تـهافت دعوى عداب في أن علماء العراق لا يحسنون علم الحديث. بلال فيصل البحر -العراق-
تـهافت دعوى عداب
في أن علماء العراق لا يحسنون علم الحديث
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:
فقد ادعى الدكتور عداب الحمش أنه لم يكن بالعراق من يحسن تخريج حديث قبل دخوله -على عادته في التشبع بما لم يعطه- ثم زعم أن من ليس بناقد حديثي فعلمه كله طائفي مذهبي مهزوز!
وهذا الكلام الذي تعودنا إطلاقه منه جزافا بلا عقل ولا ورع، لا يخرج إلا من جاهل أو حاقد، وله سبب نفسي، فالرجل لم يُلق له علماء العراق بالا، لأنـهم رأوه فارغا عن كل علم سوى الحديث، والحديث علم نضج واحترق عند كثير من العلماء.
وهم يرون -كغيرهم من علماء الدنيا- أن وجود من يشتغل به من الأفراد مع مَنْ تقدم مِنْ حفاظ الإسلام وما لهم من كلام فيه، يكفي ويغني، ولا حاجة بـهم للتصدي للنقد مع تيسر الوقوف على كلام النقاد، وأن اشتغالهم بالمهمات من النظر والتفسير والعربية والفتيا ورد التغريب والشبهاتعن الإسلام والسنة أولى، فضلا عن أن الاشتغال بنقد الحديث يستغرق العمر والوقت، كما قاله الذهبي وغيره.
وأهل العراق أهل نظر وتمرس بالعربية والمعقولات والرأي، وإنما قل اشتغالهم بالحديث لأنـهم يرونه علما يمكن تقليد الحفاظ الكبار فيه، وهذه عادة الفقهاء وأهل النظر، كما قال أبو حنيفة للأعمش: (نحن الأطباء وأنتم الصيادلة) وبه يدرك تـهافت دعوى عداب: أن من لم يكن ناقداً حديثيا فعلمه كله طائفي مذهبي مهزوز!
وهذه العبارة الركيكة الفارغة، دليل ظاهر على أن عداب ظاهري جامد لا يعرف الفقه والنظر والأصول، لأن مآخذ المجتهدين والفقهاء في انتزاع المعاني والأحكام من النصوص لا ترجع إلى مجرد نقد الحديث وتمييز صحيحه من سقيمه، بل لهم أصول متكاثرة لا يعرفها من لم يمارس النظر كعداب، ومنها العمل بالخبر الضعيف إذا وافق الأصول، وجرى عليه عمل السلف، أو وافق فتيا راويه، وغير ذلك من الضوابط.
وأيضا فما الوجه بين الطائفية ونقد الحديث؟ إن قصد التعصب للمذهب -وهو الظاهر- فهو ينادي على عداب بقصور المعرفة والاطلاع على طبقات العلماء، فكم من محدث نقاد بارع في النقد لكنه عصبي ضيق العطن، ودونك عداب نفسه فإنه يدعي الاجتهاد في نقد الحديث، واشتهاره بضيق العطن والعصبية لرأيه أشهر من يوم حليمة!
ولو قدر أن حديثا نقده الحافظ ابن حجر ونظراؤه من الحفاظ، ووجد لعداب ونحوه من الباحثين غير الحفاظ، نقد فيه، فليس ثمَّ عاقل يدع كلام الحافظ ونظرائه، لكلام عداب “المهزوز علميا” بل هذا نوع طيش!
وإنما أطلق عداب هذا الحكم الجزاف وادعى أن “علمه مهزوز” ليسوغ لنفسه الاجتهاد المطلق الذي يدعيه ويخلعه على نفسه، واجتهاده باطل لأنه قاصر عن تحصيل ملكته وآلته، فليس معه غير النظر في أسانيد الحديث، وهذا لا يسوغ له إلا الاجتهاد فيه -إن سلمناه- دون الاجتهاد المطلق الذي يهجم على ادعائه لنفسه، فكيف وهو قاصر عن معرفة أهم مبحثين من مباحث النقد، وهما نقد المتون وعلل الحديث!
ولهذا وجد منه الشذوذ والتقلب من مذهب لآخر، فتارة سلفيا وتارة صوفيا وأخرى شيعيا، ثم خلع الكل ومال إلى الطعن في السلف ومذاهب الأئمة ليزاحم الحداثيين، بعد أن أعياه مزاحمة علماء الشرع من المحدثين وغيرهم، من حيث لم يعبأ به أحد.
على أن في أهل العراق محدثين نقاداً يجهلهم عداب، وهم فيه قبل أن يقدم عليه، مثل المحدث النقاد بـهجت حمد أبو الطيب الألوسي الهيتي، وقد شهد له بالبراعة في الحديث الشيخ ابن باز الذي يدعي عداب أنه أعلم الناس بالحديث!
