تصوّر الله تعالى عند كثير من الحداثيين -أ.جواد بحر النتشة- فلسطين –
تصوّر الله تعالى عند كثير من الحداثيين
لو لم يكن الله تعالى الحقَّ الأكبرَ الذي بإرادته وقدرته انبثق العالَم كلُّه، لكنا تركنا الناس يصنعون لأنفسهم الصورة التي يريدونها لربهم، ولقلنا لهم: لا شأن لنا بما تُنبئ عنه رؤاكم، وما تسرح في تشكيله خيالاتُكم وأهواؤكم وأوهامكم، وسنترككم وما تختارون منها؛ لكننا ها هنا نتحدث عن خالق الوجود سبحانه وتعالى، وهو الذي أسبغ نعمة الوجود على كل موجود، ومن نِعَمه أنه سبحانه لم يترك الخلق دون إخبارهم عن نفسه، إذ هو صاحب الحق في الإنباء عن نفسه والتعريف بها للخلق أجمعين، ولذلك أرسل رسله وأنبياءه، وأوحى إليهم معرِّفا بذاته وبحقّه وحقوق العباد وواجباتهم، حتى ينعموا في الدنيا بالأمن والسلام، وفي الآخرة بالنعيم المقيم.
لكنّ كثيرا من الحداثيين يأبَون مرجعية الوحي أصلا، وأكثرُهم لا يؤمن به، لأنه غير حسّيّ وغير تاريخي، أي غير منبثق من حركة التاريخ؛ ولكنّ الحقيقة تقرّر أنه إذا كان الله هو الخالق، وهو كذلك، وهو الذي أعطى الوجود نعمتي الإيجاد والإمداد، فهو صاحب الحق في التعريف بذاته وبحقوقه وحقوق خلقه، وما التاريخية هنا إلا شبهة الهوى لصدّ الهدى، أو وسيلة الشيطان لإضلال الإنسان.
1- وجود الله تعالى فرضية بلا جدوى عند أركون والعقل الحديث:
سياقات كلام كثير من الحداثيين، كمحمد أركون، تدلّ على اتخاذهم مواقف موافِقَةٍ للعقل الحديث بدعواهم فيما يتعلق بما وراء المادّة، خاصّة قضيةَ وجود الله تعالى؛ فهذا أركون يقول: ((من الواضح أن عقلية الناس في العصور الوسطى ليست هي عقلية الناس في العصور الحديثة؛ الخيالات والمعجزات كانت بالنسبة إلى أذهانهم حقيقة واقعة لا تقبل النقاش، ولكن العقل الحديث ما عاد قادرا على الإيمان بها، أو التصديق الساذج كما كان يفعل أناس العصور الوسطى، ولذلك يرى فيها نوعا من الرَّمز إلى أشياء أخرى من قِيَم مثالية ودروس نموذجية وعظات أخلاقية؛ هذا هو تفسير العقل الحديث للمعجزات))([1])؛ وليس في كلامه ذرة تدل على رفضه لمقررات هذا العقل الحديث.
وبعد هذا، فما هو محلّ الاعتقاد بوجود الله بحسب هذا العقل الحديث الذي يؤمن به محمد أركون؟ يقول أركون إن وجود الله تعالى صار بالنسبة للعقل الحديث ((فرضية لا جدوى منها أو لا داعي لها))([2])؛ كل ذلك لأن وجود الله تعالى بالنسبة للعقل الحديث يقع فيما وراء المادّة؛ إن أركون بإيمانه بهذا العقل، وتعظيمه له، يجعلنا في حيرة فِعلية من شأنه العقدي! ولا بدّ أن أؤكد أن العقل الحديث عقل مادّي حسِّي تجريبي بحت لا يؤمن بغير ما ينتجه البحث المادّيّ الحسيّ، وليس هكذا العقل الإسلامي الذي يؤمن بالحس والتجربة، ويؤمن فوق ذلك بما وراءهما عند وجود ما يدلّ عليه.
2- أركون يرسم صورة الإله كما يحبّ أن يكون ليقرر الإيمان به!
