حصريا

غزة تكشف وجه الإجرام العالمي – د. نوح دربال -الجزائر-

0 18

غزة تكشف وجه الإجرام العالمي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

وبعد:

أظهرت الحرب الصهيو أمريكية الغربية على غزة، الوجه الدميم والحقيقي للحضارة الغربية، فقد انكشفت سوأة النظام العالمي المتهالك، وأضحت شعوب تلك الدول ترفض هي الأخرى أن تلوك أكذوبة حكوماتها في دعوى قيامها بحمل لواء حقوق الإنسان في العالم، لقد كشفت حرب غزة الإنحياز المفضوح لحكومات الغرب للكيان الصهيوني، ضاربة عرض الحائط بكل القيم والمباديء التي لطالما تغنت بها أمام شعوبها والعالم، فظهر للشعوب أن حكوماتها تحكم  بقانون الغاب لا بالقانون الذي تخطه أناملها في المحافل الدولية.

في حادثة شارلي إيبدو أو المسرحية الغربية الهزلية، تنادى حكام العالم من كل قطب وقطر، واجتمعوا منددين ورافضين لكل لغة حرب وترويع، وملوحين بأيادي بيضاء ترفع شعار الأخوة الإنسانية والسلم، فلما جاء الدور على غزة ولأنها بقعة إسلامية، نامت الضمائر وماتت الأحاسيس، لتستيقظ الحمية الغربية والسعار المجنون للفتك بقيم الإنسانية، فلم تكن آلة القتل الوحشية للكيان الصهيوني سوى ذراعا مباشرا للمجرم الأول الولايات المتحدة الأمريكية، ومن معها من حلفاء القتل والإجرام، فمنذ بدأ العدوان الصهيوني على غزة لم يتوقف الإمداد العسكري لهذا الحلف الشيطاني للكيان، لتحيل الديار بلاقع، وتصير الحياة خرابا وموتا، في مقابل ذلك حوصر الشعب الأعزل من إخوة العقيدة والدم، ليلقى حتف أنفه بالجوع والعطش من لم يقطع أشلاء بالسلاح، ففي 20 جويلية 2024 أعلنت وزارة الصحة في غزة أنها أحصت 38919 شهيدا جلهم من النساء والأطفال منذ بداية العدوان الصهيوني الذي دخل شهره العاشر، وأن عدد الجرحى ارتفع إلى 89622 جريحاً.

إن القلم لا يمكنه أن يصف حجم الإجرام الواقع على أهل غزة، فلا غرو في ذلك مادامت الصور عاجزة عن نقل كل شيء من المجزرة الكبرى في هذا القطاع الصغير، حيث اجتمعت قوى الشر الغربية كلها لاجتثاث أمة ممدودة الجذور في هذه الأرض المباركة، بالقتل والتجويع الإرهاب، وأعانهم على ذلك الصمت العربي الإسلامي الجبان، فلم يُكسر زند الأمة ويُلوى ذراعها عسكريا فقط، بل مُرغت حبهتها في الطين ورٌفس رأسها بالجزمة، حيث أصبحت عاجزة حتى عن إيصال الغذاء والماء للشيوخ والنساء والأطفال ….

إن هذه الصور من الحروب الصليبية المعاصرة على المسلمين ليست جديدة أو وليدة اليوم، فالمسلم مهدور الدم حيثما كبت به رجله، فمجازر البوسنة والهرسك ستبقى وصمة عار في جبين الإنسانية، ولن تستطيع أمواه الأرض كلها غسل العار الإنساني في حق مسلمي البوسنة والهرسك، لقد تمت المجازر الصربية أمام مرأى ومسمع القوات الأممية، التي لم تحرك ساكنا، لقد كانت المجازر على تلك الأمة المغدورة تتتابع، ويتفنن الصرب من مجزرة لأخرى، كان أشنعها مجزرة سربرنيشتا عام 1995م، حيث قتل الصرب أزيد من 8000 بوسني، وتم اغتصاب أعداد هائلة من النساء، وأما المهجرون عن بيوتهم فكانت الأعداد لا تعد ولا تحصى، وقد حدث ذلك أمام القوات الهولندية التي كلفت من طرف هيئة الأمم المتحدة بحماية المدنيين، وليت هذه القوات المتواطئة اكتفت بالتفرج والمشاهدة، بل إنها أعادت الكثير من الفارين من جحيم المجازر، إلى القوات الصربية لتجهز على كل فار مقبوض عليه[1].

أما المجازر الأمريكية على العراقيين، فلن يستطيع الفرات محو آثارها، فأمريكا التي وعدت العراقيين بالتحرر والديموقراطية والتحضر، ألبست العراقي لبوس المهانة، وجرعته العلقم والمرارة، لقد صار العراقي يتمنى أن يموت ألف ميتة على أن يقع بين يدي الأمريكي مدعي التحضر، ففضيحة سجن أبو غريب أماطت اللثام عن الوجه الحقيقي لأمريكا، فأنياب الوحشية ومخالب الهمجية مغيبة تحت غطاء حقوق الإنسان، التي صدعت الولايات المتحدة بها رؤوسنا، لقد كانت صور المعذبين في سجن أبو غريب تنطق بوحشية الإجرام الأمريكي، فالصور والمشاهد المسربة أظهرت السجناء كأنهم في قلب جهنم، وتلكم هي الحرية المنشودة عن أمريكا.

