حصريا

شروط اختيار الفكر الصحيح عند علال الفاسي

0 395

شروط اختيار الفكر الصحيح عند علال الفاسي

بقلم الباحث: طارق خايف الله.

أستاذ باحث بمختبر الدراسات الدينية  والعلوم المعرفية والاجتماعية. المغرب

من كبار رجالات المغرب في القرن العشرين، وأحد الذين جمعوا بين فضل العلم وفضل العمل؛ الأستاذ الكبير علال لفاسي رحمه الله. هذا الاسم الذي عُرف في التاريخ المغربي بنبوغه العلمي وجهاده المستميت من أجل الاستقلال، وبناء مَغرب ما بعد الاستقلال، وإليه يرجع الفضل مع ثُلّة من الوطنيين في شحذ همم المغاربة لطرد المحتل، وبناء الذات الفكرية الخاصة التي تعين على حسن النظر في مايعنُّ من أمور.

نجدُ الأستاذ الفاسي قد أولى عناية فائقة لقضية التفكير، وما تحتاجه من قواعد وأسس، تعين على إصابة المعنى الصحيح من خلال الفكر المصيب. وهذه كتبه المتداولة شاهدة على هذا ومفصحة عن عقل مغربي كبير[1]، أخذ على عاتقه تنوير الرأي العام، وبث الوعي لدى الجمهور.

بادئ ذي بدء يتأسف علال الفاسي عن غياب التفكير في حياة الناس، وعدم انخراطهم فيه، ولذلك أسباب عدة، أكثرها الكسل؛ ذلك أن التفكير يتطلب منا مجهودا عقليا لسنا نريد أن نبذله[2]. وهذا أقبح العذر، ولمثله قيل” عذر أقبح من زلة”. فإن حاجة الإنسان للتفكير لا تنفك عن حياته كلها، وهو في حياته لا يستغني عن التفكير الذي به قوام حياته العقلية كما لا يستغني عن التنفس الذي به حياته البدنية، ومع هذا الإلحاح نجد الكسالي من الناس لا يخجلون من تعطيل عقولهم، وعيشهم في دوامةٍ من التقليد واتباع طرائق الناس؛ ذلك أن التفكير شيء ضروري بحيث إذا أنت لم تفكر في نفسك وما يصلح لها، دخلت في تفكير الناس وصرت جزءا منها، على قول أهل الصوفية: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وقولبعض الفلاسفة: إن الطبيعة لا تقبل الفراغ. ويزداد الأمر شناعة حينما يتعلق بالإنسان المكلّف المكرّم الذي رضيَ لنفسه هذه الحياة الشّبيهة بالأنعام!

لماذا التفكير الصحيح؟

  • لأن مفهوم هذا الكلام يقتضي بأن هنالك تفكيرا آخر مغايرا، وهو بالضرورة تفكير فاسد، فليس تعطيل التفكير بأحسنَ من التفكير الفاسد، بل قد يُرجَّحُ عدم التفكير أصلا على التفكر الفاسد لما قد يجره هذا الأخير من الفساد على الإنسان وعلى من حوله!
  • ولأن التفكير الصحيح فيه قَصْدٌ واستثمار للطاقة والجهد، وهو الكفيل بالحصول على الثمار المرجوة من التفكير. إن مشكلة كثير من ذوي النِّياتِ الحسنة هو تفكيرهم في غير مواطن التفكير الصحيح، وبالتالي تضيع عليهم أوقات وأزمان في غير فائدة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!

 

  • ولأن المجتمع ورجاله يظَلُّون في حيرة إزاءَ ما يعِنُّ لهم من آراء تدْوي بها أقلام الدعاة في كل وقت، فلا يستطيعون معرفة صحيحها من سقيمها. من هنا كان واجبا على أهل النصح والإصلاح تبيينَ مواقع الفكر الصحيح ليُخرجوا الأُمة من هذا التيه والحيرة كما قال علال الفاسي[3].

ويمكن تلخيص هذه الشروط والقواعد في مبادئ أربعة:

 

الشمول:

ويقصد الفاسي بذلك: «أن تكون الفكرة مراعية ما يصلح كل جوانب الحياة في البلاد ويساعدها على التقدم»[4]. إن النظر الفاسي هنا مُلفت إلى جانب مهم غفلَ عنه كثير من المصلحين والمفكرين، ألا وهو مشكل تجزيئ التفكير، أي عدم القدرة على التفكير الشامل الذي ينظر إلى الإنسان في شموليته، وإلى قضاياه في مختلف جوانبها، وهذا بنظري سببٌ لانحصار كثير من الدعوات الإصلاحية (الحركات الإصلاحية) التي نظرت إلى عمق أزمتنا فحَصَرْتها في جانب واحد معين. ولا شك في أن هاته النظرة الجزئية قاصرةٌ على أن تبْلُغَ بنا إلى المطلوب، ولا تصلح دواءً لعلاج مشاكلنا وأمراضنا؛لأنها قد تخطئ الكشف، وقد تَعرض بالعلاج لمظاهر الداء لا لأصله. لذلك، أعتبر بأن الفاسي كان موفقا جدا في هاته النظرة، فوحده التفكير الشامل هو القادر على إخراجنا من عنق الزجاجة وجعلنا نفكر بشكل أرحب وأوسع. وفي هذا يوصي الفاسي بعدم الاغترار ببعض مظاهر الدعايات التي تشفي جانبا من أمراضنا ولكنها لا تعيرُ أدنى انتباه للنواحي الأخرى[5].

