لعلهم قادمون (قصة قصيرة) إبتسام شاكوش -سوريا-
لعلهم قادمون
تفحصت العجوز الشارع من خلال الزجاج المغبر فلم تتبين شيئا, الكون مغلف بغلالة من الضباب الكثيف, محرك السيارة ما زال يهدر بقوة , ركزت نظارتها على أرنبة أنفها , مسحت زجاج النافذة بأصابعها العجفاء المرتعشة مصيخة السمع, لعل خطوة ما تدنو من بابها, الدرب مقفر والأبواب على جانبيه مغلقة بإحكام, وليس سوى الريح, تؤدي معزوفتها الخالدة في المنعطفات, فتنتحب لها أشجار السرو في الحديقة القريبة.
تراجعت عن النافذة وعادت إلى سريرها, جمعت حولها ما استطاعت جمعه من ثياب وأغطية, لعلها تساعدها في مقاومة البرد النافذ إلى عظامها, تمددت على السرير, سحبت اللحاف فوق رأسها فانزاح تحت ثقله خمارها, شعرت بقشعريرة تجتاح جسدها الضاوي فاعتدلت جالسة, حاولت إصلاح الوضع وهي ترجع النظر بين صفيحة الوقود الفارغة, والمدفأة المطفأة, أطلقت تنهيدة محترقة, محطة الوقود بعيدة وجسدها خائر القوى, راجعت حساباتها, اليوم هو الخميس, تمنت أن يأتي أحد من أولادها أو أحفادها لزيارتها.
مرة أخرى سمعت صوت محرك سيارة تتوقف تحت نافذتها, لعلهم قادمون, تسلقت بأصابعها الهزيلة خصاص النافذة لتتأمل الطريق, فكرت: لقد تأخروا, تأخروا كثيرا, لعل أحمد, ابنها البكر في السوق الآن , يشتري لها الفواكه والحلوى التي تحبها, لعله تأخر بسبب الزحام والبرد, ليته يأتي الآن, تمنت لو يأتيها فارغ اليدين, ما عادت تريد شيئا سوى الدفء, وتمنت , لو تستطيع الذهاب إليهم, لتوفر عليهم عناء زيارتها ومشقة السفر من المدينة إلى قريتها البعيدة.
اقترب العصر فزادت حدة البرد, باب بيتها لم يطرق بعد, لعل مسعود قد تشاجر مع زوجته, وهو يسعى الآن لاسترضائها, ربما ذهبت إلى منزل أهلها مغاضبة كعادتها كل خميس, مسحت وجهها بكفيها وهي تعاتب سميرة بصوت مسموع: لماذا؟ لماذا ؟ ألا تتركين ولدي يقضي عطلته الاسبوعية سعيدا؟ أم تضنين علي بزيارته؟
أرهفت السمع, لاشيء سوى الريح, تصفر بين ثقوب الباب الخشبي العتيق, وتلوي هامات الأشجار حتى تكاد تلامس بها الرصيف, توقفت عن التفكير, ما عادت تقدر على تحمل البرد, أطرافها ترتعش بشدة, وما تبقى من أسنانها يصطك بقوة ما عهدتها من قبل, أزاحت أغطيتها وعادت لترجو صفيحة الوقود, ابتسمت فرحا, اذ اكتشفت في الصفيحة ما يملأ فنجانا من المازوت, سيكون حلا مؤقتا لمشكلتها, سارعت بإفراغها في خزان المدفأة, وأجالت الطرف تبحث عن علبة الثقاب, العلبة في مكانها قرب مصباح الكاز, وهذا اكتشاف آخر, في المصباح بعض الكاز, يمكنها الاستفادة منه للتدفئة, ولا بأس في المبيت بلا ضوء لو انقطع التيار الكهربائي.
سحبت علبة الثقاب فانهمر فوق رأسها وابل من الصور الشعاعية والأوراق الممهورة بأختام وتواقيع الأطباء, لابأس, قالت في نفسها, سأعيدها إلى مكانها بعد إشعال النار, حاولت إشعال عود الكبريت فانكسر تحت رعشة يدها, حاولت مرة ثانية, وثالثة, لا فائدة, لو يأتي أي أحد من الجيران فينقذها من مأساتها, لو يأتي.. أطلقت آهة مرتجفة واشتعل عود الثقاب., فابتسمت فرحا.
ألقت العود المشتعل في المدفأة والتفتت إلى ما تساقط عن الرف, توقفت عند شريط ورقي طويل, رسم عليه خط متعرج, يعلو يهبط في حركة لم تعرف لها تفسيرا, رفعته بيديها أمام النور المتسرب من النافذة, تأملته ثم رمته جانبا, دنت أكثر وأكثر من المدفأة, تأملت اللهب المتراقص خلف زجاجها, كان البرد قد تمكن منها بحيث لم تنفع معه حرارة النار, قررت العودة إلى السرير, وما أن استقرت عليه حتى فاجأها ألم حاد في صدرها, راح يشتد ثم يشتد, أحست كأن حجر الرحى قد استقر فوق أضلاعها, حتى ما عادت بقادرة على التنفس, لعله عارض مفاجئ يزول بعد قليل, أخذت بتدليك صدرها مرددة بعض الآيات والأدعية, ازداد وزن الرحى, حاولت القيام فلم تسعفها قواها, تلفتت حولها, النار في المدفأة بدأت تخبو, وخزانها ينزف آخر قطراته, زحفت الرحى على صدرها, تقدمت إلى عنقها وراحت تضغط بعنف, أغمضت عينيها من شدة الألم وأخذت نفسا متقطعا.
تحت وطأة الألم فكرت: أيكون أحد أولادها مريضا وأخوته مجتمعون للعناية به؟ ترى أيهم المريض؟ هم لم يخبروها, ربما يخشون عليها من القلق والحزن, لعلهم.. وأطلقت دعواتها ورجاءها, ناظرة إلى السماء المكفهرة من خلال زجاج النافذة.
في تلك الليلة, كان أحمد ابنها, قد جمع إخوته للاحتفال بعيد ميلاد ابنته, وكانت ليلة من ليالي العمر, أكل الجميع فيها وشربوا ورقصوا, ناسين العجوز, التي سمعت صوت محرك سيارة يعبر تحت نافذتها, فتحاملت على نفسها, لتنظر إلى الشارع, لم تتبين شيئا من خلال الضباب الكثيف, تمسكت بحرف السرير, زاد ألمها حدة فخانتها يدها, انكفأت على وجهها وغرقت في غيبوبة لم تصح منها, ما كان حولها أحد ليسمع دعاءها وابتهالها إلى الله كي يحمي أولادها من أي أذى, وما كان بقربها أحد ليرى الزرقة التي صبغت وجهها, او يرى جحوظ عينيها وهي تحاول النظر إلى الشارع, لعلهم قادمون.