دور الأمة في إنقاذ غزّة-د.أحمد عطية السعودي-الأردن-
دور الأمة في إنقاذ غزّة
بقلم
د. أحمد عطية السعودي/ الأردن
——————–
لَمّا كنتُ في مدينة قونية بتركيا دعاني نادي طلبة اليمن؛ لألقي محاضرة في قاعة جميلة بُعيد الظهيرة، فقالوا: يا أستاذ أحمد، أنت من أهل الأردن أهل الحشد والرباط، وتنعمون بجوار الأرض المباركة، فحَدِّثْنَا عن فلسطين، تاريخها، وحاضرها، حديثا مُصَوَّرًا بالكلمة الموحية؛ نكون كمن يراها رأي العين.
ابتدأتُ بقولي: مَنْ ذا يقدر على الحديث عن فلسطين مهوى الأفئدة في ساعة من الزمن، وهي دُرّة التاريخ، وسُرّة الدنيا؟!
فلسطين مذ خلقت، وهي حرة أبية، عبقت بأنفاس الأنبياء، وأسرى إليها، وعرج منها محمد ﷺ، وأرضها تتكلم العربية، وإنسانها من أرقى ما خلق الله إيماناً، وعزيمة، وصموداً، ومدنها أجمل المدن: القدس، واللد، وجنين، ونابلس، وعكا، وحيفا، ويافا، وأريحا، ورام الله، والرملة، وطولكرم، والخليل، وغزة.
فلسطين صخرة صلدة تحطّمت عليها أحلام الغزاة، حطّمها صلاح الدين الأيوبي، وسيف الدين قطز، والظاهر بيبرس، والأشرف خليل بين قلاوون، وعز الدين القسّام، وأبطال معه صدقوا ما عهدوا الله عليه.
فلسطين التي تدر لبناً وعسلاً هي اليوم في قبضة المحتلين الصهاينة منذ سنة (١٩٤٨) م، قد استباحوا إنسانها، وأرضها، وشربوا ماءها، وأكلوا ثمارها، وأقاموا فيها مستوطنات، “وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله”، وإذا شئتم فاقرأوا كتاب “بلادنا فلسطين”، للعلامة مصطفى مراد الدباغ، في أحد عشر جزءاً.
واليوم تتعرّض إحدى جواهر فلسطين، أعني غزة العزة، غزة هاشم الجد الثاني للنبي ﷺ، وغزة الإمام الشافعي، وغزة ابن حَجر العسقلاني، وغزة العلماء، والأدباء، وحفظة القرآن، تتعرّض لأبشع القصف، والتهجير، والتدمير الذي يرتكبه العدو الصهيوني المحتل منذ السابع من شهر أكتوبر من هذا العام (٢٠٢٣)م، حين هزمته المقاومة، ودخلت مستوطناته، وأسرت جنوده.
فما واجب الأمة نحو هذه المدينة؟
واجبها أن تدافع عنها بكلّ ما تملك من قوة وعتاد، ورجال وجند، ومال ونفط، وتدافع عنها بكل ما تملك من نبضة قلب، وكلمة وزفرة، وفيديو وصورة، فقد كان الشعر في عهد النبي ﷺ سلاحاً فتّاكاً في معركة الصراع بين الحق والباطل، وقد وضع النبي ﷺ لحسان بن ثابت منبراً في مسجده يرجمُ منه مشركي مكة بحمم هجائه، وسخريته واستهزائه.
وهو إذ يفعل ذلك، يقول له النبي ﷺ: “قل يا حسان، وروح القدس معك”، وفي رواية: “إنّ روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله”، فتأييد الملائكة ليس للمجاهد على أرض المعركة فحسب، بل لصاحب الكلمة شعراً ونثراً، وصورة وصوتاً.
واليوم حلّ الإعلام محل الشعر، وأثّر تأثيراً بالغاً في حياة الناس، واستحوذ الغرب على النصيب الأوفى منه؛ فَشَوَّه الحقائق، وَزَوَّرَها، وَحَطّ من شأن الأمة، وأزرى بها، وإنّ حبنا للأقصى يوجب علينا أن نسهم بالكلمة منطوقة ومكتوبة، نقولها، وننشرها، نزرع بها الأمل والتفاؤل في النفوس، ونُفَنِّد مزاعم المحتل وأكاذيبه، ونُعَمِّق الحب للأقصى.
