خطأ إنهاك المحرِّك
خطأ إنهاك المحرِّك
الدكتور: مسعود بن محمد صحراوي – الجزائر
كان العامل الديني -في الجزائر (وفي كل أقطار الإسلام) منذ اليوم الأول لدخول الإسلام هذه الربوع- هو المحركَ الأقوى في التوجيه الحضاري للمجتمع الجزائري والعاملَ الأقوى في استنهاض الهمم وتحريك انتفاضاته ومقاوماته البطولية الكثيرة، فإذا وُجد من يُثير أهل البلاد بهذه القوة الإيمانية الحية الدافعة العجيبة فسوف يستنفر مختلف القوى والجماعات والهيئات والأحزاب والشخصيات (ليس ذات المرجعية الدينية فحسب بل جميع القوى الوطنية ما عدا القلة القليلة المعروفة باتّباعها للأجنبي الطامع…)… يستنفرها للتعبئة الإيجابية البناءة والنهضة والإصلاح ومقاومة الغزو-ربما بعد شيء (قليل أو كثير) من المناقشات والمطارحات ومحاولات الفهم والتفاهم والتبصر- فالدين الإسلامي بقوته الذاتية وبما فيه من روحانية دافعة محرِّكة لا تحدُّها الصعاب وبمبادئه الغلابة وبنوره الكاشف الوضاح، ثم بواقعيته ومرونته، وبقدرته العجيبة على التغلغل إلى النفوس ومخالطة سويداء القلوب… بكل ذلك يقود المجتمعات التي تعتنقه إلى الصمود ومواجهة المخاطر النفسية والاجتماعية والحضارية ويحركها نحو البناء والحق والخير، فهو الباني المحرك للحضارة وهو القائد الموجه لها، فهو القادر على القيام بوظيفتين باقتدار لا نظير له – وقد أثبت التاريخ ذلك-:
1-وظيفة المحرِّك الحضاري 2-وظيفة الموجِّه الحضاري
الوظيفة الأولى وظيفة استنهاض الأتباع للمقاومة والمدافعة والصمود ومواجهة الاستعمار، ومواجهة الاستبداد والفساد الأخلاقي والاجتماعي، وتلك من وظائف الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… والوظيفة الثانية وظيفة توجيه البناء الحضاري وتحصينه بالعبادات و تفعيل أحكامه وشرائعه المختلفة … والوظيفتان تتكاملان معا في إخراجنا من رذائل الكسل والتواكل والعبثية والفوضى والغثائية واليأس والتناحر… إلى فضائل الجد والنظام والتآلف والتعاون والبناء والأمل والعزم والعلم… إذا كنا نريد الإصلاح فعلا.
فإذا ما استُبعِدَ هديُ الإسلام عن دوره وعُطلِت وظيفته أو حُدَّ من تمدّده ووُوجِه بمحاولات إطفاء نوره كما يحدث في بعض بلاد العرب والمسلمين وفي أوروبا… وإذا ما قصَّر أبناؤه في حسن فهمه وتطبيقه والدعوة إليه والتبشير به… إذا حَدثَ شيءٌ من ذلك حلت النكبات والمصائب (سماها القرآن الكريم المعيشة الضنك) في دنيا الناس قبل آخرتهم وتَعطَّل المحرك أو أُنهِك بسبب ذلك الفكر وتلك الممارسات، وإنما يعود الضرر الكبير والفسادُ العريض على الدول والمجتمعات والأفراد نتيجةً لذلك، وتلك سنة الله في التاريخ.
