، والتعليم، والشبكات الاجتماعية التي تساهم في تيسير فرص العمل.أما بالنسبة للتعليم فالأسر الفقيرة قد لا تتمكن من دعم تعليم أبنائها بالدروس الخصوصية، وخاصة مع الضعف العام للتعليم الحكومي المجاني في الأماكن الفقيرة لأسباب معقدة، ولذلك فستكون فرص المتمدرسين في الأماكن الفقيرة أقل حظا من المناطق الثرية من حيث التحصيل الدراسي والالتحاق بالجامعات الكبرى التي توفر شهاداتها فرصا أفضل للشغل بسبب جودة التكوين وسمعة الجامعات. وبهذا تجد الأجيال نفسها تتداول الأدوار في سلسلة الفقر وضعف التعليم والصحة ونقص فرص العمل. كل هذه الظروف تنعكس على الحالة النفسية والاجتماعية للأسرة المسلمة التي تعاني من الاكتظاظ في البيوت مما قد يدفع بالأبناء الناشئين إلى الترفيه في مساحات جوارية قد يكونوا فيها أكثر عرضة للدخول في شبكات الجريمة.
يشكل التخويف من الإسلام والمسلمين تحدياآخرللمجتمع المسلم على أصعدة عديدة منها تزايدالعنصرية في أماكن العمل بسبب التنميط والتمييز العنصري ضد ما هو “مسلم”.إن الخطاب “الأمني” يقدم “الآخر” المسلم من خلال منظور “الخطر” على القيم الليبرالية. لقد أثارت هجمات الحادي عشر من سبتمبر والهجمات المماثلة اللاحقة في الوسطالغربي المخاوف بشأن ما صار يعرف بالتطرف والإرهاب المحلي. وبالأخص فقد كان من تداعيات تفجيرات يوليو 2005 بلندن إثارة المخاوف بشأن التطرف بين المسلمين البريطانيين وصار المجتمع المسلم تحت المراقبة. ولذلك فقد انطلقت أصوات عديدة من داخل المجتمع المسلم تدعو إلى اعتبار تزايد عدد السكان المسلمين وشبابية هذا المجتمعكأمور إيجابيةلاستشراف دورهم المستقبلي الفاعل في البلاد بدل النظر إليهم كمصدر للخطر[3]. وبذلك فقد تحول الخطاب السياسي والاجتماعي حول المسلمينمن سياق “احترام تعددالثقافات”،الذي سمح بانتعاش المؤسسات الإسلامية، إلى تقديم “الليبرالية الحازمة” كخطاب بديل لتأطير السياسات الداخلية والجنوح نحو الدفع للانصهار في المجتمع العام، بقدر الإمكان. بل صارت النقاشات السياسية تتمحور حول مفهوم الدفاع عمّا بات يعرف بـ “قيمنا البريطانية” من “الآخر” الثقافي الأجنبي كما ورد في خطاب العديد من السياسيين، بل في خطاب رئيس الحكومة[4] نفسه سنه 2011 بألمانيا في لقاء ما يسمى بمحاربة الإرهاب، وما لحق بعد ذلك. لقد تم تأطير هذا النقاش ضمن أجندة أمنية بمزاعم منع التطرف من خلال وضع استراتيجية “بريفنتPrevent” المثيرة للجدل كجزء من المراقبة عبر المؤسسات المختلفة، بما في ذلك المؤسسات التعليمية من الابتدائي إلى الجامعة.منذ عام 2015، صار واجبا تطبيق السياسة الأمنية لبرنامج “بريفنت”، والذي يعتبره العديد من الباحثين بالتجسسي، مطلبًا قانونيًا لمؤسسات التعليم العالي بسبب قانون مكافحة الإرهاب والأمن لعام 2015[5]. على الرغم من وجود مخاوف بشأن جميع أشكال التطرف، بما في ذلك المخاوف بشأن التطرف اليميني، فالبيانات المختلفة تشير إلى أن أكثر المحوَّلين للتحقيقات عبر هذا البرنامج ولسنوات عديدة كانوا من الشباب المسلم[6].
هذا الخطاب السلبي عن المسلم “الآخر” لهآثاره السلبية على المسلمين في بريطانيا. مثلا سنة 2018، أبرزت لجنة المساواة وحقوق الإنسان في بريطانيا[7] أن 70٪ من المسلمين الذين شملهم الاستطلاع قد عانوا من التحيز القائم على الدين خلال سنة 2018. وفي عام 2017، وجد تقرير حكومي صادر عن لجنة التحوّل الاجتماعي[8] أن شباب المسلمين الذين يعيشون في المملكة المتحدة “يُحرمون من تحقيق إمكاناتهم الكاملة في كل مرحلة من مراحل حياتهم”. نفس التقرير يؤكد بأن المسلمين يواجهون تحديات هائلة في مسار تغيير أوضاعهم الاجتماعية، ومن تلك التحديات زيادة احتمالية الانقطاع عن الدراسة في وقت مبكر من المشوار التعليمي، وهم الأقل احتمالية للحصول على درجات مرتفعة في شهاداتهم الجامعية وأكثر عرضة للبطالة مقارنة بغيرهم من الشباب من خلفيات أخرى. كما يبدو أن مثل تلك الخطابات في وسائل الإعلام تؤثر سلبًا على التقدم الوظيفي لبعض المشاركين وترقياتهم بسبب نقص الوعي الثقافي في بعض بيئات العمل حول المسلمين. كما يذكر التقرير أن النجاح الدراسي للشباب المسلم لم ينعكس في حضورهم في سوق العمل لأن هؤلاء الشباب يعانون التهميش أكثر من أيّ مجموعة دينية أخرى، من المجموعات الرئيسية، في المجتمع البريطاني.
