حصريا

في وداع فخر الزيتونة “هند شلبي”

0 645

في وداع  فخر الزيتونة : هند شلبي

أ.د.حجيبة شيدخ

الحياة جسر قصير نعبره إلى العالم الآخر عالم القرار، فمهما كانت الأيام التي نعيشها طويلة بالحساب الزمني فهي قصيرة وتنتهي بسرعة إذا لم نستثمرها في صالح الأعمال، والذين ينالون نوعا من الخلود  في هذه الحياة الدنيا ويخلدون بإذنه_ تعالى_ في جنات النعيم هم العلماء الربانيون، الذين يحيون بالمواقف المشرفة لهم وللأمة، سيدة المقال والمقام : أستاذتنا هند شلبي .

ولدت هند شلبي لأسرة ذات علم ودين، فكان والدها الشيخ أحمد شلبي أحد مدرسي الزيتونة فتربت على يديه تربية إسلامية راقية و حفظت القرآن الكريم في سن مبكرة على يد الشيخ محمد الدلاعي برواية قالون عن نافع، وأخذت بطريقة عادية  التعليم المدني الحديث لتلتحق فيما بعد بجامعة الزيتونة للتخصص في التفسير والدراسات القرآنية .

ومن أهم علماء الزيتونة الذين تتلمذت عليهم أحمد بن ميلاد والعربي العنابي ومحمد الشاذلي النيفر وأحمد مهدي النيفر وعبد العزيز بن جعفر وبلقاسم بن خضر ومحمد الحبيب بن خوجة والحبيب المستاوي ومحمد الفاضل ابن عاشور وغيرهم ،واصلت دراستها حتى نالت درجة الدكتوراة الثالثة من كلية أصول الدين عام 1981 م.

التحقت الدكتورة هند شلبي للتدريس بالجامعة الزيتونية ، وتخرجت على يديها أجيال من أهل العلم الذين بقوا أوفياء لها ولما قدمته لهم من علم وتوجيه وترشيد، وتوجت رحلتها العلمية  بمؤلفات ذات قيمة كبيرة في مجال التفسير ، واهتمت _بخاصة _بمجال التحقيق وهو فن لا يخوضه إلا أصحاب العزيمة القوية والصبر في تحصيل العلم، لما يتطلبه من دقة وبحث متواصل، وكتبها المعروفة  هي :

التصاريف: تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه، ليحيى بن سلام (تحقيق)، قال علي الشابي رئيس قسم الكلام والتصوف بالزيتونة في تقديمه لكتاب التصاريف: إن كتاب التصاريف ليدل على إبداع تونسي مزدوج، فهو إبداع مبكر من ابن سلام … وهو إبداع للمرأة التونسية يذكرنا بما كان لعدد من التونسيات في عهود مختلفة من شغف بالقرآن وانصراف إليه وعناية بكتابته واقتنائه وتحبيسه.[1]

ومن كتبها : القراءات بإفريقيا من الفتح إلى منتصف القرن الخامس و كتاب التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق.وكتاب : عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل، لابن البناء المراكشي ، ولها بحوث منها : إعجاز القرآن  في تفسير التحرير والتنوير ،الذي نشر في مجلة المنهل .

امرأة رمز للتحدي والصمود :

وتميزت الدكتورة هند شلبي بالعلم والتقوى، وعدم الخوف من قول الحق فوقفت في وجه  السلطان الجائر ، لقد كان بورقيبة مغرما بتغريب المجتمع التونسي ، والانبهار بقشور الحضارة الغربية ، والمرأة المسكينة كثيرا ما تؤخذ عنوانا للتحضر، وكان يرى في القضاء على حجابها قضاء على التخلف كما يتشدق بذلك دعاة الحداثة والتغريب كالطاهر الحداد وغيره …

