على أطلال غزة – د.رضا راشد – مصر
على أطلال غزة
هنا…وهناك
[نظرة متأنية متدبرة في خوافي الأشياء وحقائق الأحداث، تحاول أن تتجاوز الظاهر لتنفذ إلى الباطن وصولا إلى مقارنة شاملة بين ما نحن عليه (هنا) وما هم عليه (هناك) لتحكم في النهاية:أي الفريقين أحق بالحزن عليه ؟]
هنا…وهناك
لا نملك إزاء هذه الأحداث، بل الأهوال التي نتلظى بنارها ونصطلي بسعيرها إلا أن نحاول أن ننظر نظرة تأمل وتدبر تنفذ ببصيرة إلى عمق الحقائق، وصولا إلى مقارنة شاملة بين ما نعيشه (هنا) وما يعيشه إخواننا (هناك) في غزة العزة. وإن هذه النظرة لتقدم على ذلك غير واثقة تماما من صحة ما ستنتهي إليه؛ إذ أن ثَمَّ فارقاً كبيرًا بين الصورتين، فهنا تبدو الصورة واضحة، معيشة، ندرك أبعادها ونحيط بجوانبها، أما (هناك) فلا سبيل لتمثل الصورة كاملة كما هي عليه في الواقع إلا بقدر ما تلتقطه وسائل الإعلام من صور، وهو قليل من كثير، ولكنه على كل حال كافٍ لتصور أهوالها ومخاطرها.
(هنا)
حيث الدنيا… حيث الحياة.. حيث الأمن ..حيث الأمان ..حيث الاطمئنان.. حيث الدفء …حيث الآمال المحققة.. والرغائب المشبعة .
(هنا )
حيث تكاثرت نعم الله علينا، وقل في المقابل شكرنا لها.
(هنا)
حيث تتعدد صنوف الأطعمة مزدحمة على موائدنا، برغم ما نعانيه من غلاء الأسعار، ولكننا مع ذلك – قياسا بما هم عليه – منعَّمُون.
(هنا)
حيث الحياة بزينتها.. بخضرتها..بنضرتها .. ببهجهتها.. بحلوها.
(هنا )
حيث البيوت الآمنة التي ما زالت – كما كانت دائما وكما قال ربنا – : سترا وسكنا
(هنا)
حيث الحياة الناعمة، والفرش الوثيرة ، والعيش الرفيغ، والمعيشة الرغدة.
(هنا)
حيث يعلو سقف الآمال، وترتفع الرغائب، وتزداد الأماني من الدنيا، وكلها توافه، فأصبح من أمانينا أن نمتلك الهاتف الفلاني وأن نحوز الآيفون العلاني.
(هنا)
حيث يغدو الحرمان من هذه التوافه مصائب تستحق البكاء والنحيب والعويل؛ فلا غرو أن ترى طفلا من أطفالنا يبكي بشدة؛ افتقادا لنوع الحلوى التي اعتادها، أو انتظارا لوجبة سريعة(تيك اواي) تأخر وصولها إليه من ( الدليفري) بضع دقائق!! وحيث يتملك الغضب أحد شبابنا إذا ما حيل بينه وبين إحدى رغائبه التافهة( كالحرمان من المصيف مثلا) فيستبد به الحزن كأن القيامةقد قامت فحزن ندما على ما فرط في حق نفسه، أو كأنه فقد أباه، أو كأن الكعبة لا قدر الله قد احتلت.
(هنا)
حيث الترف المفسد المطغي، حيث يُلقَى بالملابس قبل أن تُلبَسَ، وتُعافُ الأطعمة من قبل أن تؤكل؛ لكثرتها، وحيث يحتار الإنسان: ماذا يأكل؟ وماذا يدع؟ وماذا يلبس؟ وماذا يترك؟ نظرا لازدحام الموائد بالأطعمة، وازدحام الدواليب بالملابس.