كما أن جوّ المراقبة الأمنية والتخويف كان له آثاره في شعور العديد من المسلمين حول إمكانيةمشاركتهم في النقاشات السياسية.ففي عام 2017، تم إطلاق استبيان الطلاب المسلمين من طرف نقابة الطلاب (NUS)[9] لاستكشاف تجربة الطلاب المسلمين خلال 2017-2018، حيث تم تلقي 578 استجابة من الطلاب المسلمين المقيمين في المملكة المتحدة. وجد التقرير أن استراتيجية”بريفنت” للمراقبة الأمنيةتؤثر بشكل ثابت وكبير على فرص مشاركة الطلاب المسلمين في مجالات الديمقراطية والنقاش حول القضايا الحساسة التي تتعلق بهويتهم الإسلامية. حيث شعر ثلث المشاركين في الاستبيان بتأثر سلبي ببرنامج Prevent، كما أفاد العديد من المشاركين في ذلك الاستبيان الشبابي بتجاربهم السيئة نتيجة الإسلاموفوبيا والتمييز العنصري. في اسكتلندا مثلا، أفاد تعداد 2011 أن ما يقرب من ربع (23٪) مجموعة “المسلمين” كانوا طلابًا بدوام كامل، مما يعني فئة شبابية غالبا. وللأسف فإن بحثا معتبرا عن الإسلام في الحرم الجامعي في سياق التعليم العالي البريطاني، للباحثة “سكوت-بومان”[10] وآخرين سنة 2019، كشف عن كيفية مساهمة التدابير الأمنية لمكافحة الإرهاب في التمييز ضد الموظفين والطلاب المسلمين وتسييس هويتهم في حرم الجامعات.
هذا الجوّ يؤثر على خيارات الشباب من حيث الرغبة في إظهار الهويّة الإسلامية، فمنهم من يتحدى ويتحمل عواقب ذلك من قيود محتملة على الفرص والخيارات المهنية لاحقا، ومنهم من يشعر بالضغط ويفضل إخفاء معالم هويته الإسلامية. كما أن هذا الشعور بالخوف من إظهار معالم الهوية الإسلامية ينعكس مباشرة على بعض الالتزامات الإسلامية كالصلاة أو الحجاب أو الطعام الحلال في جوّ العمل. وبالتالي فهذه التحديات الخارجية تخلق العديد من الأزمات والتحديات التربوية بين الأجيال داخل الأسر، وخاصة تلك التي تحاول التزام الهوية الإسلامية. من تداعيات ذلك أن بعض الأسر تجد نفسها في صدامات وتشنج العلاقات مع أولادها وبناتها حول اللباس، والعلاقات بين الجنسين من دون زواج، بل وكذلك علاقات المثلية الجنسية، والتشكيك في العقيدة وبعض الالتزامات الإسلامية، ومشاكل أخرى كالمخدرات وشرب الخمور، والردة. كذلك، ونظرًا لصغر سن الكثير من المسلمين في بريطانيا، فإن هذه التجارب السلبية التي تحدث عنها الطلاب المسلمون تثير مخاوف جدية بشأن صحتهم النفسية وفرص تقدمهم وتوظيفهم، وكل ذلك سينعكس على أحوال الأسرة المسلمة. هناك بحوث ميدانية شرعت في متابعة تأثيرات ذلك على الصحة النفسية لأبناء المسلمين. من بين تلك التداعيات قضايا الانحراف والتوجه نحو الجريمة، فنسبة المساجين المسلمين تعتبر فوق المتوسط مقارنة بالأقليات الدينية الأخرى. وهذا الوضع مرجعه إلى عوامل عديدة ومعقدة، منها خلفيات أماكن السكن بالمناطق الفقيرة التي تضعف فيها فرص جودة التعليم والصحة والعمل، كما أن قضايا الإرهاب والتنميط ومتعلقاته ساهمت بنسبتها في ذلك.
أما بالنسبة للمرأة المسلمة فإنها بصفة خاصة تواجه تحديات على مستوى الثقافة المحلية لمجتمعها المسلم المنغمسة في تقاليد تهميشها، وكذلك المعاناة من التنميط من المجتمع العام. في ظل هذا السياق السياسي الغربي المشحون بالخوف من “الآخر” المسلم، ربما لا يكون مفاجئًا أن النقاش حول المواطنة والمجتمعات الإسلامية غالبًا ما تتم صياغته بلغة وضع المرأة والمساواة ورموز الاضطهاد. في فرنسا مثلا، يُظهر الجدل الذي بدأ حول الحجاب في الأماكن العامة تعقيداتمزاعم الحقوق المتساوية للمرأة في أوروبا الغربية ويثير تساؤلات كثيرة حول معاني العلمانية والمساواة والمواطنة والأخوة. أما في بريطانيا، رغم اختلاف الوضع كثيرا عن فرنسا فالمحجبة أحسن حالا وقبولا في المؤسسات الرسمية، ففي سنة 2018 نجد بوريس جونسون، الوزير السابق ورئيس الوزراء الحالي، يصف النساء المسلمات اللواتي يرتدين غطاء الوجه، على أنهن يشبهن “صناديق البريد”. علاوة على ذلك، يُنظر إلى النساء المسلمات في تصريحات تنسب إلى ديفيد كاميرون سنة 2016، رئيس الوزراء حينئذ، على أنهن “خاضعات” وبحاجة إلى تعلم اللغة الإنجليزية. هذا التنميط المستمر للمرأة المسلمة، بأنها مقهورة وخاضعة ولا تتحدث اللغة، ينعكس على فرصها في العمل كما ينعكس على نوعية المعاملة التي تتلقاها باستمرار في المجتمع باعتبارعدم الكفاءة. بالتأكيدفدور المرأة المسلمة في بريطانيا متعدد الجوانب، ومع تعدد الخلفيات فلا يمكن التحدث عن صورة نموذجية واحدة لها، فالمرأة المسلمة، وبحجابها الظاهر، باتت متواجدة في قطاعات عديدة من التعليم، إلى الصحة، إلى الشرطة، إلى الإدارة، إلى النشاط السياسي والحزبي.
