الوضع اللغوي للمعجم العربي
الوضع اللغوي للمعجم العربي
الأستاذ المتمرّس الدكتور محمد كاظم البكّاء
mkalbakka@yahoo.com
إنّ المعجم اللغوي يضمّ نوعين من الجذور للألفاظ ، وهما :
الأوّل- الجذر الصرفي:
ويراد به جذر الأوزان التي ترد لمادة اللفظ عليها هيئات متنوعة ، مثل كتب وكتابة وكاتب وغيره، ومنه ما تعدد معناه بسبب (النقل أو العدول) كالمصطلحات الشرعية كالحج من القصد ، ومنه ( المشترك ) كلفظ العين للباصرة وينبوع الماء ، ومنها ما كان مشتركا في جذره الصرفي ولكنّه متعدد في معناه بسبب (التعبير بالصور البيانية) كالأسد للحيوان وللإنسان الشجاع ، وسنعالج هذه الأنواع الثلاثة على الوجه الآتي :
1- العدول : وهو أن يكون اللفظ في معنى فتعدل به إلى معنى آخر يشترك معه في معناه الذي وضع له بمزيد من التفصيل مع بقائه على هيئة تشترك مع اللفظ الذي عدل منه في جذره الصوتي ، من ذلك (ساف ) من ساف الشيء يسوفه :أي اشتمه ؛عدل به إلى المسافة ، أي : البعد ، فقد كانت العرب تستاف التراب وتشمّه لمعرفة البعد أو المسافة ، ومنه المستاف الذي يقطع المسافات ، ويقولون : كم مَسَاف هذه الأرض ومسافتها وسيفتها ، أي : بعدها ، وبينهم مساوف ومراحل .
2- المشترك اللفظي :وهو كون اللفظ مشتركا في معناه بين اثنين أو أكثر ،وعرف عند القدماء بــ(علم الوجوه والنظائر) وأفردوا له مؤلفات مستقلّة ، ومنه في القرآن الكريم ما وجدته عند الباحثة نادية ثابت :”من المشترك اللفظي في القرآن الكريم إفادة الكشف “وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ” [الشمس: 3]، والمراد كشف الظلمة وإن لم يجر ذكرها، أو إفادة الظهور، ” فلمّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا “[الأعـراف:143] ومعنى الخروج والمفارقة ” وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ” [الحشر : 3] والجلاء مفارقة الوطن، جلا عن وطنه يجلو جلاءً: فارقه وأجلاه غيره .
3-الصور البيانية : وهو عدول اللفظ من معناه الذي وضع له إلى معنى آخر مع الاشتراك بالجذر الصوتي للأصل لغرض التعبير بإحدى الصور البيانية ، ومنه (التعبير بالكناية ) وهو اللفظ الذي أريد به غير معناه الذي وضع له مع جواز إرادة المعنى الأصلي ، نحو قولك من (ملأ) رجل مالئ بمعنى يملأ العين بطلعته ، وشاب مالئ العين إذا كان فخما حسنا ، وينام ملء جفنيه ، أي : خاليا من الغم ؛ومنه (التعبير بالمجاز) وهو اللفظ الذي أريد به غير معناه الذي وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي نحو قولك (ثاقب) وهو في الأصل ثقب الشيء مثل اللؤلؤ والدرّ ، ثم عدل به للدلالة على شدّة الضياء ومنه قوله تعالى : “النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطارق : 3]” ، أي: الثريا أو كلّ نجم ثاقب مضئ لثقبه الظلام بضوئه .