(هنا)
حيث الفراغ القاتل للشباب، وحيث الطاقات المهدرة التي لم تجد سبيلا لتفريغها إلا في التوافه والمحرمات: كحلق الشعر قزعا، وكارتداء الملابس الممزقة تأثرا بما دبر لنا، وكارتداء السلاسل الذهبية والفضية في الأعناق تخنثا، وكقضاء عشرات الساعات في الألعاب الألكترونية التي دمرت عقولهم وقواهم من أمثلة (بابجي، والحوت الأزرق، وفري فاير …وهلم شرا)
هذا عما يجري (هنا)
فماذا عما يحدث (هناك)؟
(هنا): حيث كل شيء.
(وهناك): حيث لا شيء.
لا دنيا ..لا حياة.. لا أمن ..لا أمان.. لا اطمئنان.. لا سكينة.. لا هدوء ..لا عيش ..لا ماء ..لا غذاء.. لا دواء ..لا وقود.. لا مستشفيات…لا شيء.
(هناك)
حيث لا صوت إلا أصوات القنابل تدك البيوت على رءوس ساكنيها، وأصوات الاستغاثات تنبعث من حناجر من دمرت بيوتهم على رءوسهم، وأصوات الصرخات من أفواه امتلات حزنا غضبا على عالم لم يعد يسمع ولا يرى ولا يتكلم، فهم صم بكم عمي، عالم من الأعداء الفجرة الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وعالم آخر من العرب والمسلمين كبَّله العجز وقيَّدهُ الخوف؛ فهو آكل العيش بالجبن والخنوع والذل.
(هناك)
حيث لا تسمع إلا صفارات عربات الإسعاف تحاول تلملم أن الأشلاء وتستنقذ ما استطاعت من جرحى.
(هناك)
حيث لا ترى إلا الأشلاء الممزقة، والبيوت المهدمة، والدماء التي تسربل بها كل شيء، ولا ترى إلا سحب الدخان تحيط بالمرء، فإذا هو في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها.
(هناك )
حيث فرقت شملهم الأهوال، ومزقتهم المخاطر؛ فلم يعد الابن يدري أين أبوه ولا الأب أين أبناؤه؟
(هناك)
حيث جفت الدموع، وجمدت العيون، وتحجرت المقل من كثرة البكاء.
(هناك)
حيث الحزن المخيم على كل شيء، ولا غرو: فقد تكاثرت أسبابه وتنوعت موارده، فلم يعد المرء منهم يدري على من يحزن؟ وعلام يحزن؟
(هناك)
حيث تستبد بالمرء بالحيرة في أن يلوذ بمكان آمن، وكيف؟! والقصف يطول كل شيء والموت مهيمن على كل مكان.
(هناك)
حيث تضيع الأحلام في لحظة وتنمحي الدنيا والحياة بغتة، فإذا الأحياء التي كانت عامرة، والبيوت التي كانت بساكنيها مبتهجة، والشوارع التي كانت بأهلها مزينةً كل ذلك يسوى بالأرض في لحظة؛ فإذا هي حصيد كأن لم تغن بالأمس.
(هناك)
حيث الخنادق المحفورة لتتخذ مقابر جماعية ؟ وحيث لا يعرف الدافن من يدفن؟ وحيث تلف الجثث المتعدده في كفن واحد؟
(هناك)
حيث أصبحت معرفة الحي ميته ودفنه بيده مبعث سرور.
(هناك)
حيث تجمعت عليهم كل أسباب الموت، فلكأنه سبع فاغرٌ فاه.
ذاك عما يجري (هنا)
وهذا عما يحدث (هناك)
(هنا) ..النعيم
و(هناك) الجحيم
هكذا كان وجه المقارنة السابق بين (هنا) و(هناك): مقارنة ظاهرة بين المشهدين كما تراهما عيون الأبصار، لا باطنة كما تراهما عيون البصائر ..مما يجعلنا نتساءل :
هل هذا هو الوجه الوحيد للمقارنة بين (هنا) و(هناك)؟
هل نحن حقا المنعمون؟
وهل هم حقا المعذبون؟
هل الذي نحن فيه حقا هو النعيم ؟
وهل الذي هم فيه حقا هو الجحيم؟
إن من ينظر النظرة العجلى يكاد ينتهي إلى هذا… ولكن من ينعم النظر، ويرجع البصر كرتين بل كرات، ويعمق التأمل يتبدى له شيء غريب بين ما نحن عليه (هنا) وما هم عليه (هناك)
نعم
(هنا) كانت الدنيا.. وكانت الحياة.. وكانت البهجة.. وكان الأمان.. وكان.. وكان..