مشاكل التعليم
بدأت تحديات تعليم أبناء المجتمع المسلم تشكل قلقا متزايدا للجيل الأول من المهاجرين منذ منتصف الخمسينات وتزايد القلق بالستينات والسبعينات مع ارتفاع أعداد المقيمين من الأسر المهاجرة حيث التحق الأبناء بآبائهم بسبب تحولات مرتقبة في قوانين الإقامة. قدمت نسبة كبيرة من أبناء المسلمين المهاجرين حينئذ من خلفيات ريفية فقيرة من شبه القارة الهندية مستجلبين معهم بعض تقاليدهم الاجتماعية حول أدوار الرجل والمرأة لتطبيقاتها بالمجتمع البريطاني مما شكل بعض التصادمات مع المدارس البريطانية[11].
رغم كل تلك التحديات فالعديد من الأسر المسلمة من الجيل الأول للآباء لا تزال بعيدة عن فهم عمق التشنجات والتناقضات والضغوط التي يتعرض لها أبناؤها من الابتدائي إلى الجامعة من خلال الجوّ المدرسي والمناهج المدرسية وطرق التدريس التي لا تعتبر الإيمان بالوحي أو الغيبيات أو القيم الدينية كمسلَّمات، بل تطرح كل ذلك للتساؤل والنقاش والتشكيك والنسبية في الكثير من الأحيان.تكوِّن المدرسة وسطا اجتماعيا للثقافة الغالبة حيث يجد الطفل المسلم نفسه ضمن الأقلية الدينية في أغلب المدارس وغير ممثل كما يلزم في المناهج أو الطاقم التعليمي. يمتد الدوام المدرسي عادة من التاسعة صباحا إلى الثالثة والنصف مساء لخمسة أيام بالأسبوع؛ فحين يقضي الطفل معظم طفولته ببيئة تسائل القيم الدينية لأسرته فإن ذلك يكون مصدرا للضغوطات والتشنجات وتعقيدات بناء الهوية في العديد من الأسر المسلمة[12].
أما بالنسبة للمناهج المدرسية فتحتوي على الكثير مما يخالف القيم الإسلامية بداية من عقيدة التوحيد، إلى القيم الأسرية، إلى ثقافة الطعام والعلاقات الاجتماعية.في بعض البلدان الأوروبيةيتم تدريس الإسلام في المدارس العامة، كتعليم طائفي مخصص للمسلمين من داخل المنظور الإسلامي؛يختلف الوضع بفرنسا بسبب الجدل حول اللائكية والدين والجذور التاريخية لهذا الجدل. أما بالمملكة المتحدةفالإسلام يمثل جزءا من محاور التعليم الديني المقدم لجميع التلاميذ بمادة التربية الدينية بالمدارس الحكومية، وغير مخصص لطائفة بعينها، ولذلك فإن محتواهللتعريف بأساسيات الدين الإسلامي من منطلق أكاديمي نقدي وليس من زاوية تحث على التدين بالضرورة. يختلفالوسط البريطاني التعليمي عن الوسط الفرنسي بحيث أن الدين يعتبر مقبولا إلى حد ما ضمن المدارس الحكومية البريطانية، فيمكن للأطفال إظهار رموزهم الدينية، بخلاف فرنسا، بل من حق الطفل أن يطالب بمساحة كي يصلي فيها أثناء الدوام المدرسي، كما أنه من حق الأولياء سحب أطفالهم من حصص التعليم الديني والجنسي، مع بعض الشروط. رغم كل ذلك فإن الغياب من الحصص لا ينفي مناقشة الأطفال لكل ما شاهدوه أو ناقشوه بالأقسام الدراسية أو في مواد أخرى، وقد يشعر الطفل المسلم بالعزلةعن أصدقائه إن سحبه أهله من الحصص، وبالتالي فيعيش الطفل ازدواجية في نقاش القيم بين الأسرة والمدرسة. كما أنّ التربية الجنسية تدرّس بطريقة تعتبر فاضحة بمعايير الثقافة الإسلامية من حيث مشاهد الفيديوهات المستخدمة داخل القسم التدريسي، أو المحتوى المشجع على الحرية في اختيار طبيعة العلاقات الجنسية المختلفة. بالتأكيد فهذه المواد قد شكلت بعض التشنجات بين الأهل والمدارس حول تدريس بعض المواضيع كالعلاقات المثلية مثلا.وهناك مسلمون يطالبون بمساجد للمثليين مثلا، ومساجد بإمامة النساء، ولكن لا تزال تلك الدعوات هامشية جدا بالمجتمع المسلم البريطاني. تلك التشنجات تصوِّر المجتمع المسلم وكأنه لا يقبل القيم البريطانية أو الأوروبية الغربية، كما يستثمر فيها الإعلام اليميني لتشويه صورة المسلم “الآخر”.