وندعم بها غزة المدينة العظيمة التي لا نظير لصمودها بين مدن العالم، وبخاصة، وقد ألقى عليها الاحتلال الغاشم أطنان الحمم المدمرة التي تبلغ حتى الآن قنبلتين نوويتين مما ألقته أمريكا على هيروشيما ونجازاكي في الحرب العالمية الثانية.
غزة اليوم تحتاج إلى بطل كصلاح الدِّين، أتدرون ماذا فعل هذا البطل، حتى تمكن من تحرير القدس في معركة حطين سنة (٥٨٣) للهجرة، وهزيمة الصليبيين هزيمة ساحقة في (٧) ساعات فقط؟
- تحلى بأخلاق الكرم، والتواضع، والشجاعة، وملأ نفسه بالخوف من الله تعالى.
- حكم الرعية بالعدل والإحسان.
- وحد المدن، والقلاع، ومصر والشام، واستغرق ذلك منه عشرين سنة.
- أعد جيشاُ عظيماً في إيمانه وأخلاقه، وكفاءته القتالية، وحبه للشهادة في سبيل الله.
- أعلى منزلة العلماء، والفقهاء، والأدباء، والشعراء، وقرّبهم، وفاخر بهم.
وكان من أبرز هؤلاء: القاضي الفاضل، والقاضي بن شداد، ومحيي الدين بن الزكي، والعماد الأصفهاني.
وبعد أن فتح القدس، وقف بين جنده، وقال لهم كلمته المشهورة: “لا تظنوا أني فتحت البلاد بسيوفكم، بل بقلم الفاضل”!
غزة اليوم تستغيث، وتحتاج إلى كل شيء، حتى الكلمة تواسيها، وتضمّد جراحها، يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، مبيناً عظمة الكلمة، ومستنهضاً همم أهلها: “الأدب هو محرّك الشعوب، ومثير الهمم، وباعث العزائم، الأدب يوقظ النائم، وينبّه الغافل، فأين أنتم يا أدباء العرب من قضية فلسطين؟
إنّ خطبة طارق فتحت الأندلس، وخطب نابليون أكسبَته إسترلتز، وخطب فيخته أعادت الروح إلى الألمان، وأرجعتهم إلى مكانهم من الحياة، فأين القصائد الفلسطينيات؟ أين الأقلام الحرّة المؤمنة التي يتطوّع أصحابها؛ ليكونوا جنوداً في معركة فلسطين”.
وأعظم ما تكون الكلمة حين تُغْمس بدم الشهادة، كما فعل الشاعر عبد الرحيم محمود، وقد حملَ روحه على راحته، واستشهد في قرية الشجرة سنة (١٩٤٨)م:
سَأَحمِلُ روحي عَلى راحَتي وَأَلقي بِها في مَهاوي الرَّدى
فَإِمّا حَياةٌ تَسُرُّ الصَديقَ وَإِمّا مَماتٌ يَغيظُ العِدى!
ومعركة اليوم هي معركة الكلمة إلى جانب الرصاصة، معركة الإعلام والحرب النفسية، معركة الكاميرا والصورة، معركة عدو وحشي يرتكب المجازر على الهواء مباشرة، لا يردعه أحد، ولا يخاف من أحد!
وعلى الرغم من موت ضمير العالم الذي يتشدق بحقوق الإنسان، فلا تزال لدى المسلم فرصة، ليستنكر هذه المذابح التي يقترفها المحتل الدموي، وليعبر عن تضامنه مع الضحايا من الأطفال، والنساء، والشيوخ، ولو بشق كلمة.
ومما يسهم في ذلك أن اللغة العربية تتبوأ المرتبة الرابعة بين لغات العالم على شبكة الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، وهذا يعني أن لها حضوراً عالمياً كبيراُ، يجب استثماره في التضامن مع أخوة الدين والعروبة، وذلك من خلال:
○ المشاركة الفاعلة في الحملة الإعلامية، والحرب النفسية دفاعاً عن فلسطين، وأهلها الصامدين، وتعرية لجرائم المحتل الغاشم، ومجازره الشنيعة.
○ الدعوة إلى مقاطعة منتجات العدو وداعميه؛ فإنها من أشد الأسلحة فتكاً باقتصاده.
○ تداول الأخبار، والمنشورات، والصور، ومقاطع الفيديو المتعلقة بمدينة الأبطال، وتضحيات أهلها، وحاجتهم إلى الماء، والغذاء، والدواء، والوقود.