ومن المعلوم أنّ ثمة زيادات تلحق الجذر الصوتي فتمنحه بعدا معنويا يلابس معنى الجذر نفسه ، ومن الألفاظ التي تصير بالزيادة عليها إلى معنى آخر يلتبس بمعنى اللفظ نفسه ما وجدته في أمثلة الأفعال المثال الواوي ، أي : التي تبتدئ بالواو مثل وشي ، وورق ، ووقد ، وورم ؛ فالأصل في هذه الأمثلة هي : شيء ، رقّ ، قدّ ، رمّ ، فقولنا شيء تصير بالواو (وشي) بعد تخفيف همزة شيء و المعنى : أدخل الوشي والتزيين على الشيء ؛ وأصل ورق هو رقّ وقولنا : ورق بالواو لابس الرقّة ؛ وأصل و ق د هو قِدْ ، قِدَةً ، فهو واقد ، ثم يصير بالواو : وَقَدَ ، يَقِدُ ، مصدر وَقْدٌ ، وُقُود؛ وقالوا: ورِمَ يَرِم ويورَم ، رِمْ ورَمْ ، وَرَمًا ، فهو وارم بمعنى واحد بالواو والتجرد منها. وقس على ذلك كلّ فعل مثال بالواو
الثاني : الجذر الصوتي :
وهي الألفاظ المتعددة التي تشترك في جذر صوتي ، ويتضمن اللفظ الذي تشتق وتتوالد منه تبدلات صوتية بسبب المخالفة نحو قطع من قطّ ، وقد تتكاثر بالإبدال بسبب المماثلة الصوتية في المخرج أو الصفات أو الحذف أو غيرها مثل فلان دجيليّ أي ينتسب لنهر الدجيل ، ويقال : جيلاويّ وأصله الدجيلاوي ؛ ومن التبادل الصوتي نحو قطع وقطف أو سرط وصرط وقيل زرط ، أو التقاليب نحو الجرب للمرض الشديد ، ورجب للشهر الذي يعظم فيه القتال ويحرم ؛ فهي رزمة صوتية تشترك بمعنى القطع .
وقد استطعنا أن نجمع أمثلة في باعتماد (الجذر الصوتي) وعلى الوجه الآتي :
أوّلا – الزمر الدالّة على معنى معيّن :
ومن أمثلته : زمرة لألفاظ الدالة على رفع الصوت بمعانيه التفصيلية :
(عج ، جع) رفع الصوت ، ومنه العَجاج وهو إثارة الريح للغبار بصوت مرتفع ، ومنه جعجعة الجمل إذا اشتدّ هديره وصوته ، ومنه المثل : (جعجعة ولا أرى طحينا ).
(عط ، طع ) العطعطة و الطعطعة : تتابع الأصوات ، ومنه عط الثوب ،أي : شقّه بصوت مسموع .
( عت ، تع ) التردّد في الكلام ، ومنه التعتعة
( عقب ، بعق ) شدّ الصوت ، ومنه صوت الخنزير ، وبعاق الإبل
والقعقع : طائر يعقّق بصوته ، أي : يقطّعه ؛ والقعقعة : حكاية الصوت المتقطّع للسلاح والرعد والحلي للنساء ونحوه ، ومنه القعقاع : إذا مشى سمعت لمفاصله صوتا متقطّعا .
1- الزمر الدالّة على معان مختلفة :
وأمثلتها : ( قِط ، قسط ) القط النصيب ومنه قوله تعالى “وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [صـ : 16]”؛ والقسط : الحصّة والنصيب .
– (عق ، قع ) عقّ عقوقا ، أي : قطع الصلة تقول : عقوق الوالدين ، ومنه عقّ ثوبه إذا شقّه وقطّعه ، ومنه العقعق
– (دع ، دفع ) قال تعالى “فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون : 2] ” ، أي : يدفعه بجفوة
-( زعاق ، ذعاق) داء قاتل
-(اللفاع ، اللقاع ) الكساء الغليظ يتلفع به
-( نقع ، مقع ) انتقع لون الرجل وامتقع تغيّر .
-(عقف ، عطف) بمعنى واحد
– ( قفّة ، قفعة ) القُفّة هي سَّلَّةُ مِنْ وَرَقِ النَّخْلِ أَوْ نَحْوِهِ لحمل الخضر والرطب والفواكه والبضائع؛ والقفعة كذلك ، ولعلّ الأولى منها .