أما صيحات الموجوعين في إقليم أراكان، فكانت تصعد تارة وتختفي تارة أخرى، بفعل التستر العالمي لوحشية البوذيين على مسلمي الروهينغا، ولا بأس أن نتوقف قليلا مع حال هؤلاء البؤساء، فبورما دولة آسيوية تقع جنوب شرق آسيا، يحدها من الشمال الشرقي الصين، ومن الشمال الغربي بنغلاديش والهند، ومن الجنوب خليج البنغال والمحيط الهندي، ومن الجنوب الشرقي شبه جزيرة مالايو، ويبلغ عدد سكانها 55 مليون نسمة، معظمهم من البوذيين، ويبلغ تعداد المسلمين فيها بين السبعة إلى العشرة مليون نسمة، أي بنسبة 15 في المئة من مجموع السكان، ويرتكز المسلمون في إقليم يسمى بإقليم أراكان، الواقع شمال غرب بورما، على الحدود مع بنغلاديش.

وترجع قصة مسلمي الروهينجا إلى ما قبل 1784م، حيث أن إقليم أراكان منذ الفتح الإسلامي كانت إقليما مستقلا بذاته، غير أنه منذ العام المذكور، خشي البوذيون من انتشار الإسلام، فقام الملك البوذي ” بوداباي ” بضم إقليم أراكان إلى باقي الدولة البورمية، ومنذ تلك الحقبة، ومأساة المسلمين تتوالى في ذلك الإقليم، حتى إبان الاحتلال البريطاني لبورما، كانت السلطات البريطانية تمد البوذيين بالسلاح للعبث بأرواح وأعراض المسلمين، وكأن أرزاء الزمن الطويل، والسنوات الخوالي ليست كافية، لتقوم بريطانيا بدعم الوحشية الممارسة على الشعب المقهور.

بخروج البريطانيين من الأرض البورمية، بدأ عصر جديد من الاضطهاد البوذي على مسلمي أراكان، فانتهجت سياسة قمعية لإجبار المسلمين على الارتداد إلى البوذية، ورغم الترويع والتنكيل، لم يرتد مسلم واحد عن دينه، الأمر الذي أفقد البوذيين صوابهم، فازدادت آلة البطش على المسلمين الذين لم يعد لصراخهم صدى في العالم، وإلى الآن مازالت المجازر العنصرية تنفذ في حق مسلمي الروهينغا، على أيدي جماعات الماغا البوذية، المدعومة من النظام الحاكم في بورما، ولا يزال الصمت الدنيء يملأ أروقة الأمم المتحدة، ليمنح الضوء الأخضر لتلك الجماعات الإرهابية للتنكيل بالمسلمين[2].

إن هذه الحقائق الموردة لا تمثل إلا صفحة عابرة من صفحات دستور النظام العالمي الذي يحكم به أسياد العالم العالم، وقد تحدث الدكتور مصطفى محمود رحمه الله عن بعض هذه النظم والقوانين التي يجريها أقوياء العالم في الأرض وبين الشعوب، فقال في كتابه نهاية الحضارة: ( تلك الحضارة المادية التي خلعت الله عن عرشه، وأقامت الإنسان مكانه وجعلت من الإنسان إلها وسيدا على الكون والطبيعة، وكيف دمر الإنسان الطبيعة ولوثها بفضلاته … وهو الآن يوشك أن يدمر نفسه … وفي تحليل دقيق حاول أن يضع يده على ثغرات هذه الحضارة … والعلاقات الاجتماعية في هذا اللون من الحضارة المادية واحدة، وهي علاقات عمودية التسلسل في الاستعباد والسخرة في المجتمعات …. والاقتصاد في هذه الحضارة المادية لا يهدف إلى نمو صحي، بل يخدم نوعا من النمو الوحشي، هدفه تشغيل الآلة حتى ولو كانت تنتج أشياء بلا فائدة، أو أشياء ضارة، أو أشياء مدمرة …. وهكذا انتهى هذا النمو الوحشي إلى انتاج القنابل الذرية والصواريخ ذوات الرؤوس النووية، وإلى 650 ألف مليون دولار سلاح، مقابل 50 مليونا يموتون جوعا، وهواء ومياه وزراعات وأرض ملوثة بالمخلفات الإشعاعية ).

ويمضي الدكتور في تحليله وتوصيفه للنظم العالمية التي بها يحكم الأقوياء في هذا العالم، فيقول: ( … كيف يمكن أن نسمي هذا اللون من الحياة تقدما، وقد أشعلت هذه الدول المتقدمة الحروب الصغيرة في العالم الثالث، وحاصرته بالمؤامرات لتجعل منه سوق سلاح تبيع فيها فوائض إنتاجها، وتجرب فيها أسلحتها الجديدة )[3].

لقد أدركت شعوب العالم أن شعارات حقوق الإنسان كذبة تدار لأجل عصابة من أسياد العالم، لا يعترفون بميثاق ولا يرتدعون بقانون، لذلك قامت مظاهرات كثيرة وحاشدة في شتى عواصم العالم الغربي إيذانا بميلاد عصر جديد من الوعي والإدراك، فالحقائق المزيفة لسنوات خلت، أظهرتها الحرب الأخيرة على غزة، ولعل يقظة ضمير شعوب العالم كانت تكلفتها هي سيل من الدماء على الأرض المباركة.

 

[1] ـ انظر: وكالة الأنباء الإسلامية، البوسنة والهرسك، قصة شعب مسلم يواجه العدوان، دالا القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، المملكة العربية السعودية، ط1، 1992م، ص122 ….. 124.

ـ[2]راجع مأساة مسلمي الروهينغا في ميانمار، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، العدد السادس والعشرون، كانون الأول 2017م.

[3] ـ مصطفى محمود، نهاية الحضارة، دار المجدد، الجزائر، 2017، ص10.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.