وقد يأتي هذا التعطيل والإنهاك من جهات شتى داخلية وخارجية؛ فقد يأتي من الأبناء والمنتسبين كما يأتي من الأعداء والمناوئين، أما الأعداء والمناوئون فمناوأتهم للإسلام وحربهم له لا تنقطع وأمرهم معروف (ما يحدث في فرنسا وغيرها)، وأما ما يأتي من الأبناء والمنتسبين فبأشكال وصور شتى منها: سوء الفهم وسوء التطبيق، ومنها ضيق الأفق والغلو والتعصب للمذهب ولرأي الإمام المتبع وللفرقة والجماعة والحزب… وهذا يقود إلى خلع شتى التهم الباطلة على المخالف؛ تُهَمٍ من قَبيل التكفير والتبديع والخروج عن عمود الدين والمهيع الحق ومخالفة السنة وإتيان البدعة، وربما الخيانة… وقد نجد هذا عند الكتاب والخطباء المتحزبين وطلبة العلم المتحزبين ووعاظ السلاطين المغرورين بما حصلوه من الحظوة الدنيوية، وقد يعمد بعضُهم إلى خلط قطعياتِ الدين بظنياتِه، أو يُنزلون المستحب منزلةَ الواجب أو المكروهَ منزلة الحرام، فيقع من ذلك حرجٌ وفتنة وانقسام وتقطيع لشبكة العلاقات… وأيُّ فساد أعظمُ من فتنة المسلمين عن الهدى ليلبسوا عليهم دينهم من جراء الخوض في القضايا الكلامية العقائدية التي اهتزت بها منابر الخطابة ومجالس الملوك والمناظرات في تاريخنا حينا وسالت لها الدماء بغير حق وانتُهِكَت بسببها أعراضُ الأبرياء وعُذّبت أجسادُهم بغير حق، من فقهاء ومحدثين ومتصوفة ومتكلمين وغيرهم أحيانا أخرى… وكل ذلك يفضي إلى تعطيل المحرك أو إنهاكه.
إن إثارة القضايا الكلامية والخلافات العقائدية في عصرنا -كما حصل بين الأشاعرة وأهل الحديث- والتي لم تكن في أصول الإيمان والعقيدة بل في الفروع- لم يعد أمرا مجديا في موقعنا الراهن من دورة التاريخ، بل هو أمر مضِرٌّ في ضوء مشكلاتنا الراهنة وصراع شعوبنا وكفاحها للتخلص من هيمنة الاستكبار العالمي والاستبداد الداخلي ومظاهر الفساد والنكوص وبلادة الحس إزاء القضايا المصيرية، لأنه يُنهِك المحرك ويعطّل الطاقة الإيمانية القوية الدافعة الكامنة في الإسلام، ويصرف المسلمين عن خزانهم المعنوي القوي الجبار، ويحؤّلهم من التسلح بالعقيدة إلى الجدل في فرعياتها ومن الاستظلال بظلالها الوارفة إلى تسفيه بعضهم بعضا وتبديع بعضهم وتحويل النيران من العدو إلى الصديق ومن الأخ إلى أخيه، ويُضعف شبكة العلاقات الاجتماعية بينهم ويُحيي صراعات وحروبا قديمة خاطئة كان يُعتقد أنها ماتت مع أصحابها فإذا بها تنبعث من جديد في بعض أتباع التيار السلفي المعاصر[1]، وصاروا ينظرون إلى إخوانهم في المشروع الإسلامي أعداء ويعاملونهم معاملة الخصوم … وهي استنساخٌ غيرُ واع وغيرُ حصيف لتجارب تاريخية لم تكن هي التجربة الرشيدة من تاريخنا ولا النموذج المطلوب اتباعه، لأن معظم تلك القضايا الكلامية والخلافات العقائدية وما ترشَّح عنها من صراعات لم تنشأ في المرحلة التأسيسية لدولة الإسلام (خير القرون) وإنما نشأ معظمها بعد عصر الصحابة بخلاف المذاهب السياسية ومسائل الاختلاف في الحكم التي نشأت في عصر الصحابة.
وما إثارة الخلافات العقائدية التاريخية واستدعاؤها إلى أيامنا وتصنيف المسلمين على أساسها إلا ضربٌ من تقسيمِ المقسَّم وإضعافِ الضعيف (نحن) وزيادة في قوة القوي (الآخر)… ثم هو صورةٌ من الغفلة عن التحديات الراهنة وقلة الوعي بالتوازنات العالمية الكبرى وما ينتج عنها من صراعات وتكتلات واصطفافات للقوى العالمية، فلا نتبيّن من هو معنا ومع قضايانا ومن هو ضدنا وضد قضايانا.