و قفت هند أمام بورقيبة  لتلقنه درسا في كون الحداثة ليست في محاربة الحجاب وأن الإسلام وحده الذي كرم المرأة التكريم الذي يليق بها ، فشتان بين حداثة الإسلام وحداثة الفكر الغربي … ومن المواقف التاريخية التي بقي يتناقلها الناس بإعجاب واحترام رفضها مصافحة الرئيس بورقيبة، ففي إحدى المناسبات من سنة 1975م ألقت هند شلبي محاضرة بحضور رئيس الجمهورية ورجال الدولة وأعضاء السلك الدبلوماسي الأجنبي وثلة من رجال العلم والثقافة، وكان بورقيبة  يعتبر التجربة التونسية في التعامل مع  المرأة استثناء ويتحدث في كثير من خطاباته عن أن المرأة المحرومة في البلاد العربية الأخرى من حقوقها، تحظى في تونس بحقوق تضاهي نظيراتها الأوروبيات منذ عام 1956م حين أقر قانون الأحوال الشخصية. بيد أن بورقيبة كان على موعد مع مفاجأة صادمة، حيث هاجمت المحاضرة مفاخر النظام من حيث تحرير المرأة، ومنع تعدد الزوجات، وتنظيم الطلاق، والإفطار في رمضان، بل ووصفتها بالمناقضة للدين، وانتهت بالدعوة للعودة إلى منابع الدين الأصيلة. جُنّ الرئيس مما حدث، وتساءل كيف أمكن لهذه المحاضرة أن تقول ما قالت من دون أن يدقق في خطابها أحد قبل القدوم، ولكن قيل للرئيس إن هذه الآراء منتشرة بين جيل الشباب في الجامعات ([2]).

كانت هند شلبي أول امرأة ترتدي الحجاب بتونس متحدية بذلك الرئيس بورقيبة، إلا أنها وبعد صدور القرار الذي ينص على منع ارتداء الحجاب ، أبدلته بالسفساري وهو زي تقليدي، وقد كانت تشده و تلفه بكيفية تسهل الحركة ويتحقق بها الستر الشرعي المطلوب، وكان يسميه محمد الشاذلي النيفر الزي الشلبي ([3]).

وإذا كانت هند شلبي قد تعرضت بعد هذه الحادثة للمضايقات، فإنها أثبتت لطالبات العلم أن وضوح الهدف لا يمكن أن تقضي عليه تخاريف السياسة وأعداء الإسلام ، فقد ذهب بورقيبة وابن علي إلى مزبلة التاريخ ، وخلدت مواقفهما المخزية في الحرب على الدين في ضمير الأمة ، فلا يذكران إلا بالخزي، أما هند شلبي فمواقفها المشرفة ، خلدها التاريخ بالمدح والترحم عليها  في كل أنحاء العالم ، وتركت علما ينتفع به إلى يوم القيامة …

امرأة هادئة أهدافها واضحة :

قضت هند شلبي حياتها في هدوء بعيدا عن بهرجة الإعلام وحب الشهرة ، فكانت تمضي جل وقتها بين صفحات الكتب مرابطة بالمكتبة الوطنية بالعطارين لا تبخل على من يقصدها للفائدة العلمية .

لقد كانت هند شلبي أنموذجا راقيا  للاقتداء  في التمسك بالمبادئ والإخلاص في طلب العلم، أرادوا أن يعرقلوها فنقلوها إلى عالم الخلود بمعانيه المختلفة : الخلود في ضمير الأمة ، والخلود بالإنتاج العلمي  والخلود إن شاء الله في الجنان .

