المُناخ القرآني
تبارك الذي نزّل قرآنه على نبيه وعبده محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون منطلقا لأمته، وليقتدحوا منه علمًا ومعرفة…
لا جرم أن الله قد أنزل كتابه ليكون خاتمة كتبه، ولتكون الشريعة المُضمَّنة فيه مهيمنة على كل الشرائع، والنظام الذي أرساه مُسوَّدًا ناسخا لكل الأنظمة، ولما كان كتاب الله كذلك؛ كانت صلاحيته لكل زمان ومكان أهمّ خصيصةٍ فيه وأميزها، والله يقول مُقرِّرًا لهذه الحقيقة ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ وإذا ذكر القرآن ذُكِرت السنة لأنها من معدنه ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
كان نزول القرآن حدثًا ضخمًا ..لقد كان العلامة الفارقة، والانطلاقة العظمى لعصرٍ جديد وحضارةٍ جديدة، فهيّأ المناخ الملائم لحياةٍ علميةٍ وحضارية لم يُعلم لها مثيل، وعندما تُذكر الحضارة فإنها تُذكر بجميع جوانبها العلمية والفكرية والأخلاقية حتى تكون الأمة الإسلامية خير أمّةٍ أُخرجت للناس حقًّا وصدقَا، فأول ما اغترضه القرآن هو ما نبّه إليه العلامة الطّاهر بن عاشور بتقريره : (إنّ الغرضَ الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمّة بأسرها)! وأوّلُ سبيلٍ لهذا أن تتحدّ الأمة، وتنبُذ الخلاف، فإذا اتّحدت قَوِيَت وإذا قويت تمكّنت فحطّمت ما يعترضها، ومن تدبّر القرآن تبيّن أنه جاء لاستيعاب الخلاف وتحطيم أسبابه، والأمر بالاعتصام ولمّ الشمل، وهذا ما جعل الجيل القرآني الأول ينجح في استرداد العالم لحضن الإسلام عندما أصلحوا من أنفسهم بالقرآن! ثم انطلقوا يجاهدون بالقرآن! (وجاهدهم به جهادا كبيرا)
والعمل الذي ينبغي أن تتضافر فيه الجهود هو العودة إلى ما نشأ عليه الجيل الأول لنصل إلى النتائج نفسها التي وصلوا إليها، فقد غَدَتِ الأمة لها من الجاهزية للانقسام أكثر مما لها من الجاهزية للوحدة، ودبّ إلينا داء الخوف من الغرب، واحتملنا عقلية المؤامرة، فبها نفسِّر ضعفنا، والمؤامرة إنما تستهدف الضعيف، فلابدَّ من موئلٍ نؤول اليه نستقوي به؛ والقرآن خيرُ موئلٍ
والله يقول (وإن تصبروا وتتقوا لا يضرُّكم كيدهم شيئا) وكيد الغرب يقول : لا بد أن نُرجع العرب إلى عهد القبيلة، لأنهم ليسوا أهلا للدولة! ونحن بالقرآن أسسنا خير دولة، فكان لابد من الرجوع إلى المربع الأول كما يقال، لأن حالنا صار مؤسفًا، وهو ما أغرى بنا العدوّ (يوشك من عاش منكم أن يرى منكرًا لا يستطيع له غيرَ أن يعلم اللهُ من قلبه أنه له كاره) كما يقول بن مسعود رضي الله عنه، وكلُّ خلافٍ شرّ؛ ينبغي الاجتهاد في النأي عنه ونبذه، وما يقع منه قدرا وكونا، فإنه ابتلاءٌ يمحّص الله به عباده، إلا أنّ (أهل رحمة الله، لا يختلفون اختلافًا يَضِيرُهم !!) كما يقول الحسن البصري، ومن عَدِم في القرآن ما يشفيه فلن يجد في غيره ما يرجوه (قل فأتوا بكتابٍ من عند الله هو أهدى منهما أتَّبعه إن كنتم صادقين)
