حصريا

قضايا الأسرة في خطب محمد الغزالي دراسة في الحجاج وتقنيات الإقناع. د/الشريف حبيلة-الجزائر –

0 259

يعد سلوك الإنسان تمثيل للكون، والكون هنا مفهوم شامل، وهذا التمثيل وفق شروط، منها ما هو موضوع مسبقا، كما قدمتها الكتب السماوية، خاصة القرآن الكريم، ومنها ما تواضع عليه الناس، وفق أسس عقلية، وتأتي اللغة من أشكال هذا التمثيل، تنقل التجربة الكونية/الإنسانية من واقعها الفعلي إلى مستوى لغوي تداولي، وهنا يكون السؤال: كيف تمثل اللغة ويمثل الإنسان –خاصة المسلم- الكون؟ وهل هذا التمثل صادق أم كاذب؟ وهل كل تمثيل خاضع لمبدأ الصدق والكذب؟ وإذا أسقطنا هذه القضية على خطبة (محمد الغزالي)، فإن السؤال المحوري الذي يلخص إشكالية هذه الورقة هو: كيف تمثلت خطبة الغزالي الكون؟ أو كيف يريد للمسلم تمثل الكون؟ وما هي وسائله في إقناع الجمهور بهذا التمثيل كي يكون صادقا؟
وتعتمد الدراسة في بسط الموضوع نظرية كل من (لبرمان) و(تيتيكاه) في الحجاج في مصنف بعنوان “مصنف في الحجاج”، وهي نظرية تهدف إلى جعل الحجاج وسيلة للحوار، والوفاق، والوصول إلى رأي يسلم به، دون الوقوع في صرامة المنطق والاستدلال، لذا رأينا أنها الأنسب في تحقيق الطموح العلمي الذي ترجوه الدراسة.
أولا- التأسيس/تمثيل الكون:
يهدف كل نظام معرفي إلى بناء تمثل للكون، تمثل يكون مفيدا له، أو غير ضار به بالقدر الذي يكون مناسبا للكون الذي يوجد فيه، أي يتعين على التمثل أن يكون صادقا؛ فمثلا تمثيل معلومات من قبيل (يوجد فهد في الكهف المجاور للنهر، لذا من الأفضل تجنب المرور من ذاك المكان). وفرضا النهر هو مصدر الماء الوحيد في المكان المعني، فإن هذه المعلومة قد تدفع شخصا يصدقها على الرحيل إلى جهة أبعد أو يقوم بعطفات كبرى للبحث عن الماء الذي يحتاج إليه. وإذا كانت المعلومات كاذبة، أي إذا لم يوجد فهد بجانب النهر، وإذا لم يوجد أي خطر يهدد المنطقة، فإن هذه العملية تكلف جهدا وقد تكون خطيرة، ولا طائل منها، ومن هنا فائدة التمثل الصحيح للكون.
وإذا كان هدف نظام معرفي ما هو بناء تمثل للكون، وإذا كان ينبغي على هذا التمثل أن يكون مناسبا، أي إذا كان عليه أن يمثل على نحو صحيح الوقائع الموجودة في الكون، فإن السؤال الذي يطرح يتصل بتقييم هذا التمثل. والمسألة المهمة في بناء تمثل من هذا القبيل هي تقييمه وتعديله باستمرار، بأن نضيف إليه بعض العناصر أو نطرح منه أخرى أو نغير تقييمنا لها بالتوازي مع المعلومات التي نكتسبها.
ثم وفق أي نسق يتم تمثل الكون؟ وما هي الشروط التي ينبغي عليه أن يستجيب لها حتى يكون ناجعا، أي يمكن تقييمه من جهة صحة تمثله لوقائع الكون؟ ليست الإجابة عن السؤال الأول بسيطة، ولا يمكنها أن تكون إلا على وجه الافتراض. وتوجد إجابة مألوفة مفادها أن تمثل الكون يتم بلغة داخلية وكلية هي لغة الفكر.
ثانيا- الخطبة الناجحة من منظور الغزالي:
قبل أن يحدد الغزالي شروط الخطبة الناجحة، يحدثنا عن المسجد ودوره، باعتباره المكان الذي تلقى فيه الخطبة: “المسجد قلب المجتمع الإسلامي وملتقى المؤمنين بالغدو والآصال لأداء حقوق الله، واستلهام الرشد، واستمداد العون منه جل شأنه”، واستعمل في وصف المسجد لفظ (القلب)، إذا عدنا إلى دلالته فهي تتوزع على ثلاثة محاور أساسية هي: تحافظ على حياة الجسد، روحية تمنح الطاقة للاستمرار في الحياة، وفكرية -كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم- توجه وترشد هذه الحياة، وهو ما يؤكده الكلام اللاحق “وهو مصدر طاقة عاطفية وفكرية بعيدة المدى”، ونلخص ذلك في المخطط الآتي:

وظيفة بيولوجية
القلب وظيفة روحية المسجد المجتمع الإسلامي
وظيفة فكرية

إذن الغزالي يحصر حياة المجتمع الإسلامي في المسجد؛ به يحيا و من دونه يموت، ولعله يستمد ذلك من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي قام بعد الهجرة مباشرة ببناء المسجد، الذي كان بدوره أساس بناء مجتمع المسلمين، والملاحظ أن (الغزالي) لا يستعمل مصطلح المجتمع المسلم، بل المجتمع الإسلامي، وهو ذلك الذي يعيش الإسلام في كامل تفاصيل حياته، والمسجد لن يكون له هذا الدور إلا إذا كان خطيبه يمتلك قدرة الإقناع بما يقدم، ويتمثل الإسلام تمثيلا صحيحا وصادقا «وهو يشرح لهم تعاليم الإسلام ويبين لهم حدود الله، ويفقههم على ما في الكتاب والسنة من عظات وآداب»، لذا وضع شروطا للخطبة الناجحة، التي تحقق للمسجد صفة القلب التي عدها (الغزالي) من «شعائر الإسلام الكبرى، ومعانيها تنساب إلى النفوس في لحظات انعطاف إلى الله وتقبل لوصاياه».
نحصل من كل هذا على عناصر الخطبة وهي: (المسجد، الإمام، الخطبة/الموضوع، الجمهور):
المسجد

الخطيب المستمعون

هذه هي العناصر التي تحقق المجتمع الإسلامي، الذي يبدأ من عنصر أصغر مهم هو الأسرة، التي تحدث عنها (الغزالي) في خطبه في شكل مقتطفات، يقتضيها الموضوع الرئيسي، التي نورد شروطها التي حددها لتحقيق هدف تربوي ومعرفي «نريد جعل المنبر مرآة لما حوى الإسلام من معرفة صالحة وتربية واعية»، وهذه الشروط هي:
يحسن أن يكون لخطبة الجمعة موضوع واحد، كي تنجح في تكوين صورة عقلية واضحة الملامح لتعاليم الإسلام.
الربط بين عناصر الخطبة، حيث يؤدي أحدها إلى الآخر، حتى يصل السامعون إلى النتيجة التي يريدها الخطيب.
يجب أن يكون محتواها من الحقائق المقبولة، ومن آيات القرآن الكريم، ومعالم السنة الشريفة، بعيدا عن الأخبار الواهية، والموضوعة.
ترك القضايا الخلافية، أو التعصب لوجهة نظر محدودة، فالمسجد يجمع ولا يفرق.
ربط الخطبة بواقع الناس، فلا يكون الخطيب في واد والناس في واد.
لا يجوز للخطيب تضمين خطبته أحاديث تسوق الأجزية الكبيرة على الأعمال الصغيرة، ويسردها سردا مجردا، فيحدث فوضى في مسألة التكاليف الشرعية، بل يذكرها مع شروحها الصحيحة.
تبيان الجوانب الخلقية والاجتماعية في الإسلام، وشرح ما يقترن بالخير والشر من معان حسنة أو سيئة.
من الأفضل أن تتضمن الخطبة بعضا من أمجاد المسلمين الأولين الثقافية والسياسية، والتنويه بالحضارة الإسلامية.
تجنب الخطيب الجدل السيئ العقيم في مسائل فلسفية من أجل هزم الخصوم، والتركيز على الحقائق الإيجابية في الإسلام، وحماية التراث الروحي والعلمي.
ينبغي أن يكون الخطيب فاهما لموضوعه، يراجعه قبل عرضه على الناس حتى يطمئن لصحة القضايا التي سيطرحها، وسلامة نتائجها في نفوس المستمعين.
الإيجاز يساعد على تثبيت الحقائق، وجمع المشاعر والأفكار حول ما يريد الخطيب بثه من تعاليم.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.