ولكن أيضا:
كان التحاسد ..وكان التحاقد.. وكانت الغفلة.. وكان الهوان.. وكان الذل.. وكان الخضوع ..وكان الحرص الشديد على حياة مهما كانت ذليلة ..حتى أصبحنا أشبه شيء بمن قال الله فيهم {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} أي حياة مهما كان ذلها وفقرها
(هنا)
حضرت الدنيا ببلائها ومرها وفتنتها، كما حضرت أيضا بزينتها وبهجتها، والغنم بالغرم.
و(هناك)
غابت الدنيا، حيث انعدم كل شيء، فلم يعد هناك أي شيء، ولكنها كما غابت بزينتها غابت أيضا بفتنتها، وهذا من رحمة الله بعباده أنه لا يجمع عليهم خوفين ولا يقرن لهم بلاءين.
ف(هناك)
إذا نظرت إلى الوجوه وجدتها ناضرة بما تتنعم به في فراديس الأرواح؛ فلقد محصتهم الأحداث وحنكتهم التجارب، ونظفتهم نيران الفتن والبلاء، فنفت عنهم شوائب الدنيا، فكانوا كالذهب الذي يُحْرَقُ بالنار لتزول عنه شوائبه وتذهب عنه أوساخه، فكلما احترق زاد لمعانا وازداد نظافة.
(هناك)
حيث النفوس الصافية، والأجساد الصابرة ، والأفئدة النقية، والقلوب الراضية والتي هي بنصر الله موقنة.
(هناك)
حيث حرموا لذات الجسد، ولكنهم عُوِّضُوا بفضل الله عنها غذاء الروح، فهم: برغم حزنهم يضحكون، وبرغم شدة بلائهم صابرون، وبرغم وحشية العداوة راضون، وبرغم تخلي الجميع عنهم منتصرون، وبرغم مواجهة أعتى الأسلحة العسكرية وأقوى الدول على مداومة الجهاد مصرون، وبالنصر مستمسكون. لم تنهزم إرادتهم، ولم تنحل عزائمهم، وما نجح شدة البلاء في أن ينال منهم شيئا، أو يوهن من قوتهم، وتالله إن هذا لهو البلاء المبين.. يرون الموت أمامهم سبعا ضاريا يكاد يفترسهم، فيلقونه مستعدين له مرحبين به؛ إذ هو نهاية آلامهم، ومبدأ حياتهم، وبوابتهم إلى السعادة الأخروية، حيث تيجان الوقار تنتظرهم على أحر من الجمر كي تكلل جباههم، وجنات الفردوس تتهيأ لاستقبالهم والترحيب بهم، وحيث ملائكة الرحمن تستعد لزفافهم…حيث الجنة، وكفى بها عوضا عن الدنيا وبل وعشرة أمثالها.
فهم باعوا لله أرواحهم وأموالهم بأن لهم الجنة (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأرواحهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتُلو ن ويُقتَلو ن وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله ) ..فهل يبكي من فاز بالجنة أو من يسعى إليها على ما فقد من متاع الدنيا وهو على كثرته قليل، فكيف لو كان أصلا قليلا؟!
(هناك)
حيث ترى الحزن في عيونهم وتسمع نبرات الغضب – على عالم تخلى عنهم – في أصواتهم، ولكنك في الوقت نفسه لا ترى منهم إلا الصمود وإلا الثبات، فما رأينا أحدا جزع، وما سمعنا عن أحد سخط، وما رفع أحد منهم قط الراية البيضاء معلنا استسلامه، بل ما هو إلا الاستمساك بالجهاد والإصرار على مداومة المقاومة،وكلما زاد العدو إمعانا في وحشيته زادوا هم إصرارا على الجهاد وتمسكا بالنصر.
هناك الشموخ.. هناك الإباء.. هناك العزة.. هناك الكرامة.. هناك رفض العبودية.
غابت عنهم حياة الجسد، وغرست فيهم حياه الروح.