في التسعينات وأثناء تحضيري لرسالتي للماجستير كان لي شرف الالتقاء بالأستاذة هند شلبي، وقد عرفني بها الدكتور “”عز الدين بن زغيبة ‘” التقيت بها بالمكتبة الوطنية، وكانت يوميا معتكفة على الدراسة بقاعة المخطوطات …جلست إليها وكنت كلي اهتماما بما تقوله، امرأة هادئة مشرقة جميلة الخلق والخلق كأنها من عالم غير عالمنا ، تحدثت إليها   وقد كانت من المهتمين بفكر ابن عاشور ، فأرشدتني إلى الاستفادة من أرشيف المجلات التي كان يكتب بها كجوهر الإسلام والسعادة العظمى، وأهدتني كتابها ‘التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق’،  لقد خفف لقائي  بها عني ألم منعي من الدخول إلى جامعة الزيتونة  يومها بسبب الحجاب .إذ أنني حين وصلت إلى بوابة الجامعة منعني الحارس من الدخول ، وقال لي : إذا أردت دخول الجامعة عليك بنزع الخمار، فقلت أريد مقابلة السيد الذي وقع لي دعوة الحضور، فأحضره ، فقال لي: هذه القوانين، فاعترضت وقلت له : ولم أرسلت لي هذه الدعوة ؟؟ فقال ما كنا نعلم أنك محجبة، فقلت له : وهل عندكم مكتبة أخرى ؟؟، فقال يمكنك الدخول إلى المكتبة الخارجية على أساس أنها غير تابعة لأسوار مبنى الجامعة، فقبلت بذلك ، وحين دخلت المكتبة رأيت استغرابا كبيرا من الحضور ذكورا وإناثا ، كيف تجرأت على دخول المكتبة وأنا محجبة ، فقال لي أحد الطلبة ، المكتبة الداخلية ثرية بالكتب، فأخبرته أنني منعت من دخولها فقال : وما المشكل : انزعي حجابك واستفيدي من الدخول لمقابلة الأساتذة والاطلاع على المكتبة، فقلت له: لن أضحي بحجابي من أجل الشهادة، فنظر إلي وقال : هنيئا لكم يا جزائريين.

كان لقائي بهند شلبي مغنيا لي عن لقاءات كثيرة فقد أفادتني واختصرت لي قصة المرأة والحياة العلمية في تونس، في زمن كان الرئيس بورقيبة يتشدق فيه بما حققه من حرية ومكاسب للمرأة كانت هند شلبي  تكاد تكون المرأة العالمة الوحيدة التي تنافح عن الدين بصمودها وثباتها وبزيها المميز بالجامعة، وتواجه جبروته وجبروت ابن علي بعده، وهنا نلاحظ أنه إذا  كان الحكام والمفكرون المسلمون يحاربون حرية الإنسان في ممارسة دينه؛  فليس لنا أن نستغرب كثيرا من محاربة الحجاب وتعاليم الإسلام في المجتمعات الغربية .

رحم الله الأستاذة هند شلبي وأسكنها فسيح جنانه . وأختم بما قاله عنها أحد المعجبين بها (رياض جغام): هذه السيّدة المحترمة و العظيمة لم تحضر في برامج التّافهين …و لم يفكّر في دعوتها و التحدّث إليها إعلام الرّداءة  والسّخافة…لم تحضر في منابر السّاذجين و المنافقين…الدّكتورة هند شلبي عاشت لتتعلّم…و ماتت عالمة…احترمت علمها…و من علّمها …اليوم تونس تودّع عالمة تحمل القرآن في صدرها…و كان القرآن قراءة و تفسيرا هاجسها و موضوع بحوثها و علمها…اللّه يرحمك سيّدتي المحترمة جدّا .

 

[1] _محمد بن رزق الطرهوني، التفسير والمفسرون في غرب أفريقيا دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1426 هـ ص259.

[2]–  المستاوي ،الأستاذة هند شلبي العالمة الزيتونية المختصة في  الدراسات القرآنية ،موقع الإسلام حقائق وأعلام  ومعالمالاثنين 18 آذار (مارس) 2013.

[3]– جريدة الشرق الأوسط  الأربعاء 17 رجـب 1433 هـ 6 يونيو 2012 العدد 12244

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.