لذلك فلا غرابة أن ينتج من تلك التراكمات والتناقضات بعض حالات الردة عن الإسلام من أبناء أسر مسلمة ومحافظة أيضا. رغم أن هناك بعض الإقبالالملاحظ علىاعتناق الإسلام من مختلف الخلفيات العرقية والدينية والفكرية والطبقات الاجتماعية، فإن الردة عن الإسلام كذلك متواجدة بين الشباب ومنهم من كوّن هيئات للدفاع عن حقوق المرتدين عن الإسلام. هناك أسر مسلمة محافظة جدا وتتفاجأ بعمر المراهقة بارتداد أبنائها عن الإسلام تحت تأثيرات تشنجات الهوية، والقيم المدرسية، والإعلام، والعنصرية، وضعف تكوين الأسر المسلمة في مواجهة العمق الفلسفي للشبهات المطروحة والتي تخلخل العقيدة والثقة في القيم الإسلامية. معظم الأسر من أبناء الجيل الأول تنحدر من طبقة اجتماعية عاملة بسيطة في تعليمها، أو من أسر متعلمة ببلادها الأصلية وغير محيطة بالمناهج الدراسية أو الأطر الفلسفية القيمية لوسطها الجديد. قد تكون تلك الأسر تتحدث اللغة الإنجليزية، مثلا، ولكنها لا تدرك عمق الثقافة وكيفية نقاشها؛ لأنها لا تعيش داخل المنظومة الفكرية والثقافية التي يعيشها الطفل. لأجل ذلك فإن الانفصام الثقافي والقيمي يتنامى مع تقدم الأطفال في المنظومة الدراسية والعمل،وقد تهمش القيم الإسلامية للأسرة وكذلك لغتها الأم تدريجيا، إن لم تعزز بمتابعات تعليمية موازية.
كما أن استراتيجية “بريفنت” الأمنية لمواجهة التطرف، المشار إليها سابقا، قد استهدفت العديد من الأسر المسلمة من خلال ما يكتبه الأطفال في المدارس، فقد حولت بعض الأسر للتحقيقات حول التطرف لأخطاء في فهم التعبيرات الكتابية للأطفال أو مشاركاتهم في الدروس على مستوى المدرسة الابتدائية. وبهذا صارت الكثير من الأسر المسلمة تشعر بالاستهداف الأمني والتجسس على أطفالها عبر المدارس والمؤسسات التعليمية.
مشاكل الانقطاع عن الأهل: اللغة والامتداد الثقافي والاجتماعي مع البلد الأم
أغلبية الأسر الجزائرية في بريطانيا تتكون من أسرة نووية من أب وأم وأطفالهما بسبب حداثة الهجرة الجزائرية إلى بريطانيا مقارنة بفرنسا، وبذلك يحرم الأطفال من مصادر تربوية لغوية وثقافية للعائلة الموسعة بالبلد الأم، كما يحرم الأطفال من مصادر الحنان وتطوير العلاقات الاجتماعية داخل العائلة، ولهذا تداعياته النفسية والتربوية. بالإمكان التخفيف من تلك التداعيات بالزيارات المتواصلة للبلد الأم وقضاء بعض الوقت هناك. بالنسبة للعديد من الأسر الجزائرية مثلا، فالتكاليفالمرتفعة جدا وبعض الإجراءات المعقدة للزيارة تعيق استمرارية التواصل بين الجيل الجديد وبلده الأم وعائلته الممتدة هناك.ذلك التباعد يؤثر على جوانب الهوية من حيث تطوير اللغة الأم والعادات وبناء العلاقات الاجتماعية. لأجل الحفاظ على مقومات الهوية فإن العديد من الأسر المسلمة تسعىلتزويج أبنائها الذكور من البلد الأم من الأقارب والمعارف لأجل التواصل الثقافي في أسرة الجيل الثاني، وهذا يزيد من مشكلة تزويج البنات من الأكفاء داخل المجتمع البريطاني مع محدودية الفرص ضمن المجتمع المسلم. ولقد زاد من حجم هذا التحدي في الزواج تشديد شروط الهجرة لاستقدام الأزواج من غير البريطانيين حيث يشترط ما يزيد عن18600 جنيه إسترليني كراتب سنوي لمن يريد الاستقدامأو أن يكون لديه مدخرات كافية ليتمكن من رعاية زوجه أو زوجته، مع ضمان السكن المناسب ومصاريف التأشيرة والضمان الصحي. يكون الحد الأدنى من المتطلبات المالية أعلى إذا كانوا يقومون أيضًا برعاية الأطفال بسن الرعاية. كما يجب أن يفي الزوج المستقدم بمتطلبات اللغة الإنجليزية. إن كانت هذه الشروط تعتبر مرتفعة السقف بالنسبة للكثير من الشباب، بسبب أن نسبة مرتفعة منهمإما في الدراسة أو المهن البسيطة في المطاعم والفندقة أو البطالة،فإن ذلك سيسبب ضغوطا أكبر للفتاة من مجتمع مسلم محافظ. استقدام زوج من البلد الأم سيلزمها بدوام كامل عادة، إن كانت لها الكفاءة لعمل يوفر لها ذلك الراتب المرتفع نسبيا، مما قد يؤثر في طبيعة علاقتها مع الزوج المستقدم الجديد بثقافة متباينة بعض الشيء حول أدوار الزوجين في الأسرة. لأجل ذلك فإن العديد من الأسر تخشى المغامرة بتزويج البنات من البلد الأمخشية أن تتعب ثم يستغني عنها زوجها بمجرد حصوله على وثائق الإقامة ليتزوج من بنت البلاد الأصلية التي قد يجدها أكثر ملاءمة لخلفيته الثقافية واللغوية. يشكِّل ارتفاع نسبة البنات الباحثات عن أزواج مناسبينهاجسا للكثير من الأسر المسلمة من مختلف الخلفيات العرقية.لأجل ذلك فقد توسع مجال الزواج المختلط بين المسلمين من خلفيات عرقية وثقافية مختلفة. كما أن هناك زيجات عديدة من زواجات من غير المسلمات. ولهذه الزيجات المختلطة ميزاتها، ولكن لها تحديات كبيرة أيضا، وخاصة عند الانفصال، ويزيد التحدي حين تكون الزيجة بديانات مختلفة وتداعيات ذلك على ديانة الأطفال.
