ضعف الطالب والمطلوب. آيات من كورونا
ضعف الطالب والمطلوب. آيات من كورونا
يأتي الحديث في هذه المقالة في سياق عام، اختلطت فيه العوامل الاقتصادية والاجتماعية، وتضاربت حوله الأنباء، إنه موضوع “الكورونا” الذي اجتاح البلاد وأصاب البلاد، فلم يترك وبرا ولا شجرا ولا حضرا إلا غزاه هذا المرض، حتى غدا حديث الأنفس في كل مكان، وأصبح حديث الإعلام أينما وليت وجهك، وذلك شطر كل الفضائيات، ناهيك عن مواقع التواصل الاجتماعي الذي لم يفتر في متابعة ونقل كل ما يحيط به من صغيرة أو كبيرة. لكننا لم نتساءل مع أنفسنا :هل ما يصيب العالم اليوم كله شر محض ؟ ما الجدوى من وراء هذا الموضوع؟ ألا يحق لنا أن نقف وقفة تأمل مع الذات، ونتساءل بشكل عقلاني وموضوعي.
ألم يسبق لنا في معترك الحياة أن أصبنا بمختلف الآهات و المصائب؟ لم لم نستحضر قلوبنا وعقولنا كما نفعل في مثل هذه الأيام؟ ألم يأن الوقت لتغيير نظرتتنا تجاه ما يقع حولنا من قضايا وما يمر من أحداث.ما موقع القدر الإلهي من هذا الذي أصاب بني الإنسان في حياتنا هذه الأيام.
إن الذي أصابنا نوع من البلاء الذي ابتلى به الله تعالى البشرية على السواء، وقد تجهزت البشرية بقضها وقضيضها لمواجهة هذا الداء الذي زلزل كيان عدد لا يحصى من المجتمعات، بل إن هذا الوباء كشف عجز البشرية ومدى ضعفها أمام خالقها، رغم كل التقنيات التي وظفتها، ورغم التطور المذهل في عالم الطب والأدوية وسبل العلاج لمختلف الأمراض المستعصية، يقول عز وجل: “ضعف الطالب والمطلوب”، وأنا أكتب في هاه المقالة استحضرت هذه الآية الجامعة لكل المعاني التي تروج هذه الأيام، في تشخيص لحال الإنسانية من الأزمة، وحتى نساهم في تجلية معاني الآية نقتبس من صاحب “التحرير والتنوير” ما يلي:
يقول الله تعالى: “يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لن يستنقذوه منه ، ضعف الطال والمطلوب”
وهذه الآية وردت في سياق عام، عرضت فيه تعداد البراهين والحجج التي تضمنتها سورة العنكبوت حاملة لقناعات علمية تفيد وتقرر في آن أن خالق البشر وإلههم واحد لا ثاني له في ملكه، أعقبها حديث عن هذا المثل الذي شخص أوضاع الإنسانية طالبا ومطلوبا.
بدأ الخطاب القرآني بقوله ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ”، وهو تعبير يحمل دلالة العموم غالبا في السياق القرآني، وإن كان يقصد به المشركين،
ويجوز أن يكون المراد بــ”الناس” جميع الناس من مسلمين ومشركين، ومن تأملات الشيخ بيانه وجه المناسبة بين خاتمة السورة ومفتتحها، وهو تتشبيه
“برد العجز على الصدر، ومما يزيده حسنا أن يكون العجز جامعا لما في الصدر وما بعده، حتى يكون كالنتيجة للاستدلال والخلاصة للخطبة والحوصلة للدرس”.
وعبارة “ضرب المثل” تحمل في طياتها معني الضرب، ولكن بالمعنى الاستعاري الذي يفيد الحرص والأخذ بالقوة كما ورد في آيات أخر، فإن القرآن قد ألقى أمثالا تحتاج إلى التدبر والقراءة .
وبنى فعل ضرب بصيغة النائب فلم يذكر له فاعل بعكس ما في المواضع الأخرى التي صرح فيها بفاعل ضرب المثل، نحو قوله تعالى: “إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ..” في [سورة البقرة: 26] و”ضرب الله مثلا عبدا مملوكا..” في [سورة النحل: 75] و”ضرب الله مثلا رجلا..” في [سورة الزمر: 29]
ونلاحظ في هذه المواضع إسناد وغيرها ضرب المثل إلى الله تعالى، من مثل قوله: “فلا تضربوا لله الأمثال…” في [سورة النحل: 74] . و”ضرب لنا مثلا ونسي خلقه..” في [سورة يس: 78] ، إذ أسند الضرب إلى المشركين، لأن المقصود هنا نسج التركيب على إيجاز صالح لإفادة احتمالين:
أحدهما: أن يقدر الفاعل الله تعالى وأن يكون المثل تشبيها تمثيليا، أي أوضح الله تعالى تمثيلا يوضح حال الأصنام في فرط العجز عن إيجاد أضعف المخلوقات كما هو مشاهد لكل أحد.