والقرآن العظيم كما حرص على الجانب الشرعي والعقدي فإنه لم يغفُل الجانب الدنيوي لحياة الإنسان، فإذا تأمّلت أول فعل أمرٍ في الإسلام “اقرأ” ومضامينه ومقتضياته؛ وجدت أنه فعلٌ عظيم يُنبئ عن حضارةٍ ضخمة، بدأت بالقراءة التي نتج عنها كتابٌ ضخم؛ ما كان ليغادر جانب الدنيا بعامّة، فهو وإن لم يأتِ ليُفصّل في حاجات الناس الدنيوية ويستوعبها، وهي المُتجدِّدة والمتنوِّعة، إذ الإحاطة بها مُتَعذَّرة، لكنه أرشد إلى أصولٍ عامّة، وأمر بالقراءة والعلم، وأشار إلى أمور الدنيا بإشارات تستحثهم على طلب ما ينفعهم، وأمر القرآن بإتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليُفصِّل لهم بعض الذي أُجمِل في القرآن، وهذا ما نشاهده حين نتتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو رجعنا إلى الوراء قليلا قبل الثورة الصناعية في فرنسا لوجدنا “ديكارت” يقول في مقالته “المنهج” : (انه لمن الممكن الوصول إلى معرفةٍ تُطبَّق تطبيقاً نافعاً في الحياة، بحيث تترك مدارس التعليم تلك الفلسفة السكولاستية، وتعلّم فلسفة تقبل التطبيق، وتتيح لنا، بعد معرفة تأثير النار والهواء والأجرام الفلكية، والسماوات وكل الأجرام التي تحيطنا، أن نستخدمها تحت قانونها بالذات لمصلحتنا الخاصة بحيث نتمكن من امتلاك الطبيعة والهيمنة عليها)
ومُراده بالفلسفة السكولاستية : هو المدرسة القائمة على التنظير أكثر من التطبيق، وكانوا يعتمدون أفكار أرسطو وأفلاطون ؛ وما يتْبع ذلك من جدل .
ديكارت رجلٌ عملي أراد أن يفتق من الفلسفة شيئا عمليًا، وأن يُخرجها من دائرة الكلام إلى دائرة الفِعال، وأن ينزع عنها رداء التنظير المُجرّد.. وعلى هذا انطلقت أوربا في التطبيقيات من هذا المناخ العقلي الذي ركّز عليه ديكارت، واستنهض أوربا منه، فكان منها ما نراه الآن من تطوّرٍ مذهل .
القرآن سبق ديكارت.. القرآن جاء بمناخٍ علميٍّ، وإثارةٍ للبحث، واستفزازٍ للقرائح، وطرحِ أسئلةٍ عقليةٍ مهمّةٍ لبناءٍ معرفيٍّ لم تكن العرب تعرفه قبل نزول القرآن بفعل الأمر : اقرأ.
وما تلا هذه الآية من الأمر بالعلم، والفرق بين العالم والجاهل، والأمر بالمحاججة …
القرآن وإن لم يأت مباشرةً بالجبر؛ ولا بالحساب العشري، ولكن هذه العلوم أتت إلى الوجود في المناخ الذي هيّأه القرآن .!!(1)
يقول الباحث المغربي عباس أرحيلة : (القرآن أوّلُ كتابٍ في حضارة الاسلام، وحوله تفجّرت ملكات الكتابة في تلك الحضارة، وعلى الباحث في حركة العلم في تاريخ الاسلام أن يتذكّر أن موقف الدين الاسلامي من العلم كان هو الشرارة التي فجّرت مجالات البحث العلمي وفتحت آفاق المعرفة في الكون ) إ.هـ
ولنا في قوله تعلى مثال حيث قال جلَّ في علاه : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
قال القاضي عبد الجبار المعتزلي تعليقا على الآيات : إن سائر الأجسام والأعراض وإن كانت تدل على الصانع فهو تعالى خصَّ هذه الأشياء الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعما على المكلفين على أوفر حظ ونصيب!، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثيرا في الخواطر)
يقول محمد رشيد رضا في مناره : (يظن بعض الجاهلين أن الميل في العرب إلى العلوم الرياضية والطبيعية كان من طبيعة المُلك والعمران لا من إرشاد السنة والقرآن)
ومن الإشارات النبوية قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله عز وجل داءً، إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله
ومن حديث أسامة بن شريك رضي لله عنه قالت الأعراب: يارسول الله : أنتداوى؟ فقال: تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داءًا إلا وضع له دواء، غير داءٍ واحدٍ: الهرم.