يذكر محمد أركون أن الله تعالى لا يمكن أن يصل إليه البشر بشكل مباشر؛ قال مضيفا: ((وإنما يقدّمون عنه تصورات مختلفة بحسَب المجتمعات والعصور، ثم يتخيلون أن هذه الصورة هي الله ذاته! بمعنى آخر: لا يمكن للبشر أن يتوصلوا إلى الله إلا عن طريق وساطة بشرية))([3])؛ مما يتضمنه هذا الكلام: أن التصور عن الله تعالى مختلف بين أمة وأخرى، وهذا صحيح؛ والوساطة البشرية تعني وفق هذا السياق، أن يكون البشر في مرحلة ما من تاريخهم قد أوجدوا للإله صورة ما، فيكون هؤلاء مصدرا لمن بعدهم في تحديد صورة الإله؛ ولو قال إن الوحي ينْزل على البشر، ليعرِفَ الناسُ ربهم عبره، لَما قلنا حرفا واحدا؛ لكنه ذكر اختلاف التصورات حول الإله، ثم مصدرية البشر لهذا الاختلاف؛ كل هذا لأن الوحي لو كان مصدرَ التعريف بالإله عند أركون لَما اختلف البشر فيه؛ والسؤال: أين القرآن الكريم من هذا الكلام؟ أعني: ألا يعرّفنا القرآن بالله تعالى فنكون قد عرفناه سبحانه وتعالى بطريق غير بشري، لأن القرآن إلهي وليس بشريا([4])؟ إن كلام أركون يدل على أنه لا يؤمن بأن القرآن من عند الله؛ ولو آمن بأنه من عنده تعالى لعلم أن التصوّر الذي يقدّمه عنه سبحانه غير خاضع لتغيرات العصور واختلاف رؤاها.
إن كلام أركون منبثق من عقلٍ يفقد المصدر المعرفي الصحيح، ليتحيّر في الصورة التي يتعرف بها على الله تعالى، وليقرّر في حيرته هذه عدم إمكان التعرف عليه، وأن الذي عند الأمم هو صوَر مختلفة عنه بحسَب مجتمعاتها وعصورها؛ ولا شك أن قوله هذا يشمل المجتمعات الإسلامية ذات المرجعية القرآنية، وهذا يعني أنه لا يعتدّ أصلا بهذه المرجعية.
ولأن أركون لا يملك مرجعية يثق بها توصله إلى الله، ولا حتى المرجعية القرآنية، فإنه ذهب بعيدا ليطرح رؤية لمن يحب أن يكون إلها، وجاءت رؤيته في السياق التالي:
3- أركون ونيتشه وتصوّر الإله.. أيّ جنون هذا؟
كان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche قد أعلن إعلانا مجافيا للحقيقة والأدب معاً، ومحطّما لضرورات العقل، وهو أن الإله قد مات، تعالى الله عن إفك الأفاكين علوّا كبيرا؛ ومهما حاولنا أن نفهم هذا الإفك، فليس من شأننا أن نبحث عن عذر له، وإن كنا لا نرى أنه يقصد موت ذات الله تعالى، فلا شكّ في تقديري أن مرادَه في إفكه بموت الإله معنى مجازي لا حقيقي؛ وها هنا يتدخّل محمد أركون ليوضح معنى إعلان نيتشه، وليستثمر هذا الإعلان في رسم الصورة التي يحبها لمن يكون إلها..
ففي سياق شرحه لمقولة نيتشه المشؤومة تلك يقول أركون: ((..فالله حي لا يموت، ما يموت ما هو تاريخي حقاً، هو تلك التصورات التي يشكّلها البشر عبر مراحل تاريخية عن الله؛…؛ إن التصور القروسطي المظلم والقمعي عن الله والتأله قد مات، أو ينبغي أن يموت، لماذا؟ لكي يُفسح المجال أمام تصور آخر أكثر رحابة ومحبة وغفرانا، وهكذا محلَّ التصور الذي يقمعنا ويَسحقنا يَحِلُّ التصور الآخر الذي يسامحنا ويحرّرنا؛ ويمكن القول بأن التصور الحديث لله يتجلى في الأمل، في الانفتاح على أفق الأمل: الأمل بالخلود، الأمل بالحرية، الأمل بالعدالة، الأمل بتصالح الإنسان مع ذاته؛ هذا هو الله بالنسبة للعالم الحديث والتصور الحديث، وهذه هي صورته السائدة في مجتمع أوروبي متقدم، مجتمع متجاوزٌ –بعد معارك طاحنة- الصورةَ القروسطية المتجهّمة والمكشِّرة لله والتألّه؛ هكذا تجد أن تصورنا لله يختلف باختلاف المجتمعات والعصور، فإذا كان المجتمع منفتحا متقدما مزدهرا، كان تصوره لله هادئا سمحا وديعا؛ وإذا كان المجتمع يعاني من الفقر والجهل وهيمنة الأب القاسي أو الحاكم الجائر المستبد، فإن تصوره لله سوف يكون بالضرورة ضيقا عنيفا قمعيا))([5])؛ كذا قال أركون، ومثل هذا يدلّ أن صاحبه لا يؤمن بإله القرآن، لأنه يأمر بالعدالة التي قد تَقتُل لتتحقّق.