– ( شكو ، شقع ) بمعنى واحد ، وهو كثرة الأنين والضجر
– (نتع ، نبع ، نتح) نتع العَرَق ، والنتح : خروج الماء من الشجر على شكل بخار
– ( عذّب ، عذُب ) عذّب تعذيبا بمعنى حبس وأوجع ؛ وعذُب الماء طاب وأصله أنّ حبس الماء في الأواني الفخارية يجعل ما يترشح منه عذبا طيّبا
– هكع : سكن واطمأنّ ، هجع ، ضجع
– خلع نزع وفي الخلع مهلة
– خنع خضع بخع بمعنى : أذعن وانقاد
– سقع صقع ومنه الصقيع
– ( عمق ، معق ، قعر) عُمق البئر ومَعقها البعد في الأرض سفلا ؛ والقعر يرجع إلى البعد الذاهب في الأرض
ثانيا – التقاليب :
وأمثلتها : ( قط ، قطع ، مذع ، قعط ..إلخ ) قطّ : قطّ الشجر، وقطّ الشعر قصّه ، ولعلّ تسمية القطّ لقصر شعره ؛ وكذلك قطّ بمعنى حسب ؛ وقطع الشجر قصّه ، ومنه السيف القاطع وقطيع الغنم ، وقطع من الليل ، ومنه قوله تعالى ” كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس : 27] “، والقطعة في طئ ، وهي أن يقول : أبا الحكا وهو يريد أبا احكم ؛ فيقطع كلامه ؛ ومذع الكلام إذا أخبرك ببعض الكلام ثم قطعه ؛ وقعطت بمعنى اقتطعت .
– بحر ، حرب ، حَبر ، رحب ، برح ، ربح ( بمعنى السعة)
***
وهذه الدراسة للوضع اللغوي ذات أهمية بالغة في دقّة المعاني للألفاظ ثم دلالة الجملة فالنص ، وهي تحسم عدم صحة الترادف ، وهو أن يكون للفظ معنى آخر يرادفه ؛ فلكلّ لفظ معناه الذي يختصّ به بلحاظ معيّن ، وليس ثمة معنى بألفاظ متعددة ، وكلّ ما يذكر من تعدد المعاني للفظ الواحد قد يكون بسبب الوضع المتعدد للمعنى الواحد ؛وهذا ما يقع في ألفاظ الأعيان تحديدا كالأعلام نحو أسماء الأسد ، ومنها الهزبر ، والسميدع ، وغيرها ، وكلّ تسمية لا بدّ أن تكون بلحاظ معيّن مثل تسمية الوليد فهذا يسميه (محمد) للتبرك ، وذاك يسميه (عبد الله) بلحاظ تعبدي ، ثم يشيع أحدهما ، فيكون علما له ، فليس أحد الاسمين مرادفا للآخر ، فهما في وضعين بلحاظين مختلفين . وليس ترادفا أيضا ما كان بسبب اعتماد الصفات للأسماء نحو السيف ، فقد تطلق عليه قبيلة أخرى الحسام بلحاظ حسمه النصر، أو البتّار بلحاظ تأثيره ، أو الهندواني بلحاظ مكان صناعته في الهند، وغيرها ، وجميع تلك الأسماء هي في الحقيقة صفات بلغت سمت الاسم . وقد يطلق اللفظ ويكون مفهوما ذا مصاديق متعددة كالصراط المستقيم الذي هو الإسلام وقد يراد به الرسول العظيم (ص) أو أهل البيت عليهم السلام على وفق ما يروى عنهم ، والمصاديق ليست معاني ؛ فلا مانع من تعددها ولا تعدّ ترادفا .
ومن تطبيقات هذه الدراسة نعلم أنّ ( الصلاة) ، فالدعاء من مصاديقها ، وإنما هي من ( صلو) من تقاليب ( وصل) التي تعني الوصل ، ومعنى قوله تعالى ” إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب : 56]” بمعنى إنّ الله تعالى وملائكته يوصلون بركاتهم ونحوها إلى النبي العظيم (ص) ؛وجذر الصلاة واويّ ( صلا يصلو ) ؛ يدلّ عليه أنّ في المعاجم : صلاه ، أي : أصاب وسط ظهره ، ووسط الظهر صلة بين طرفيه ، وقيل للعظم بين المنكبين ( صلو) ، أي : العظم الذي يكون وصلا بين المنكبين .