هذا التوجيه النبوي هو إثارةٌ للبحث وحثٌّ على إيجاد شيءٍ موجود، وليس بمستحيل؛ بقرينة ذكر “الهرم”، فإنه لما كان الشفاء منه مستحيلا نبّه عليه النبي صلى الله عليه وسلم مُلمِّحا أن ما دون الهرم ولم يكن من جنسه، يمكنٌ عقلا الوصول إلى العلاج منه
وههنا أستحضر قول محمد أسد أو (ليوبولد فايس) : التاريخ يبرهن بما لا يدع مجالًا للشك أنه ما من دينٍ أبدًا حثَّ على التقدُّم العلمي كما حث عليه
القرآن يتسنّم بالأمة ذروة الأمم إن اعتاشت في مناخه؛ لا تُذوى أبدا مادامت كذلك
وندرك هذا حين نطالع السيرة النبوية وأنها تطبيقٌ عمليٌ للقرآن، وتفصيلٌ لمُجملاته، في كل الميادين : الاجتماعية والسياسية والعلمية والاقتصادية
وما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وما يفعله وما يقرّه؛ وحيٌ كوحي القرآن إليه، لأن الجانب القطعي والصحيح في السيرة النبوية كثيرٌ لم يدخله تحريفٌ، كما هو الحال مع سيرة عيسى أو موسى أو غيرهما من الأنبياء عليهم السلام، ولأن شخصية النبي محمد صلى الله عليه السلام عظيمةٌ بالغة العظمة ..عظيمة بالنسبة للأنبياء حتى لأولي العزم منهم، وعظيمة للناس جميعا…
ترى كثيرا من الناس يكرر حديث النبي صلى الله عليه وسلم إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هَدْي محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإن المتكلمين في البناء الحضاري والدولة المدنية والمعنيين بالإنسان كروحٍ وقِيَم يُقصِّرون في قراءة الجانب الفكري للسيرة النبوية، وهذا يؤثر سلبا على بناء حضارةٍ كالتي كانت في عهد الأوَّلين
السيرة النبوية تبنى حضارةً كاملة بدءًا من الفرد مع نفسه ثم مع عائلته ثم مع محيطه ومجتمعه ثم مع الدولة، حتى الدولة تُبنى من خلال تتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الدولة بدورها في السيرة نتعلم منها كيف تعامل فردا وكيف تعامل عائلة وكيف تنظم مجتمعا في علاقة متصلة الأدوار، كل ذلك في مناخ القرآن
في السيرة النبوية يستخلص القارئ بناء الفرد بإيمانه بالله جل وعلى توطيد هذا الإيمان بالعبادة فأول شيء أمر به الإسلام : الصلاة والتهجد، وأول ما أُمِر به النبي صلى الله عليه وسلم كان قيام الليل (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) لان الصلاة تجعل من الفرد رجلا صالحا قويا متوكلا على الله، والقوة كل القوة إنما تُستمد من الله عن طريق ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، فأول الحضارة بناء الإنسان القوي المتعلِّق بالله ثم تحلّيه بفضائل الأخلاق من كرم وطيب كلامٍ وصدقٍ في التعامل والأمانة وأداء العهود لكي يكون فردا صالحا ثم أمر هذا الفرد أيضا أن يصلح أهله (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) العائلة التي تصلي عائلةٌ مضيئةٌ يتوهَّج ضوؤها فهي في اتصالٍ مع الله أبدا، والعائلة التي تربّت على هدي السيرة النبوية عائلةٌ متوازنة، فأمرت الزوج بالإحسان إلى الزوجة وأمرت الزوجة بطاعة الزوج وحسن التبعل، وأمر الابن بطاعة الوالدين وأمر الوالدين بتربية الأبناء أحسن ثم فصَّل في ميراث العائلة بما لا ظلم فيه ولا حيف ثم أمر بصلة الرَّحم وإيتاء ذي القربى وصوّر المجتمع الإسلامي المحافظ على نسيج الأخوة فالكبير موَقَّرٌ والصغير مُحترَم، في الحديث (إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة فينا) وزيد في التعهّد على الجوار حتى ظُنَّ أنه من أسباب الإرث، وجعل الزكاة حقا للفقير على الغني ليكون الكلّ في غناء، وكثيرا ما قُرنت الصلاة بالزكاة؛ وفي هذا إشارة إلى بناء الفرد بالصلاة، وبناء المجتمع بالتواصي والتفقد لأحوال الآخرين ..