ولنا في سلفنا القريب (كابن باديس وجمعية العلماء) والبعيد (ككبار الأئمة والعلماء مثل ابن تيمية والغزالي والسبكي وآخرين…) أُسوةٌ حسنة في الحرص الشديد على وحدة صف المسلمين حتى المختلفين معهم عقائديا ومواجهة التحديات صفا واحدا… وقد حفظ لنا التاريخ علاقة ابن تيمية (تـ 728 هـ) بالسلطة المملوكية وهي الدولة الأشعرية القريبة جدا من الصوفية، وهو الحنبلي السلفي الصريح؛ فهو مخالف لهم في المذهب الاعتقادي بلا شك، ولكن لم يمنعه ذلك من السعي بين مصر والشام لحث حكامها على مواجهة المغول، ودخوله على أمرائها للنصيحة، بل وضع لدولتهم دستورا هو كتاب “السياسة الشرعية” الذي بلغ مبلغا لا مزيد عليه في المرونة والواقعية، بل حفظ لنا تراثه نصا يبين فيه ابن تيمية أنهم هم دولة المسلمين الواجبة النصرة، وقادتها هم الطائفة المنصورة، وهذا نصه: “أَمَّا الطَّائِفَةُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَنَحْوِهِمَا فَهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُقَاتِلُونَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ دُخُولًا فِي الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ: { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَة }“] (مجموع الفتاوى، 28، 531) وقال عنهم: “ممَّا يُبيِّنُ أنَّ هذه العِصابةَ التي بالشـام ومِصْرَ في هذا الوقتِ هم كتيبةُ الإسلام، وعِزُّهم عِزُّ الإسلام، وذُلُّهم ذُلُّ الإسلام”) (نفس المرجع(28/ 532)، و”الطائفة في الشام ومصر” ليست سوى دولة المماليك الأشعرية الصوفية.
ومِثْلَ فعلِ ابنِ تيمية فَعلَ علماءٌ آخرون مع مجتمع عصرهم والحكومات القائمة آنذاك المخالفة لهم، منهم تاج الدين السبكي وابن خلدون وغيرهم، ومنهم ابن باديس في العصر الحديث فقد تعاون مع المخالفين في القناعات الفقهية والاعتقادية- بل المخالفين المجادلين في عدّ الإسلام مرجعيةَ المجتمع الجزائري- تحقيقا للمصلحة العليا للوطن… ومنهم علماء كثيرون جدا في شتى أقطار العالم الإسلامي، ولم يتسبب أيُّ أحدٍ من أولئك الراسخين في إنهاك المحرك أو تعطيله عن أداء دوره.
فأين أتباعُ ابن تيمية اليوم -في الجزائر مثلا- من واقعية ابن تيمية السياسية ومرونته المقاصدية؟ وأين نحن من واقعيةِ ابن باديس الواعية وفكره المقاصدي الجامع؟ وما لشبابنا ودعاتنا لا يدرسون سير هؤلاء الجهابذة بفقه الدارس الحصيف؟ ومتى يُعينُون محرك الإسلام ويساعدونه ليشتغل بطاقته العادية ويكفوا عن إنهاكه وتعطيله؟ ومتى تعود هذه الطاقة الجبارة إلى ساحة الوعي والتطبيق المقاصدي البصير، والوحدة، والمواجهة، والتنمية والبناء وصناعة المستقبل…
[1] – النسخة المدخلية القادمة من آل سعود في الآونة الأخيرة على الخصوص وقعت في هذا، وحتى بعض المحسوبين على الإخوان في الجزائر وقعوا في هذا، وكثيرا ما سمموا الأجواء في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي واتهموا إخوانهم بأنهم باديسية وإقليمية وهلم جرا… فأنهكوا المحرك جزئيا وحرموا المجتمع من بركة الصحوة وتعميم خيرها ورشدها.