دور المؤسسات الإسلامية: المساجد والمدارس
تتواجد الأسرة المسلمة ضمن هذه التجاذبات السياسية والاجتماعية؛ فمثل هذا الوسط يخلق لها فرصا للنجاح ولكن يعرضها لتحديات عويصة أيضا. ولأجل محاولة الاستجابة لبعض من تلك التحديات التعليمية والدينية والثقافية توجه المسلمون إلى تأسيس المساجد والمراكز الإسلامية والمدارس.
بالنسبة للمساجد، فقد شهد الوسط البريطاني نشاطا للمساجد بداية من المسجد المعروف في مدينة ليفربول الذي أسسه ويليام عبد الله كويليام سنة 1889 بعد اعتناقه للإسلام، وكان ينشط باللغة الإنجليزية ويتواصل مع المجتمع البريطاني الواسع، ويعتبر هذا المسجد عند العديد من الباحثين كخطوة أولى في إضفاء الطابع المؤسساتي في حضور المسلمين بالوسط البريطاني. استمر هذا التطور المؤسساتي تدريجيا، وبعد ذلك تم إنشاء مسجد شرق لندن ومسجد لندن المركزي في ريجنت بارك في عامي 1941 و 1944 على التوالي.
ولكن للحالة المالية المتعثرةلشريحة واسعة من المجتمع المسلمتأثيراتها في مدى توسع وجودة المساجد، والمؤسسات الإسلامية عموما، كي تستجيب بفاعلية للمجتمع المسلم. لقد شكَّل ضعف تكوين الأئمة في التعامل مع تشابكات المجتمع الغربي عائقا في الانتفاع الأمثل من العديد من المساجد.إن الكثير من الأئمة وعلماء الدراسات الإسلامية الذين قدموا إلى بريطانيا منذ السبعينيات لم يتقنوا اللغة الإنجليزية وقتئذ، بل كان بعضهم عاجزا تماما عن التحدث بها أو فهمها، ولذلك تجدهم يستخدمونبشكل رئيسي لغاتهم الأم من الأردية والبنجابية والغوجاراتية، أو ربما السيلهيتية أو العربية. هذا التأهيل الضعيف للأئمة انعكس على الأطفال والنساء كذلك وعلى مدى فاعلية المساجد في الاستجابة لحاجيات الأسرة[13]. كان تعليم الأطفال بالمساجد ضعيفا، وتتخلله الكثير من المخالفات البيداغوجية والتربوية، ومنها انتشار ضرب الأطفال، مما جعل التعليم المسجدي غير قادرعلى تلبية حاجة المجتمع المسلم التعليمية ولم يستطعتقديم الإسلام بطريقة إيجابية للجيل الجديد في منافسة التأهيل البيداغوجي العالي في المدارس الحكومية العامة، وبهذا صار التعليم الإسلامي يقدم للأطفال بطريقة دونية[14].
إن أدوار الإمام في السياق الغربي أكثر تعقيدا من مجرد إمامة الصلاة؛ لأن عليه التعامل مع قضايا التشكيك في العديد من المسلَّمات الإسلامية بمتعلقات الهوية والعقيدة الإسلامية.لأجل ذلك فقد واجهالعديد من الأئمة متابعات قضائية بسبب مخالفات في عقود الزواج أو الطلاق أو التعامل مع الأطفال في دروس العربية والتعليم الإسلامي بالمساجد. بالإضافة إلى كل ذلك فقد نشأت فجوة شقاق بين الشباب المسلم الذي ولد وترعرع في السياق الغربي والأئمة التقليديين المستقدمين من البلدان الإسلامية، حيث كان معظم الأئمة مستقدمين من البلاد الأم يفتقر إلى إجادة الفهم أو التعامل مع مشاكل فئة اليافعين والشباب. لقد بات يُتوقع من الأئمة أن يلعبوا أدوارًا عديدة في عمق المجتمع البريطاني، منها التعامل الإعلامي، مثل دور الكهنة والقساوسة، ولكنهم لم يتدربوا على كل ذلك. ومن هنا نشأت مؤسسات إسلامية كمحاولات لتكوين الأئمة لتلبية حاجيات المجتمع المسلم بالغرب، وذلك بتكوين علماء مسلمين ضمن البلدان الغربية المختلفة الذين يمكنهم الجمع بين فهم وتقدير التدريب الديني الإسلامي التقليدي والأدوار المختلفة للإمام، مع تطوير المهارات المهنية والاحترافية الواعية بالمنظومة القيمية والقانونية والسياسية والثقافية للمجتمعات الغربية.