وإذا حدثنا أركون عن إله المجتمعات المتقدمة، وهي التي ثبت تاريخيا أنها أكلت حقوق غيرها بالاستعمار، فصارت وادعة بسبب رفاهها وعدم غياب الحاجيات والضروريات عنها، فليته حدّثنا عن المجتمع الذي يعاني من استعمار تلك الدول العتيّة لبلاده، ومن سرقتها لخيرات بلاده، ومن قتلها لأطفالها ونسائها ورجالها، فكيف يكون الله تعالى عند هذا المجتمع؟ أتراه ربّا متسامحا أم آمرا للشعوب بالنضال لأجل حقوقها؟ هذا الربّ بهذه الصورة عند الشعوب المقهورة غير مرغوب به عند أركون؛ إن مشكلة أركون أنه يعيش حالة أوروبا والمجتمعات المتقدّمة، التي انفلتت عن الحق المبين، فاستعمرت الأمم، وسرَقت خيراتها، ولا تزال تلوك هذه الخيرات، وكأن العالم ليس إلا أوروبا وأمريكا! فهو يفضّل النعومة التي تشيع بين أثريائهم حينما تخلو تعاملاتهم من مخاسر مادية؛ إذن فالسؤال: أين المجتمعات المكلومة المحزونة المسروقة المقهورة؟ هلا حدّثنا أركون عن الله تعالى عندها كيف يجب أن يكون؟ أم يريد أركون أن يحافظ على رُقيّه المدّعى ليأخذ بصورة الربّ الأوروبي المتسامح مع القتلة؟!
وهكذا، فأركون يتحدث عن الله الذي يرغب به، إنه إله ينفذ له أمانيه كما تحدث قريبا، إنها صورة خاصة لله الذي يريده؛ ثم هو ينسبه بزعمه أيضا إلى التصور الحديث والعالم الحديث؛ ما أشبه طفولة أركون العقلية وهو يصوغ صورة الله التي يريدها بالطفولة العقلية لمشركي مكة حينما كانوا يصنعون لهم آلهة من تمر ثم يأكلونها؛ الإله المصنوع وفق الوهم والهوى إله مأكول! إنه إله تَحْتِيّ مصنوع مُدَبَّرٌ أمرُه من قِبَل غيره؛ إنه يقال له اسمع فيسمع وأطعْ فيطيع، وليس إلها عليّاً صانعا يدبّر الأمر؛ أما الله المدبّر الذي تحكم إرادتُه مسيرةَ الكون بما فيه، وفي الوقت ذاته أعطى الإنسان حرّيته في اختيار ما يشاء لحياته، وجعله مسؤولا عما يختار ويسلك من مسالك؛ أما الله الجبار الذي يعاقب القتلة والمجرمين من القادة والمستبدّين؛ أما الله الذي أنزل على البشر تشريعا يضمن لهم العدالة والسلامة والطمأنية إذا ما آمنوا به وطبّقوه؛ أما الله الذي يَعرفه القرآن الكريم ويعرّف به؛ هذا الله العظيم الودود الحليم الجبار لا يريده أركون، ولا يرغب به! لأنه يجافي مقاس أوهامه!