كان أولُ شيءٍ فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين مقدمه المدينة بناء المسجد؛ فيه يَسُوس دولته ويوِّجِّه مجتمعه ويسأل عن أفراده، فكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن المُتخلِّفين عن الصلاة، كان يُخطِّط للحرب أيضا، وكان يَعرض ما ينزل عليه من قرآن، ويأمر بأوامر الله وينهى عن المحرمات، هنا إشارة إلى بناء الدولة من فردٍ إلى مجتمعٍ إلى سياسة دولة
المسجد في الإسلام مظهرٌ حضاريٌ؛ وليس قصرا على العبادة ، كحال الصوامع والكنائس والأديرة
وفي جانب المعاملات وجّه القرآن المسلمين إلى بناء اقتصادٍ رشيد، فاهتم بربط الفرد بالله ليكون فردا مؤمنا بالله ينفق ابتغاء مرضاته، ليسهُل البذل ويهون، وفصّل في البيع وشروطه، وحرّم الربا وأنواع البيع المتستِّرة بالغش، وحث على الزرع ومَثَّل به إشارةً منه إلى أهميته، وجفَّف منابع الرِّق، وحثَّ المالك على قبول المكاتبة من العبد المملوك..إلى غير ذلك ممّا هو مُفصَّلٌ في مظانه.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يبني نظرية الإسلام السياسية من قبل الهجرة في ظل المناخ القرآني، يوم أن بنى الجماعة المصغّرة بناءً متينا حتى صدعت بالرسالة، وكتب إلى النجاشي كنوعٍ من التواصل الدولي، ثم عقد البيعة مع كبار أهل المدينة، فكانت الهجرة، وهذه من أكبر المواقف والقرارات السياسية التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم، وكما استعان بمن يساعده على الطريق في هجرته؛ استعان أيضا بالمترجمين، واستعان بحديثي العهد من المسلمين في التخطيط للحرب، وعمل على إرسال البعثات العلمية، لما أرسل نفرا من الصحابة لتعلُّم المنجنيق من نصارى الشام، واستثمر أسرى الكفار لتعليم المسلمين
هذه إشارات تبعث على البحث والاستقصاء، فإن القرآن منهلٌ لا يغيض، تفيض منه المعاني لمن أقبل عليه، وتنشعب منه التصوّرات والمناهج والقيم والموازين التي من شأنها أن تنتج مجتمعا إنسانيا متحضِّرًا
وبعدُ: فالقرآن مفردٌ بين الكتب؛ لا يشبهه شيءٌ منها، يستحثُّ المؤمن على العلم ويُثوِّر عقله، ويستفزّه للمعالي، فإن أخذت الأمة بحقِّه، وقامت بحرفه وحدِّه، واحتملت معانيه واستبصرت مراميه، رفعها القرآن فارتقى بها في صُعدات العلم، ونفذ بها إلى مسارب الكون، وتسنَّم بها ذُرى الأمم، ومتى تخلّفت عنه، ارتكست فتذيّلت فهي في مهاوي الجهل والتخلّف تتردّى… والسلام
(1)من أفكار مالك بن نبي
وكتب المُتَحَنِّنُ إليهم
بن جدو بلخير