والثاني: أن يقدر الفاعل المشركين ويكون المثل بمعنى المماثل، أي جعلوا أصنامهم مماثلة لله تعالى في الإلهية.
ونحن في هذا السياق نكتفي بالتوجيه الأول،لأنه المناسب في مقام الحديث عن هذا الفيروس، وبيان ذلك أن حديث الناس اليوم صار لا يفتر عن ترديد وتكرير كلمة الكورونا دون انقطاع تقريبا، على مستوى العلاقات الاجتماعية وفي الصحف وعبر شاشات الفضائيات، بل إن الأجهزة الحديثة صارت تبدع في برامج متطورة لتتبع إحصاءات الإصابات والوفيات وحالات الشفاء والمتعافين منه.
وأما صيغة الماضي في قوله “ضرب” فهو فعل مبني للمجهول، يستعمل لتقريب الماضي، والمعنى هنا يفيد التوقع الحقيقي للحدث، فالوباء وإن كان ظهوره منذ سنة كما يقول الخبراء، فقد صار واقعا في هذه الأيام، وهذا ما يطلب شدة الانتباه لخطورته والاستعداد لمواجهته لأنه من أشد الأوبئة افتراسا لبني الإنسان، وهذا الاستماع يترتب عليه إبطال كل الدعاوى التي تهون من شأنه.
وصيغة الأمر في قوله تعالى “فاستمعوا له” مستعملة في التحريض، في حديثنا أن الضرب بعرض هذا الوباء على أرض الواقع قد أحدث زلزلة في ساكنة العالم على مستوى ارتفاع مؤشرات الأرقام، مما يقتضي منا تحريضا على المواجهة والعمل المتواصل على مختلف الصعد من أجل الوصول إلى اكتشاف العلاج له، وإذا كان كذلك فاستمعوا للضرب، أي لما يدل على الضرب من الألفاظ، فيقدر مضاف بقرينة فاستمعوا لأن المسموع لا يكون إلا ألفاظا، أي استمعوا لما يدل على ضرب المثل المتعجب منه في حماقة ضاربيه.
واستعملت صيغة الماضي في ضرب مع أنه لما يقل لتقريب زمن الماضي من الحال، وذلك تنبيه للسامعين بأن يتهيئوا لتلقي هذا المثل، لما هو معروف لدى البلغاء من استشرافهم للأمثال ومواقعها.،
وفي مواصلة تأملاتنا لهذه الآية العجيبة، نجد أشد المختبرات قوة وتطورا على المستوى التقني مازالت تشتغل ليل نهار في البحث عن اللقاحات الأول عسى أن تظفر به، وهو معنى الاجتماع والاتحاد ومواصلة الجهود من طرف نخب الأمم المتقدمة في الجانب الطبي والصناعي، يقول صاحب التحرير والتنوير: “فالتشبيه في هذه الآية ضمني خفي ينبىء عنه قوله: “ولو اجتمعوا له” وقوله لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. فشبهت الأصنام المتعددة المتفرقة في قبائل العرب وفي مكة بالخصوص بعظماء، أي عند عابديها. وشبهت هيئتها في العجز بهيئة ناس تعذر عليهم خلق أضعف المخلوقات، وهو الذباب، بله المخلوقات العظيمة كالسماوات والأرض. وقد دل إسناد نفي الخلق إليهم على تشبيههم بذوي الإرادة، لأن نفي الخلق يقتضي محاولة إيجاده، وذلك كقوله تعالى: أموات غير أحياء كما تقدم في [سورة النحل: 21] . ولو فرض أن الذباب سلبهم شيئا لم يستطيعوا أخذه منه، ودليل ذلك مشاهدة عدم تحركهم، فكما عجزت عن إيجاد أضعف الخلق وعن دفع أضعف المخلوقات عنها فكيف توسم بالإلهية.