وهذا شبيه بما عقب به أركون ذاته وهو يشرح كلام صفيِّه من الباطنية وهو أبو حيان التوحيدي، فقد ذكر أن التوحيدي يشبه الفيلسوف المسيحي باسكال، ثم ذكر أنهما ((يعتنقان نزعة إنسانية مشابهة في ظل العلاقة مع الله؛ فالله بحسب تصورهما ليس ذلك الذي (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون)، كما ورد في سورة الأنبياء من القرآن؛ إنه ليس العاهل المطلق الذي يقدم الشرع للإنسان مقابل تقديم هذا الأخير الطاعة الكاملة له، لا؛ إن الله الذي يتحدث عنه التوحيدي وباسكال هو ذلك المُحاور الأساسي الحر الضروري المولِّد للدلالات والإشارات التي لا غنى عنها للعقل الباحث عن المعنى باستمرار، وبنوع من التوتر القلق والخلاّق))([6])؛ كذا قال أركون، ويقال لصاحب هذا الإفك: اذهب إلى محل صناعة اللُّعَب ليصنع لك لعبة بالمواصفات التي يلوكها قلمك ولسانك!
وأخيرا: فأركون يدافع عن مقولة نيتشه بأنها لم تحظ بالمراجعات الفكرية التي تستحقها؛ قال: ((أقصد بأنهم فهموها بشكل حرفي ولم يستنتجوا كل مضامينها))([7])؛ وأركون يرصد نفسه لشرح مقولات مجانين أوروبا([8])، حتى لا يلحق فهْم غيرُ سَوِيّ بأقوالهم الطائشة؛ ومع ذلك، فأنا لا أقدر على التفكير بوجود إنسان يقول إن الله مات إلا على معنى مجازي يقصده هو، رغم رفضي المطلق للتعبير بهذه الكلمة المجافية الطائشة المجنونة؛ غير أني لست معنيا بالبحث عن المعاني المجازية لهذا الطيش والسفه، ولتلك التفاهة المقيتة، فليبحث أولاد فريدريك نيتشه عن كلام كبيرهم الذي علمهم السحر.
4- ولِحَسَن حنفي وعبد الجبار الرفاعي ونصر حامد صور أخرى لله!
ذِكْر هذا الثلاثي مهم في سياقنا هذا، وهو يمثل استمرارا مني في موضوع تصوّر الإله سبحانه عند الحداثيين؛ وها أنا أذكر عن هؤلاء الثلاثة ما يثير الاستغراب حول تصورهم هذا!
حسن حنفي: صفات الله هي صفات الإنسان الكامل، والله هو التحرّر والخبز:
الحداثي المصري الكبير حسن حنفي أكثر جرأة وصراحة من جميع من قرأت لهم من الحداثيين، ولم أقرأ له إلا لماما، وله كلام في سياقنا لا يمكن أن يصدر عن عارف بالله عز وجل، أو مؤمن به..
إن الله عند حسن حنفي في النهاية هو تلك الحاجة التي تُلبَّى لأصحاب الحاجات؛ يقول في هذا: ((فالله لفظ نعبّر به عن صرخات الألم وصيحات الفرح، أي أنه تعبير أدبي أكثر منه وصفا لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفا خبريا؛ وما زالت الإنسانية كلها تحاول البحث عن معنى للفظ “الله”، وكلما أمعنَتْ في البحث ازدادت الآراء تشعّبا واضطرابا؛ فكل عصر يضع من روحه في اللفظ، ويُعطي من بنائه للمعنى، وتتغير المعاني والأبنية بتغير العصور والمجتمعات؛ فالله عند الجائع هو الرغيف، وعند المستعبَد هو الحريّة، وعند المظلوم هو العدل، وعند المحروم عاطفيا هو الحبّ، وعند المكبوت هو الإشباع، أي أنه في معظم الحالات صرخة المضطهدين؛ والله في مجتمع يخرج من الخرافة هو العلم، وفي مجتمع آخر يخرج من التخلف هو التقدّم؛ فإذا كان الله هو أعزَّ ما لدينا وأغلى ما لدينا، فهو الأرض والتحرر والتنمية والعدل؛ وإذا كان الله هو ما يقيم أوَدَنا وأساس وجودنا ويحفظنا فهو الخبز والرزق والقوت والإرادة والحرية؛ وإذا كان الله هو ما نلجأ إليه حين الضرر، وما نستعيذ به من الشرّ، فهو القوة والعتاد والاستعداد؛ كل إنسان وكل جماعة تُسقط من احتياجاتها عليه، ويمكن التعرف على تاريخ احتياجات البشر بتتبّع معاني لفظ “الله” على مختلف العصور))([9])؛ ويعلق الدكتور إلياس قويسم على بعض ما في هذا النص بأنه ((مفهوم ثقافي يتبدل ويتغير بحسَب الزمن الثقافي السائد؛ فلا وجود لثابت، بل الكل في حركة مستمرة))([10]).