ومن نظر في تخريج الشيخ بهجت الهيتي ونقده على كتاب (السنن الصغير) للحافظ البيهقي، استيقن تـهافت كلام عداب الذي يظن أن النقد لا يكون إلا بتسويد الكتب وملء الحواشي بالطرق والتخريج، مع أن كبار الحفاظ النقاد لم يوجد منهم هذا.
ومثل أبي بكر رعد عبد العزيز العبيدي المعروف بأبي براء، وله تخريج موسع ونقد على كتاب (نيل الأوطار) أربى به على الأصل، يقع في نحو أربعة أجزاء بخطه، بحيث لو طبع لجاء في مجلدات حافلة، وله تواليف غيره تنبئ بذلك منها كتابه في اقتضاء النهي الفساد بين ابن تيمية والعلائي وغير ذلك.
ومثل شيخنا العلامة المحدث الحافظ النقاد الفقيه الأصولي هاشم جميل عبد الله، ومن تأمل كلامه على نقد أسانيد الحديث فضلا عن نقد متونه -وهو علم لا يعرفه عداب يوم دخل العراق ولهذا ازدراه علماؤه- أيقن أن كلام عداب في الحديث ونقده، ريح في قفص، إلى جنب كلام العلامة هاشم، ودونك كتابه (فقه ابن المسيب) في أربعة أسفار، وكتابه (المسائل) في مجلدتين، تأمله وتعجب من شقاشق عداب!
ونحن حضرنا مجالس عداب فلم نرَ فيها نقداً، ولم يكن عداب يعرف علل الحديث ولا نقد المتون، بل غاية ما عنده التخريج والاعتماد على نقل الكلام في الرواة ثم الحكم بموجبه، دون معرفة معاني العلل الحديثية، فكان عداب يتوسع في درسه في التخريج ويشغب بسوق الأسانيد عن شيوخه فيفرح بـها السلفيون لأنـهم لا عناية لهم بالإجازات والأثبات والأسانيد إذ ذاك.
وأما مجالس العلامة هاشم فكانت في النظر في علل الحديث والترجيح بين مذاهب الأئمة بحسب ذلك، فضلا عن النظر الأصولي والفقهي في المتن، ثم يطلع عداب قرنه ويزعم بكل صفاقة أنه علَّم أهلَ العراق الحديث!
وهذا الشيخ عبد الله الجديع كان قد صنف علل الحديث وله تخاريج وتعاليق حديثية قبل أن يجيء عداب للعراق ويطلع له قرن، كتعليقه على (مفاريد أبي يعلى) وغيره، وكانت دروسه في جمعية أهل الحديث تشهد له بالبراعة في علل الحديث ونقده كما بلغنا عن أصحابه، ومن العلماء بالعراق من انتدب لشرح بعض متون السنة، إملاء كالشيخ صبحي وغيره، أو تصنيفا كالعلامة ياسين الموصلي شارح (بلوغ المرام) في مجلدات.
وأما الحفاظ فكانوا موجودين، وكان صاحبنا الشيخ محمد عودة رحمه الله يحفظ (صحيح مسلم) ومن يحفظ البخاري و(بلوغ المرام) و(منتقى ابن تيمية الجد) التي لا يحفظ عداب باب الطهارة منها؛ كثير، ولا سيما من السلفيين، ولهذا لما سئل عداب عن سبب عدم اشتهاره بالعراق؟ أجاب بأن صناعته الحديث، ولا يشتغل به بالعراق غير السلفيين، وهو يعاديهم، هذا كلامه!
وكان بالعراق من نقاد الحديث مثل شيخنا الأستاذ عبد الله المفتي محقق (الفتاوى العراقية) لابن تيمية، ومن تأمل رده الحافل على (مراجعات) شرف الدين عبد الحسين الموسوي، علم ذلك وتحقق زيف دعوى عداب، واسمه (الحجج الدامغات في نقض المرجعات).
وبالأنبار مثل الشيخ ماهر الفحل وقد ظهرت تواليفه للناس فقضت بإكذاب مقالة عداب، لأنه إنما أخذه عن شيوخ العراق وليست له رحلة، وببغداد قبل عداب: الأستاذ إياد القيسي وله تعاليق حديثية وتخاريج مفيدة، تقطع بمجازفة عداب في مقالته المضَّة هذه.
وكان لنا صديق سلفي فاضل أطلعنا على مجلد استدرك فيه على الألباني ما فات تخريجه في (الإرواء) وكان يكون في الكرادة ببغداد، هذا عدا شيخنا السيد صبحي السامرائي لكن اشتغاله بإخراج المخطوطات وإملاء الحديث أكثر، إلا أن له تخاريج تشهد ببطلان دعوى عداب، مثل تعليقه على مسند ابن المبارك.
وأما الدكتور بشار عواد، فليس لعداب من خدمة الحديث وكتبه عُشر ما لهذا الرجل وإن لم يكن محدثا على رسم أهل الفن وقانونـهم وعامة معرفته بكتب الحديث تحقيقا وإخراجا، ثم يزعم عداب بكل طيش وتـهوك أن ليس في العراق من يحسن تخريج حديث!