كذلك فإن النظام القبلي والريفي لبعض الخلفيات المسلمة مع عدم استقرار المجتمع المسلم بوسطه الجديد جعل أغلب لجان المساجد في بداياتها مقتصرة على الرجال مما جعل حاجات النساء مهمشة في الكثير من المساجد، وبهذا صارت العديد من المساجد في عقود من الزمن يُنظر إليها على أنها”نوادي صلاة للرجال”11. ورغم تحسن الأوضاع نسبيا مع تقدم الشباب من الجيل الناشئ في الوسط الغربي للنشاط المسجدي، فإن النساء لا تزال تعاني من التهميش في خدمات الكثير من المساجد، وخاصة تلك المتبنية للآراء الفقهية المذهبية التقليدية بمنع النساء من المساجد. المشكلة أن التضييق على التواجد النسوي بالمساجد يهمش تواجد الأطفال وارتباطهم بالمسجد كمؤسسة دينية في المخيال الإيجابي للطفولة، وذلك جزء مهم في الهوية عن طريق تعزيز الانتماء الوجداني مع الناشئة. وبهذا بات لزاما التوجه إلى إنشاء مؤسسات تعليمية مختصة في الجانب التعليمي الإسلامي استجابة لحاجيات الأسرة التي ما استطاع التعليم المسجدي أن يوفرها بالمستوى المطلوب.
المدارس
التعليم إلزامي في إنجلترا، وجميع الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين خمسة وستة عشر عامًا يحق لهم الالتحاق بالتعليم الحكومي المجاني، غير أن سياسات التعليم قد خلقت خياراتمدرسية متنوعة لأولياء الأمور. تجدر الإشارة بأن المنظومة التعليمية البريطانية تحتوي على تنوع من حيث طبيعة المدارس الابتدائية والمتوسطة، ومن ذلك مدارس حكومية مجانية متنوعة من حيث تشكيلتها الإدارية وطبيعة أهدافها،ومدارس خاصة يختارها الأهل ويدفعون رسوم الدراسة بها[15]. أما المدارس الحكومية المجانية فيلزمها اتباع المناهج الدراسية الوطنية، ولكن ليس لها انتماء ديني ولا تدعمها الشركات الخاصة، والأغلبية الساحقة من أطفال المسلمين منخرطين في مثل هذه المدراس العامة.
ومن بين أنواع المدراس المجانية المدعومة من المال العام، المدارس الدينية والتي تتمتع بسلطة تقديرية في اختيار محتوى الدراسات الدينية وشروط القبول وسياسات التوظيف، والتي يمكن أن تختلف عن المدارس الحكومية ذات الانتماء غير الديني، ولكن من الضروري اتباع المنهج الوطني. هذه المدارس الدينية تضم أهم الديانات المتواجدة بالمجتمع البريطاني، وقد تشكلت المدارس الإسلامية بوقت متأخر ضمن هذه المنظومة التعليمية المتنوعة، فتوجد مدارس إسلامية بدوام كامل، حكومية وخاصة. تمكنت المدارس الإسلامية من الحصول على التمويل الحكومي لأجل توفير تعليم إسلامي مجاني بنهاية التسعينات بعد جولة صراع طويلة مع الحكومات بشأن تمويل التعليم الإسلامي قادها الفنان المشهور “يوسف إسلام” وقتئذ، وغيره. تجدر الإشارة إلى أن هناك نسبة معتبرة من أطفال المسلمين منخرطين بالمدارس الدينية الكاثوليكية أو الإنجليكانية للحفاظ على قاعدة الإيمان بوجود الخالق.
تهدف المدارس الإسلامية المجانية إلى تقديم الإسلام بوضوح ضمن مناهجها؛ ستجد مصليات للتلاميذ في تلك المدارس وتبرمج الصلوات ضمن الجدول الزمني اليومي، كما تبرمج عطل الأعياد الإسلامية ضمن البرنامج السنوي. كما أن هناك مدارس إسلامية خاصة بدوام كامل ولكنها متنوعة من حيث فلسفتها التعليمية، والبرامج التربوية، والمناهج من حيث عمقها وأهدافها. توفِّر تلك المدارس البيئة الاجتماعيةالإسلامية بالمدرسة والتي يسعى الكثير من أولياء التلاميذ المسلمين إلى توفيرها لأولادهم. هناك أيضامدارس إسلامية بالمرحلة المتوسطة، معروفة بدار العلوم أو “الجامعة”، متخصصة في الدراسات الإسلامية. مدارس “دار العلوم” لها تاريخها في شبه القارة الهندية، حيث تدرس المناهج الملزمة بها في المواد الأساسية ثم تضيف إليها مواد إسلامية أخرى كالفقه والحديث والسيرة وغيرها بهدف تكوين قاعدة شرعية صلبة للمتعلمين للعمل كأئمة أو مرشدين بالمجتمع المسلم، ولكن بالطريقة التقليدية عادة، وتتعرض هذه المدارس باستمرار لبعض التطويرات مع انضمام الجيل الجديد من المتعلمين.تواجه مدارس “دار العلوم” نقدا لاذعا من الإعلام اليميني، وبعض تلك المدارس قد حكم بإغلاقه أو وصل مع وزارة التعليم إلى أروقة المحاكم بسبب محتوى ما يدرسأو طبيعة المواد التعليمية المعثور عليها في المكتبات والتي تعتبر متطرفة بمعايير مفتشية المدارس في بريطانيا.