وحول ما ذكره حنفي من أصناف الناس وما ادّعاه لهم من آلهة فإنني أسأل: ألا يمكن أن يكون كل الذين ذكرهم: الجوعى والمستعبَدون والمحرومون عاطفيا والمكبوتون والمضطهدون والذين يعيشون في مجتمعات الخرافة والتخلف؛ ألا يمكن أن يكون هؤلاء كلهم مؤمنين بالله تعالى على الصورة التي يقرّرها القرآن الكريم؟ فيكون الباحث عن الخبز مؤمنا به سبحانه ويبحث بوحي إيمانه عن حاجاته من خبز وغيره، فيأخذ بالأسباب، ويعمل بجدّ واجتهاد؛ وهكذا؛ أم أن حسن حنفي يريد أن يدعو إلى إله آخر، وبمواصفات أخرى تناسب فكره أكثر مما تناسب حاجات الناس؟!
ويقول حسن حنفي أيضا: ((ولكن الانتقال من الله إلى الإنسان الكامل، يعبّر عن كل مضمون الله؛ فكل صفات الله: العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، كلُّها هي صفات الإنسان الكامل؛ وكل أسماء الله الحسنى تعني آمال الإنسان وغاياته التي يصبو إليها؛ فالإنسان الكامل أكثر تعبيرا عن المضمون من لفظ: الله))([11])؛ ونكرّر كلام الدكتور قويسم الذي تقدّم؛ إن الله في النهاية، وهو ثابت الثوابت عند الإنسان المسلم، متغير عند حسن حنفي، ويتْبَع في تغيره حاجة الإنسان وثقافته التي ينالها التغيّر أيضا؛ وفي تقديري أن هذا الفهم يساوي قول القائل: لا يوجد إله، بل الموجود حاجات الإنسان ورغائبه، وهي الإله عند حسن حنفي!
يجب تغيير صورة الله النمطية عند عبد الجبار الرفاعي:
وربما يأتي تشكيل صورة الإله عند البعض من خلال انتقائه ما يراه مناسبا من القرآن الكريم، وهو ما فهمته من توجه الدكتور عبد الجبار الرفاعي القائل إن ((مكوّنات الإلهيات الموروثة لا تسمح بانبعاث النّزعة الإنسانية في الدين))؛ وتحدث عن بناء إلهيات عقلانية مستنيرة ((تنفتح على الميراث المعنوي العميق للعرفاء، والتجارب الروحية المضيئة للمتصوّفة، لو أردنا أن نجني ثمرات النّزعة الإنسانية في الدين..))؛ وذكر في الأثناء أن تحديث الإلهيات يتطلب تساؤلات جديدة ((تفضي إلى التحرّر من الصورة النمطية للإله، التي تشكلت في سياق الصراعات الدامية، والفتن والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب، والسعي لترسيخ صورة للإله تستلهم ما يتحلى به من صفاته الجمالية وأسمائه الحسنى))([12])؛ هل غاب عن الرفاعي أن الصورة النمطية الأكثر انتشارا عن الله تعالى، هي تلك المأخوذة من القرآن والسنة، وهي التي أخذ بها المسلمون، وهي التي تنَزلت من عند الله تعالى من دون ما صراع وقع، أو قتال اندلع؛ وأن هذه الصورة هي التي عبرت عنها الآيات القطعية في القرآن الكريم؟ أم أن صورة الإله هذه يجب أن تخضع لتحديث الإلهيات الذي يدعو إليه؟ إن الخلاف في الإلهيات لم يطرق باب تلك الصورة التي يؤمن بها كل المؤمنين.
إن فكرة تحديث صورة الإله قد يصحّ أن تُطرح في مجتمعات اليهود والنصارى الذين شوّهوا صورته؛ فمرة هو إله بني إسرائيل دون غيرهم، ذلك الذي يأمر بقتل الأمم وأطفالها كما قد رواه سفر يوشع من إزهاق كل أصناف الحياة في أريحا وغيرها بفلسطين([13])؛ ومرة هو إله مقتول مصلوب، ومع ذلك، فبيده تخليص البشر مما لحق بهم من ظلم كما هو الشأن عند النصارى؛ أليست صورة الإله عند هؤلاء هي التي تحتاج إلى تحديث، ليُنفى منها كل ما لا يليق بجلال الله تعالى؟ أم أن رسالة عبد الجبار الرفاعي ذات وجهة واحدة: هي التحرر من الصورة النمطية للإله في اعتقاد المسلمين؟!