○ بث الأمل في النفوس، وتقوية الهمة والعزيمة، ونزع اليأس والوهن من القلوب.
لقد علمنا التاريخ أنّ القوة الغاشمة بسلاحها، وعتادها، وجنودها، وآلياتها، وطَمَعِها، وانتقامها، وبطشها، قد تغلب أهل البلاد، وتحتل أرضهم، ولكنها لا تحسم الصراع معهم.
لماذا؟ لأنها قوة احتلال لا تنتمي للأرض التي احتلتها، وَالْأَرْضُ المحتلة بكل مظاهرها الطبيعية تنبذها، وتلفظها، وتقاومها، كما يقاوم الأسد الدخلاء المتربصين بعرينه، ثم إنّ الله تعالى لا يرضى لعباده الظلم، فيهيئ من أبناء تلك البلاد من يُلَقِّن المحتل والمستعمر درساً لا ينساه أبد الدهر.
وما الدليل على ذلك؟ فيتنام التي هزمت عدوها الغربي الشرس الذي جاءها من وراء البحار، والصومال التي سحلت جنوده في الشوارع، وبلاد الأفغان التي أخرجته مذموماً مدحوراً بعد عقدين من الاحتلال، والمجازر، والفظائع، والجزائر التي قاومت المستعمر الفرنسي قرناً وربع القرن، حتى مرّغت أنفه في الخزي والعار، بعد أن قدّمت أكثر من مليون شهيد خلال (١٣٢) سنة!
وسنة الله لا تتبدل، ولا تتحول، وكذلك سيكون حال هذه الأرض المباركة، فسوف تهزم المحتلين الذين بطشوا بقسوة وعنف، وتفاخروا كما تفاخر فرعون اللعين: “وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ”، وسوف تلقي بهم إلى مزابل التاريخ، مع الفرس، والروم، والتتار، وفرسان المعبد!
وأهل غزة لا يقلّون شجاعة عن سائر المدن التي قاومت المستعمرين، ولقد بهر العالمَ كله، شرقه، وغربه، صَمُودُ أهل غزة، صمود أطفالها، ونسائها، وشيوخها، على الرغم من قصف الاحتلال العنيف، والقتل البشع، والتنكيل المخيف، وعلى الرغم من أنهار الدماء، والأوصال، والأشلاء.
فيا للعظمة، والشموخ، والبطولة، ويا للعزة، والعنفوان، والتضحية، من أي الطين خُلِقْتُم يا أهل غزة؟ ومن أي ماء شربتم الأنفة، والبسالة، والصبر الطويل الجميل؟!
أيها المحتلون الغاصبون،
انشروا الهول وصُبّوا ناركمْ كيفما شئتم فلن تلقوا جبانا
غَذَّتِ الأحداثُ منّا أنفُساً لمْ يزدها العنفُ إلاّ عنفوانا!
ولكن ما هو سرّ هذا الصمود الأسطوري؟
سرّه هذه النشمية الفلسطينية، المرأة التي لا نظير لها بين نساء هذا العالم المعاصر، وكيف يكون لها نظير، وهي التي أنجبت الأبطال، وأرضعتهم السمو والأنفة، وربتهم على الإيمان، وعلمتهم أن فلسطين أرض مقدسة محتلة، ولا بد يوماً أن تعود إلى أصحابها بسواعدهم، طال الزمان، أم قصر.
إنها المرأة الفلسطينية، فخر نساء العرب، بلا منازع، إنها المدرسة التي خَرَّجَتْ آلاف الشهداء، فما شَقَّتْ جيباً على أحدهم، ولا تَفَطَّرَت لها كبد، بل زفتهم بالزغاريد والأغاريد؛ لأنها تؤمن أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، إنها السائرة في موكب النور، موكب صفية بنت عبد المطلب، وأم عمارة، والخنساء، وخولة بنت الأزور.
وكل هذا الصمود الذي ترونه للأبطال في مدينة الأبطال هي التي صنعته على عينها، فإذا سَأَلْتَ: من هم الذين يتصدون لمائة طائرة تلقي في وقت واحد آلاف الأطنان التي تزلزل الأرض، وتحرق الأخضر واليابس؟! كان الجواب: إنهم أولادها البواسل، هم وليس غيرهم من العرب.