بخلاف المساجد، باعتبارها مساحات خاصة للعبادة، فإن المدارس الإسلامية تتزايد بالوسط البريطاني كمحاولة استجابة للحاجيات التعليمية للأسر المسلمة وكذلك كمحاولة للتفاعل مع المجتمع الواسع ومؤسساته بما لا يقوم به المسجد بنفس الطريقة باعتباره مكانا مخصصا للعبادة أساسا. وفي هذا الصدد فقد أطلقت جمعية المدارس الإسلامية (AMS-UK)[16] جهودًا متزايدة لتعزيز التحصيل التعليمي للأطفال المسلمين، وتوفير التدريب ومكافحة الصور النمطية السلبية لوسائل الإعلام التي تواجه المدارس الإسلامية في بريطانيا. أما بالنسبة لأغلبية الأطفال الدارسين بالمدارس الحكومية غير الإسلامية فيمكنهم الالتحاق خلال عطلة نهاية الأسبوع بمدارس ثقافية لتعليم اللغة العربية وباقي اللغات الأم، كما يمكنهم اجتياز امتحانات المراحل المتوسطة والثانوية وحصولهم على شهادات في اللغة العربية وبعض اللغات الأخرى. تقدممدارس اللغات، ومنها اللغة العربية،بعطلة نهاية الأسبوع خدمة مهمة للمجتمع المسلم كاستجابة لحاجات الهوية اللغوية والدينية وتملأ فراغا بتوفير ظروف تعليمية أفضل من تلك التي بالمساجد. كما أن المساجد تواصل توفير دروس تحفيظ القرآن الكريم بنهاية الدوام أو بعطلة نهاية الأسبوع، وظروف بعضها في تحسن مستمر. رغم الأهمية الكبيرة لهذه المدارس بنهاية الأسبوع غير أن التلاميذ يعانون منتمديد دوام دراستهم إلى ستة أيام في الأسبوع، وذلك يشكل ضغطا كذلك على الأسرة.
هناك مدارس حكومية من دون توجه ديني بمناطق أغلبها من المسلمين وبالتالي فنسبة المسلمين في بعضها قد تتجاوز 90%، ولكنها لا تستجيب كما ينبغي للحاجات الثقافية والدينية للمسلمين، كما أن بعضها قد شهد رداءة كبيرة في المستوى التعليمي مما دفع بنشطاء في المجتمع المسلم للعمل جاهدين على تحسين جودة التعليم بتلك المدارس. رغم أن تلك المجهودات أنتجت نتائج ممتازة في تحسين مستوى تلك المدارس غير أنها واجهت حملة تشويهية عظيمة حول التخويف من مؤامرة لأسلمة المدارس الحكومية تحت ما بات يعرف ب”تروجان هورس (حصان طراودة)” بمدارس برمنغهام[17]. وبالرغم من أن المؤامرة المزعومة بالأسلمة لم تصمد أمام التحقيقات المختلفة، فقد أدت تداعياتها إلى مزيد من التخويف من المسلمين وكذلك تطبيق البرنامج الأمني”بريفنت” لمتابعة منع التطرف في قطاعات التعليم وتجاوزها إلى غيرها. إن ذلكيطرحتداعيات سلبية كبيرة على إمكانية تفاعل أولياء التلاميذ المسلمين مع المدارس الحكومية، هذه الزوبعة التنميطية جعلت نشاط أولياء الأمور المسلمين الناقدلمدارسهم المحلية محل شبهة “الأسلمة” المزعومة. ويجدر التذكير بأن ضعف تفاعل الأولياء مع المدارس له تداعياته السلبية كذلك على تحصيل التلاميذ، وهذا سيساهم في ضعف التحصيل المدرسي وبالتالي تعثر التقدم إلى مواقع القيادة في التوظيف لاحقا.
أخيرا، تجدر الإشارة بأن دور المرأة المسلمة كان فاعلا في النشاط التعليمي في الوسط البريطاني. رغم كل العراقيل التي تواجهها المرأة المسلمة، داخل مجتمعها المسلم وخارجه، فلم تكن مجرد مستهلك سلبي لتوفير التعليم الإسلامي، بل كانت فاعلة في نموّ المدارس وتطورها وتشكيل رؤاها. كانت المرأة من بين المؤسسين الأوائل للمدارس الإسلامية بحيث انطلقت من تعليم أولادها إلى تعليم مجتمعها المحلي، فشاركت كمؤسِّسة، وكمعلمة، وكقائدة تعليمية على مستويات عديدة. لقد وفّرت المدارس الإسلامية للمرأة مجالا منعشا لنشاطاتها وقيادتها التربوية بعيدا عن القيود الفقهية التي تحدّ من نشاطها في العديد من المساجد. بالتأكيد فهناك العديد من المساجد التي سمحت للنساء بالنشاط، رغم القيود بالمكان والزمان، وقد شاركت فيها النساء وقمن بأدوار فاعلة في توفير التعليم الإسلامي للنساء والأطفال.