وبكلمة، إن هؤلاء ما قدروا الله حق قدره وما عظموه حق التعظيم لذي يستحقه ، فهو سبحانه صاحب الأسماء الحسنى والصفات العلا، وما الذي أصاب الإنسانية يسير على الله أن يرفعه عنا في أقل من لمح البصر، فهو سبحانه قوي عزيز، وفي تذييل هذا المثل بيان بأن عبادتهم الأصنام مع الله استخفاف بحق إلهيته تعالى إذ أشركوا معه في أعظم الأوصاف أحقر الموصوفين، وإذ استكبروا عند تلاوة آياته تعالى عليهم، وإذ هموا بالبطش برسوله.
وبالنسبة لنا في الظرف المعاصر، وجب الرجوع إلى التوقف عند حقوق الخالق، وما يقتضيه ذلك من التعرف عليه سبحانه، وإعادة الاعتبار لدينه وما جاء به رسوله عليه الصلاة والسلام من منظوم ة متكاملة تصلح شأن المجتمعات لو أطاعته واقتفت أثر منهجه الرباني.
يقول الطاهر بن عاشور: “وجملة إن الله لقوي عزيز تعليل لمضمون الجملة قبلها، فإن ما أشركوهم مع الله في العبادة كل ضعيف ذليل فما قدروه حق قدره لأنه قوي عزيز فكيف يشاركه الضعيف الذليل. والعدول عن أن يقال: ما قدرتم الله حق قدره، إلى أسلوب الغيبة، التفات تعريضا بهم بأنهم ليسوا أهلا للمخاطبة توبيخا لهم، وبذلك يندمج في قوله: إن الله لقوي عزيز تهديد لهم بأنه ينتقم منهم على وقاحتهم.وتوكيد الجملة بحرف التوكيد ولام الابتداء مع أن مضمونها مما لا يختلف فيه لتنزيل علمهم بذلك منزلة الإنكار لأنهم لم يجروا على موجب العلم حين أشركوا مع القوي العزيز ضعفاء أذلة[1].
وبالنسبة لنا نستفيد توجيهات ربانية، لعلها تبدو محنا وأضرارا على ساكنة العالم، لكن تخفي بين جوانبها منحا جليلة كنا لا ننتبه لنا، بحكم الإلف والعادة التي تطبع على النفوس فتجعل الأبصار كليلة والعقول غافلة عن استبصارها أو الكشف عنها وإن كانت بين أيدينا غالبا معروضة، وإذا كان الأمر كذلك فماذا يمكننا أن نستفيد من دروس:
-إن الذي استوقفني صراحة هو هذا الاستلاب العربي بالنموذج الغربي في مجال الاقتداء، خاصة عند فئة عريضة من الشباب
، فهل مثل هذه المواقف المرتبطة بالوباء تجعل هذا النموذج صامدا باعتباره الأعلى دائما في الحياة، وأنه دائما المتفوق علينا في نماذجه التنميطية المصدرة إلينا، أم أن وباء كورونا ربما سيفتح لنا مجالا للتساؤل ، خاصة فيما ينشره الإعلام من أدبيات أخلاقية عرفت اهتزازا في ظل هذه الجائحة.
-مما يستفاد كذلك أننا أثناء متابعة الأرقام التي تترى على شاشات الفضائيات يكشف بالملموس أننا نعيش زمن العولمة وأننا في قرية كنية صغيرة، فقد الناس في أقاصي الدنيا يتابعون ما أحدثه الفيروس في بين الإنسانية، كأن الأمر قد وقع في عقر دارنا، وهذا هذا يدل على تقارب المكان، واختصار الزمان.
-لقد تعلمنا من تجارب الثقافات الأخرى التي كنا نظنها بعيدة عنا، وكيف تعاملت مع المرض، وما مقدراتها واستعداداتها للتعامل مع مثل هذه الجوائح العالمية التي تأكل الأخضر واليابس، والدرس البليغ هنا هو التعرف عللا بلاد الصين وثقافتها ومميزاتها وقدراتها الهائلة من حيث التصنيع والتجارة وغيرها من الأمور الثقافية عموما.
– لقد تبين بالملموس أن الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء ولا يراه إلا المرضى، فالفيروس الذي لا يرى إلا العدسات المذهلة قد فعل فعله في صحة الناس، ولم يستطع من يدعي تفوقا صناعيا أن يقف في مواجهته، مما كشف بالبرهان عن درجة الطب التي وصلنا لها، وأنه مهما ظننا أننا قادرين على هزيمة الأمراض المستعصية، فهذه مجرد دعاوى تدل على أنه ينبغي مواصلة الجهود دائما، وإعطاء العناية للجانب الصحي والعلمي أولا لا لقطاعات تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع.
[1] – الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر ، تونس،1984 ، ج17، ص338-342 بتصرف