وإنك لتَعْجَبُ أشد العجب حين تطلع على مزايا العالم الإسلامي، المتمثل في ست وخمسين دولة، والذي تبلغ مساحته ربع مساحة الكرة الأرضية، والذي يبلغ تعداد سكانه ملياري إنسان، والذي يطل على (٣) محيطات، وفيه (١٨) بحرا، و(٤) بحيرات، و(٢٥٠) نهرا، واقتصاده أقوى اقتصاد، وترسانته أضخم ترسانة، وهو في موقع إستراتيجي يتحكم بالنقل، والتجارة، والملاحة.
وعلى الرغم من مخزونه البشري الهائل، وموارده، وإمكانياته، إلا أنه يقف اليوم مكتوف الأيدي عاجزاً عن إمداد مدينة غزة الجريحة المحاصرة بكوب ماء، أو علبة دواء، أو فوطة أطفال، أو برميل نفط، أو حتى شمعة واحدة، فضلاً عن إمدادها بالقوة والعتاد!
لقد انطبق علينا حديث رسول الله ﷺ عن الغُثَاء الذي لا يغني شيئاً، فها هي أمم الغرب قد تداعت على هذه المدينة المنكوبة، تقصفها بالأسلحة المحرمة دولياً، وتنهش عظام أطفالها، وتحرق كل شيء فيها، والمسلمون يتفرجون كأن هذه المذابح أعراس عند جيرانهم، فلقد أصبحنا غُثاء كالذي يَطفو على ماءِ السَّيلِ مِن زَبدٍ، وأوْساخٍ، وفَقاقِيع!
إنّ مدينة غزة قياساً بمدن العالم الإسلامي وعدد سكانه هي عائلة واحدة صغيرة، وهذه العائلة تشتعل فيها الحرائق منذ شهر، ولا أحد يحمل الماء ليطفئ تلك الحرائق، ويسقط فيها جرحى، ولا أحد يحمل الدواء ليسعفهم، وتأكل النار أطفالها، ولا أحد يأتي بالأكفان ليلفهم بها، هذه العائلة تواجه كل ساعة خطر التصفية، والاجتثاث، والتطهير العرقي، وهي تصرخ وتنادي: واعرباه، وا إسلاماه!
غزة اليوم تقاوم وحدها، وإنها لتستحق بجدارة أن تنال أرفع الأوسمة، وتلقّب بمدينة الصمود، ومدينة الأبطال، ومدينة الشهداء، ومدينة التضحية والفداء، وها هي قوافل آلاف الشهداء تمضي في مواكب النور والضياء، وتلعن العدو المجرم الذي سفك دماءها، وأهلك الحرث والنسل على مسمع من العالم، ومرأى، إنها تزف شهداءها إلى جنات النعيم بإذن الله تعالى، وتزف أعداءها إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق.
بِلادٌ ماتَ فِتيَتُها لِتَحيا وَزالوا دونَ قَومِهِمُ لِيَبقوا
فَفي القَتلى لِأَجيالٍ حَياةٌ وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ
وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ يدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ!
ولا ريب أنّ أمتنا المسلمة الحاضرة ذاقت طعم الهزائم والنكبات، ولم تذق طعم النصر منذ مائة سنة، فكيف تنتصر؟ تنتصر إذا أخذت بالسنن التي وضعها الله تعالى في الأرض، ومنها: الإيمان والتقوى، والإعداد وحشد الطاقات، والصبر والرباط، والثبات وذكر الله تعالى، والاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق.
الأمة المسلمة الحاضرة على أحر الجمر لتذوق طعم الظفر والفوز، فقد بغى عليها المحتل الغاشم، وبخاصة في غزة؛ فصب على رؤوس ساكنيها آلاف الأطنان من الحمم المدمرة، وآلاف الصواريخ، وآلاف القذائف.
ومخطئ من ظنّ يوماً أن القوة الظالمة الغاشمة ستدوم، فالله تعالى حَرَّمَ الظلم على نفسه، وجعله مُحَرَّمَا في أرضه، فما كان لمّا طغت عاد، وثمود، وقوم فرعون؟ أخذهم المنتقم الجبار، وقصم ظهورهم، وَتَوَعَّد من يسلك مسلكهم: “إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد”، لذلك، كل ظلم إلى بَوَار، وكل احتلال إلى زوال: الروم، والفرس، والتتار، والصليبيون، كلهم تجَرَّعُوا كأس الهزيمة، وزالوا، وهذا الاحتلال هو أوهن من بيت العنكبوت، ومن نمر على ورق، وهو إلى زوال لا محالة، فابشري يا غزة بالعزة، والنصر والتمكين.