خاتمة:
تواجه الأسرة المسلمة، المنحدرة في الغالب من خلفية هجرة من بلدان مختلفة، تحديات عديدة أهمها: قضايا الثقافة والهوية، ومن ذلك الصعوبات في الحفاظ على اللغات الأم والمعتقدات الدينية. بالتأكيد، هناك توجه ملاحظ ضمن المجتمع المسلم، وخصوصا فئة الشباب، نحو الإقبال على الهوية الإسلامية. هناك عوامل عديدة ساهمت في ذلك الإقبال، منها: تنامي عدد المؤسسات التعليمية الإسلامية من مساجد ومراكز إسلامية ومدارس إسلامية خاصة وحكومية، التواصل والتعليم عبر الانترنت، مع تنامي النشاط العلمي الديني للراغبين في تعلم العربية والدراسات الإسلامية ومتعلقاتها. كما أنه انتشر بين الشباب الإقبالعلى تعلم الإسلام بمفاهيم تختلف عن الموروثات الثقافية التقليدية التي يعتبرها العديد من الشباب مجرد تقاليد تتعارض مع حقيقة الدين الإسلامي، وخاصة بالنسبة للنساء. رغم توسع المؤسسات الإسلامية، كمحاولة للاستجابة لحاجيات الأسرة المسلمة،فإن محاور التنميط السلبي، والعمل، والفقر، والتعليم، والهوية-لا تزال تمثل محاور أساسية لسلسلة معقدة من الفرص والتحديات التي تواجهها تلك الأسرة المسلمةالتي استوطنت بالبلاد الغربية عموما، والوسط البريطاني الذي خصصه هذا العرض.
[1]Office for National Statistics. (2013). Full story: What does the Census tell us about religion in 2011? Retrieved from http://www.ons.gov.uk/ons/dcp171776_310454.pdf
[2]The Scottish Government. (2015). Analysis of equality results from the 2011 Census – Part 2. (9781785442261). Crown copyright Retrieved from https://www.gov.scot/publications/analysis-equality-results-2011-census-part-2/pages/4/
[3]Siddiqui, A. (2007). Islam at universities in England: Meeting the needs and investing in the future. Retrieved from Markfield: http://www.mihe.org.uk/sites/default/files/upload/Documents/siddiqui_report2007.pdf
[4] Cameron, D. (2011). PM’s speech at Munich Security Conference. Retrieved from https://www.gov.uk/government/speeches/pms-speech-at-munich-security-conference
[5]Qureshi, A. (2015). PREVENT: Creating “radicals” to strengthen anti-Muslim narratives. Critical Studies on Terrorism, 8(1), 181-191. doi:10.1080/17539153.2015.1005938
[6]UK Home Office. (2018). Individuals referred to and supported through the Prevent programme, April 2017 to March 2018. Lodon: Crown copyright Retrieved from https://assets.publishing.service.gov.uk/government/uploads/system/uploads/attachment_data/file/763254/individuals-referred-supported-prevent-programme-apr2017-mar2018-hosb3118.pdf
[7]The Equality and Human Rights Commission. (2018). Britain’s conflicting attitudes towards equality. Retrieved from https://www.equalityhumanrights.com/en/our-work/news/britains-conflicting-attitudes-towards-equality
[8]Social Mobility Commission (SMC). (2017). Young Muslims in the UK face enormous social mobility barriers. GOV.UK Retrieved from https://www.gov.uk/government/news/young-muslims-in-the-uk-face-enormous-social-mobility-barriers
[9] National Union of Students (NUS). (2018). The experience of Muslim students in 2017-18. Retrieved from London: https://nusdigital.s3-eu-west-1.amazonaws.com/document/documents/41267/29d43267ae2f2f0906450a27487fcd36/The_Experience_of_Muslim_Students_in_2017-18.pdf
[10]Scott-Baumann, A., Ebbiary, A., Ad Duha Mohammad, S., Dhorat, S., Begum, S., Pandor, H., & Stolyar, J. (2019). Towards Contextualized Islamic Leadership: Paraguiding and the Universities and Muslim Seminaries Project (UMSEP). Religions, 10(12). doi:10.3390/rel10120662
[11]Lahmar, Fella. 2012. Dealing with Diversity in Muslim Schools in Britain. Ph.D. dissertation, University of Nottingham, Nottingham, UK.
[12] Lahmar, F. (2020a). Islamic education: An Islamic “wisdom-based cultural environment” in a Western context. Religions, 11(8). doi:10.3390/rel11080409
[13] Gilliat-Ray, S. (2010). Muslims in Britain: An introduction. Cambridge: Cambridge University Press.
[14]Lahmar, Fella. 2012. Dealing with Diversity in Muslim Schools in Britain. Ph.D. dissertation, University of Nottingham, Nottingham, UK.
[15]Lahmar, F. (2020b). How leaders of outstanding Muslim schools in England interpret Islamic educational values in a neoliberal climate: ‘British values’ and the market competition. In J. Ö. Wilkinson, Deniz & K. and Arar (Eds.), Neoliberalism and education systems in conflict: Exploring challenges across the globe. London: Routledge.
[16]The Association of Muslim Schools UK. 2019b. Overview of Muslim Schools in the UK (2013). AMS-UK. Available online: https://ams-uk.org/muslim-schools-in-uk(accessed on 09 July 2021).
[17]Holmwood, J., & O’Toole, T. (2018). Countering extremism in British schools? The truth about the Birmingham Trojan Horse affair. Bristol: Policy Press.