هكذا تأملت فوجدت أن الرءوف الرحيم سبحانه لا يجمع على عباده بلاءين ولا يجمع على عبد نعمتين، وإنما هو بلاء يقابل نعمة.
ف(هنا) كانت الدنيا حاضرة بزينتها، فاستمتعنا منها بما استمتعنا، ولكنها كانت أيضا حاضرة بفتنتها فابتلينا منها بما ابتلينا.
و(هناك) غابت الدنيا بزينتها؛ (ابتلاء من الله)، وغابت أيضا بفتنتها؛ (رحمةً من الله بعباده) فلا حرصَ عليها، ولا سرورَ بقليل متاعها، ولكنه الانخلاع الكامل منها، رضىً بالحياة الباقية وبالسعادة السرمدية.
فأي الفريقين أحق بالحزن عليه والشفقة ؟
وأيهما أحق بأن يغبط ويحسد؟
أَمَنْ غابت عنه الدنيا بزينتها، وغابت عنه أيضا بفتنتها، فعوفي من بلائها، وانعتق من شدة أسرها، وتحرر من قبضتها ؟ أم من تزينت له الدنيا في حياته بزينتها، وتمكنت من قلبه بفتنتها، فإذا هو مبتلىً بها متعلقٌ بأهدابها، متشبثٌ بأذيالها، حريصٌ عليها، فرحٌ بقليل متاعها، باكٍ على ما فاته منها، ساعٍ للاستكثار منها؟!
وعلى من نحزن؟
أعلى امرأة مؤمنة هُدمَ عليها بيتُها بعدما ثكلت أولادها وفقدت زوجها، فتحتسبهم كلهم شهداء ولا ترى منها إلا الرضا عن الله عز وجل؟!
أنحزن على تلك المرأة المؤمنة التقية الصابرة المحتسبة؟ أم نحزن على امرأة نظرت إلى الدنيا بعين الأنانية، فلا ترى الحياة إلا انتفاعا وأثرة وأنانية، فهي المطالبة بما هو فوق حقوقها، المفرطة في أدنى واجباتها، ولا تزال الأنانية بها :(استيفاء لحقوقها وتفريطا في أدنى واجبها) حتى استحقت أن تكون من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.ط، فاستوجبت الويل من الله تعالى.
على من نحزن؟
أعلى طفلة هدم عليها بيتها، فاضطرت إلى أن تخرج مسرعة، نجاة بنفسها بلا حجاب، فلما اقترب المصور منها توسلت إليه ألا يصورها لأنها بلا حجاب!!!
أم نحزن على فتاة تربت في كنف الترف والنعيم، فتمكن الشيطان منها فهي السافرة السافلة، وكلما دعيت إلى الحجاب عاندت ربها وعصت مولاها؟
على من نحزن؟
أعلى شاب فقد أباه فإذا هو ملءإهابه (أي جلده) حِرْصٌ وتشبث بالجهاد والمقاومة لا يهدأ له بال حتى يأخذ بالثأر من قتلة أبيه أعداء الله عز وجل؟
أم نحزن على شاب تمكنت منه الشهوات واستبدت به الملذات، فلا هو هوى إلى درك الأنوثة، ولا هو تسامى في معراج الرجولة، ولكنه المخنث المرفه المنعم العابد لشهواته الأسير لملذاته؟
إن الأحق بالحزن عليه والجدير بالبكاء عليه هم (نحن) الذين ابتلينا بالخير، فانشغلنا بما ابتلينا به عما خلقنا له، فعشنا في الدنيا بشرا كالحيوانات السائمة، لا همَّ لهم إلا شهواتهم، ولا مطالب لهم إلا إشباع رغباتهم،= وليسوا هم الذين كانوا كالملائكة الذين سموا بأنفسهم فوق مطالب البشرية وأماني الإنسانية، فطارت بهم أرواحهم محلقه عالية في سماء الرضا، وفي فراديس الروح.
فاللهم ثبتهم وأنزل السكينة على قلوبهم وسدد رميهم في نحور عدوهم.واللهم نعيما كنعيمهم وصبرا كصبرهم وعزا كعزهم وثباتا كثباتهم.