الوحدة:

هذا الشرط ينظر إلى مآلات الأفكار، وإلى غاياتها من لّدُنْ واضعيها، هل هي أفكار داعية إلى لمِّ شمل الأمةالواحدة، وتقوية أواصرها وعناصر تآلفها، أم أنها داعية إلى التفرقة، وتشتيت شملها؟ وهو ميزان دقيق، قَمِنٌ بأن يُعرِّفَ الأمة من يفكِّر لها ليرفع مكانتها بين الأمم، وبين من يفكر لها تفكيرا يبعدها عن أسباب الوحدة والتجمع. فكل فكرة حسب الفاسي تعمل على حل رابطة الأمة، وتمزيق وحدتها والقضاء على كيانها كأمة لها مميزتها الخاصة، لا يمكن ولا يجوز أن تجد لها محلا من القبول والاعتبار[6].

وإن الشرط الأساس لنجاح التفكير الوحدوِي هو الابتعاد عما سمّاه الفاسي بـ:الأنانية في التفكير، والانخراطفي التفكير اجتماعيا، لأن الأنانية عدو الجماعية حينما تطغى ولا ترى إلا مصلحتها الخاصة، ولو على حساب مصلحة المجموع، لذلك يقرر الفاسي بأن الأنانية هي التي تجعل منا أفرادا لا يشعرون إلا بما يلمَسُ وجودهم الخاص غيرَ مبالين بما يصيب غيرهم في سبيل تحقيق أغراضهم الذاتية[7]

الواقعية:

وهي ما عبّر عنها الفاسي بقوله: «الاستجابة لحاجات الأمة ورغباتها»[8]، وكأن الفاسي يقول: إن الأفكار الصحيحة هي التي تعبر عن الأمة وتنطلق من حاجياتها لا التي تأتي من خارج وتفرض عليها قسراً، وهو بهذا يقوم بنقد تجارب الإصلاح التي -مُنيت بالفشل لأنها- أرادت الإصلاح من خارج مقدرات الأمة، فالأفكارالغريبة عن أمّة ما تبقى غريبةً ولا يكون لها تحُّمٌس مثل ما يكون للأفكار التي تخرج من رحم الشعب، إنها تجد مؤازرةً وتضحيةً فائقةً على تحمُّلِ كل المشاق في سبيلها، وهذه فكرة يجب أن تكون بوصلة لكل داع إلى الإصلاح.

إن الاهتمام بأفكار الشعوب وآمالها في عملية الإصلاح لا يكون اهتماما آليا دون تروٍّ أو تفكير، فقد يَعرِضُ للجمهور من أسباب الزيف والفساد – بفعلالمغرِّرِين والمستبدين- ما يجعله دُون أن يُدرك ما يصلحه من أفكار، لذلك حرص الفاسي هنا على أن يكون الدعاة الصادقون في طليعة من يتولى دراسة أماني الشعب الحقيقية  كما يودُّها في أعماقه لا كما تظهر في أعماله التي تأثرت بالفساد الموجّهِ إليه. يقول في هذا الصدد: «ولا يجب أن يُتَملّقَ إلى الجمهور ههنا لأن ما هو واقع فيه ليس ما هو مأمول تحقيقه(…). إن التيارات تجْرِفُ الجمهور حتى يعمل ما لا يوَدُّ، أو يتابع الفساد المنتشر رغبة في تحقيق بعض الشهوات السريعة التي تنسيه مؤقتا أمانيه الحقيقية»[9].فالواقعية التي يدعو الفاسي إليها واقعية واعية متبصِّرة تنظر إلى ما يجب أن يكون لا إلى ما هو كائن.

التقدمية:

التقديمة حسب الفاسي ميزان آخر لوزن صحيح الأفكار من سقيمها؛ والتقدمية في الأفكار؛«هي كل فكرة تعمل على توجيه الأمة صوب التطور والتقدم إلى الأمام»[10]. إنها بعبارة أخرى مسايرة الحياة العصرية والاستفادة منها، وإثبات موطن قدم فيها. ولا يعني هذا التقدم نسيان الأمة لخصوصياتها وثقافتها لدرجة الانصهار في الثقافة الأخرى، إن هذا مُفْقِدٌ لكيان الأمة ويُنْذِرُ حسب الفاسي بالفناء المَحض[11]، حتى لو تغير حال الأمة إلى الأحسن، فإن هذا التغير يُصيِّر الأُمّةَ أُمّةً أخرى غير التي كانت، ويكون ذلك على حساب مقوماتها الذاتية، وهذا لا يكون تغييرا بل انتكاسة عند أولي النهى.وهو مشاهد اليوم لدى كثير من الدول التي انسلخت من تراثها بقطيعة كلية وارتمت في أحضان الثقافة الأجنبية فتغير فيها كل شيء حتى عادتها وطريقة أكلها، وهي تحسب بذلك أنها تحسن صنعا!

إن التقدم المنشود لا ينبغي أن يَخرج عن ماضي الأمة وحاضرها لاستشراف مستقبلها، ولا يجب أن يتنكَّبَ لمسيرتها الحضارية في التاريخ، لأن هذا جزءٌ من الهوية والكيان الذي يجب على الإنسان الاعتزاز به واستئناف عطائه الحضاري المنشود.

 

 

[1]أخص بالذكر هنا كتابه ” النقد الذاتي” وهو عنوان يبرز بجلاء أهمية الفكر في فهم الذات والآخر، والانطلاق من التفكير نحو تحقيق غايات الإنسان ومراميه.

[2]ينظر، النقد الذاتي: 20

[3]النقد الذاتي: 84

[4]نفسه: 87

[5]النقد الذاتي: 87

[6]ينظر؛ المرجع نفسه: 85

[7]ينظر؛ المرجع نفسه: 13

[8]النقد الذاتي: 85

[9]نفسه: 85و86

[10]نفسه: 86

[11]النقد الذاتي: 86

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.