لو كنتَ تعلم ما أقول عذرتني…أو كنتَ تجهل ما أقول عَذَلْتُكا
لكنْ جهلتَ مقالتي فعَذَلْتَني …. وعلمتُ أنك جاهلٌفعَذَرْتُكا
ومثل الشيخ فالح الشبلي صاحب المستخرجات في الفوائد والعلل والرجال، وله تصانيف سرقت من داره بعد اعتقال الأمريكان المحتلين له، مثل المستدرك على (تحفة الأشراف) للمزي، وآخر فيما فات الحافظ ابن حجر في (التهذيب) وغير ذلك.
وهذا الشيخ حَمْد السلفي محقق (الطبراني الكبير) الذي ليس لعداب عمل يضاهيه، نافع للحديث الذي يتبجح بكونه ناقداً فيه، مع أنا لا نعلمه نقد شيئا ذا بال، وعامة ما يوجد له تشكيك وطعون في أخبار الصحيحين وما جرى عليه العمل، بالاعتماد على مجرد النقل عن الحفاظ السابقين بلا تحقيق أو تمحيص، اللهم إلا بعض جياد مصنفاته القديمة قبل تغيره، مثل رسالته للماجستير وكتابه في ثعلبة بن حاطب وكتاب المهملون وغير ذلك، فمعرفة عداب بالرجال أقرب من معرفته بالأسانيد.
أقول: هذا السلفي غالب تعليقاته على (المعجم) نقول عن الألباني الذي يراه عداب رأس النقاد في الحديث، فإن كان لا يوثق به لزم سقوط كلامه في أعلمية الألباني، وإن كان يوثق به لزم بطلان كلامه في علماء العراق.
وإن قصد أنه لابد أن يكون ناقداً بنفسه، عاد النظر السابق، فيقال له: فهو أعلم بالنقد أم شيخه الألباني ومن تقدمه من نقاد الحديث الذين أجمع المحدثون على أنـهم الطبقة العليا في النقد؟
فإن قال: هم، سقط كلامه، وإن قال: هو، فهو خلاف الإجماع، وإن قال: أردت بكونه “مهزوز العلم” إذا لم يعرف النقد: أي ضعف فتياه وتعصبه لمذهبه، قيل له: هذا جهل، وخلاف ما جرى عليه العلماء كافة، من وصف الرجل بالفقه والعلم بالفتيا والنظر والتحقيق والتسديد، وهو ليس بناقد للحديث، وإلا لما وجدت طبقات الفقهاء مستقلة عن طبقات المحدثين.
وأيضا فهو مهدر، لأنه إذا اعتمد على ناقد متقن، يكفيه مؤنة النقد، وهو يرى أنه مهما أمعن في دراية علم الحديث فلن يبلغ رتبة هذا الناقد الذي يقلده، فأي ضير في هذا، بل اشتراط النقد للتحقيق في الفتيا من تحصيل الحاصل مع وجود النقاد الكبار.
وبه تدرك النكتة في انصراف كثير من العلماء عن النقد الحديثي، وهي كنكتة انصراف كثير من الأئمة ممن بلغ رتبة الاجتهاد، عن الاجتهاد في غير النوازل، لأنه يرى أن الأئمة المجتهدين من أهل المذاهب قد كفوه مؤنة ذلك، من وجه، ومن وجه آخر: يتأدب معهم الأدب الذي -مع الأسف- لم يلتزمه عداب مع العلماء.
ويقال لعداب: لك الحق في الاجتهاد في الحديث، لكن هذا الاجتهاد منك: هل أربى على اجتهاد البخاري وأحمد والدارقطني وابن حجر وأمثالهم؟ فإن قال: لا، لزمه ترك اجتهاده الحديثي واتباع نقدهم، وبه يكون -على أصله الفاسد- “مهزوز العلم”!
وإن قال: نعم، فلا غرابة، ولا كلام معه فإنه من جنس لعب الصبيان، وإن قال: أردت أنه اجتهاد خاص لي ولاختياري، قيل له: على القول إن نقدهم أجود من نقدك، فلا فرار لك -على أصلك الفاسد- من أن تكون “مهزوز العلم”!
وعلى التنزل باختصاص نقدك بك في الاختيار، لا يلزم مَنْ لم يتصد للنقد وقلد النقاد، أن يكون “مهزوز العلم” كما زعمت، ضرورة أن نقد الحفاظ المتقدمين أعلى وأجود من نقدك ونقده، بل لا وجه للمقارنة أصلا، وبه يسقط كلام عداب، ويتضح أنه لو كان عاقلا لترك نقده وقلد الحفاظ، أو على الأقل احتفظ بنقده لنفسه، وترك التشغيب والتبجح به على العلماء ممن لم يتصد للنقد، وبالله التوفيق.
كتبه
بلال فيصل البحر
إسطنبول/1443 هــ