نصر حامد أبو زيد يجعل الاعتقاد متغيرا، حتى لو تعلق بالله تعالى:
كنا قبل قليل نتحدث عن رؤية فاحشة الانحراف لحسن حنفي أستاذ نصر حامد أبو زيد، ومنها تصوّره المنحرف للإله تعالى؛ ومثل ذلك التصور المخلول وقع فيه التلميذ نصر حامد أبو زيد، الذي يقول في كتابه فلسفة التأويل عن اللغة: ((وحين تعبّر هذه اللغة عن المطلق أو المتعالي، فهي إنما تعبر عنه بمفاهيم المحدود والمتعيّن والمحسوس؛ إن الله بعبارة أخرى ليس إلا بشرا نُفِيَتْ عنه كل صفات النقص والتحدّد، وأُكّدت فيه صفات الكمال والإطلاق؛ والنفيُ والإثباتُ ليسا سوى أدواتٍ لغوية لها طابعها البشري))([14])؛ وهكذا يبلغ الإسفاف بالرجل ليقول هذا الكلام في حق الله عزّ وجلّ؛ ولكن، ربما قاله اتباعا لأستاذه حسن حنفي الذي نقلت كلامه قبل فقرات!! فما هو مستوى مسؤوليته عنه؟ الجواب: ما دام نقله دون تعليف منه بالفرض وما شابه، فهو مسؤول عن نفسه!
إن نصر حامد يعلم أو لا يعلم، أن اللغة العربية في التنْزيل الحكيم لغة ربانية، وربّانيتها تكمن في صياغتها المعجزة لا في مفرداتها؛ وهي في هذه الصياغة قادرة على التعبير عن المتعالي المطلق، لأن الله تعالى هو صاحب صياغتها؛ وحينما يتنافر معنى لغوي من مفردات القرآن مع ما وقَر في عقل المسلم من الاعتقاد به تعالى، فإنه يتجه فورا إلى تفسير تلك المفردة على نحو يتلاقى وعظمةَ الله وجلاله، دون الوقوع في إخلالات نصر حامد وغيره؛ فاللغة القرآنية قادرة، والإنسان لم يبلغ مبلغها، فاقتضاه هذا إلى إرجاع المفردات إلى ما تقرّر لديه من تعظيم للمولى تعالى؛ إن عدم قدرته على اكتناه حقيقة بعض مفرداتها قصور منه، يقتضيه أن يحفظ مكانة الرحمن في نفسه واعتقاده.
هذا، ويذكر نصر حامد أبو زيد أن الاعتقاد في العصر الأول حوْل ما في القرآن من ذكر العرش والكرسي واللوح المحفوظ ناشئ عن طبيعة الثقافة في ذلك الجيل من الصحابة والتابعين، وأنه كان طبيعيا أن عقائد هؤلاء كانت على تلك الشاكلة التي صبغت حياتهم الفكرية كلها؛ لكن، غير الطبيعي عند نصر حامد هو أن يبقى ذلك التصور مستمرا في عصرنا بعد التغيرات الثقافية الهائلة؛ يقول نصر حامد: ((ولعل الصور التي تطرحها النصوص كانت تنطلق من التصورات الثقافية للجماعة في تلك المرحلة؛ ومن الطبيعي أن يكون الأمر كذلك، لكن، من غير الطبيعي أن يُصرّ الخطاب الديني في بعض اتجاهاته على تثبيت المعنى الديني عند العصر الأول، رغم تجاوز الواقع والثقافة في/ حركتها لتلك التصورات ذات الطابع الأسطوري))([15])؛ إن المطلوب بحسَب نصر حامد هو التوافق مع تغيرات يفترضها هو، لتغيير الصورة القرآنية انطلاقا من المجاز، مع أن للمجاز شروطا تَحول دون أن يُذهَب إليه إلا حين تحققها؛ إن بنية الاعتقاد عند نصر حامد مرتبطة بحسَب الدكتور إلياس قويسم بسيرورة الواقع والثقافة؛ وعليه، فلا وجود لمنظومة خالدة أو مخترِقة للزمن، فالزمن الحديث هو زمن العقل والتجريب، ولا يتعايش معه نهج بنتمي للزمن الماضي الذي هو زمن الأسطورة([16]).
هكذا صار رب العزة سبحانه وتعالى محلّ عبث العابثين، وكأنه تحت هيمنة ما يطلبه أولئك العابثون، فهُم يشكّلونه بما يشاؤون، كما كان العربي الوثني يشكّل صورة ربه على هيئة وثن يعبده كما يشاء، مستعملا التمر ليأكله حين يجوع، ليصير إلهُه التمرُ عبدا له حينما يأكله؛ وإلا، فهل تؤكل الآلهة؟
ألا يعلمنا حال هؤلاء في كل ما تقدم من كلامهم وجوبَ الارتكان إلى مصدر معرفي عارف فعلا بالله تعالى، وهو كتابه سبحانه، وسنة نبيه r؟ وذلك لتنجو عقائدنا من إسفاف المُسِفّين؟!
([1]) قراءات في القرآن، لمحمد أركون، (553).
([2]) قراءات في القرآن، لمحمد أركون، (630).
([3]) قضايا في نقد العقل الديني، لمحمد أركون، (277).
([4]) لا يعارض ما ذكرناه أعلاه ما هنالك من اختلافات تتعلق بصفات الله عند المسلمين الذين يملكون الوحي الصحيح، فهذه الاختلافات لم تبلغ إلى إنكار ما في القرآن حوله تعالى، وما وقع من خلاف انحصر في كيفية تفسير بعض ما في القرآن عن الله؛ أما جنوح بعض الفرق كالإسماعيلة مثلا بتجسيدهم الإله في شخص الحاكم بأمر الله الفاطمي المقتول سنة 411هـ، فهو لا يعارض ما قلنا، لأن هؤلاء ليسوا مسلمين؛ أما أشهر الفرق الإسلامية من غير أهل السنة، فهم متفقون على أن الله واحد، وأنه الخالق الرازق العليم المدبّر القدير المُريد ..إلخ، وهذا محور الإيمان الذي أباه الحداثيون.
([5]) قضايا في نقد العقل الديني، لمحمد أركون، (282)؛ ويُنظَر: إنقاذ النّزعة الإنسانية في الدين، لعبد الجبار الرفاعي، (275)، ففيه مثل ما ذهب إليه أركون في تفسير كلام نيتشه؛ بل لعله أخذه منه.
([6]) نزعة الأنسنة في الفكر الإسلامي، لمحمد أركون، (19).
([7]) نزعة الأنسنة في الفكر الإسلامي، لمحمد أركون، (25).
([8]) عُرف عن الفيلسوف نيتشه أنه كان مجنونا، وشهدت زوجه بهذا.
([9]) التراث والتجديد، لحسن حنفي، (113).
([10]) إشكالية قراءة النص القرآني في الفكر العربي المعاصر، لإلياس قويسم، (77).
([11]) التراث والتجديد، لحسن حنفي، (124).
([12]) إنقاذ النّزعة الإنسانية في الدين، لعبد الجبار الرفاعي، (284).
([13]) ورد في سفر يوشع، وهو من أسفار العهد القديم، أن الله تعالى أباح ليوشع بن نون عليه السلام قتل الأطفال والحيوانات وجميع الأحياء في أريحا يوم غزاها سنة 1200ق.م، بحسب أكثر كلام المؤرخين، وأنه دمّر وأحرق إحدى وثلاثين مملكة ومدينة آنذاك، ولم ينج منه إلا راحاب الزانية، وأنه هدم سور أريحا؛ مع أن البحث الأثري يقول: إن سور أريحا مهدوم قبل ذلك بأكثر من ثلاثمائة عام؛ ولقد بحثت نسبة هذا السفر ليوشع عليه السلام في كتابي انتماء فلسطين بين دعاوى التوراتيين وحقائق الماضي والحاضر.
([14]) فلسفة التأويل، لنصر حامد أبو زيد، (363).
([15]) نقد الخطاب الديني، لنصر حامد أبو زيد، (210-211).
([16]) إشكالية قراءة النص القرآني في الفكر العربي المعاصر؛ نصر حامد أبو زيد نموذجا؛ لإلياس قويسم، (74).