المُخَلّفون ..
المُخَلّفون ..
في لحظة فارقة ترفع حجب الغيب عمّا خُبِّئ للصالحين من عظيم البشائر ولطائف المسرات ..فإذا غيوم الحزن تتلاشى كتلاشي الضباب إذا طلعت شمس الضحى ..وإذا المحنة تستحيل محنة ربانية تغشى النفس أمنة وسكونا ..تلك هي لحظة اتصال السماء بالأرض ..حين تتنزل الرحمات والبركات ..
“أبشر بخير يوم مرّ عليك مذ ولدتك أمك “[1]..أي والله يا كعب يا ابن مالك ..إنه خير يوم قُدر لك ..فما أسعدكǃ..ها أنت ذا خبر مسطور في ثنايا الذكر الحكيم ..وآية يرتلها الأنام ،فترهف لها أسماع الدنيا ..تدمع العين كما دمعت عيناك ..ثم تتهلل النفس فرحا وبشرا بما حباك الله بعد تلك المحنة الموجعة ..
تطوف روحي هناك في طيبة.. تتلمس آثر الطيبين ..فأراك ..مع الصحب الكرام ..كلهم يتأهبون للسير حيث يسير الحبيب محمد (صلوات ربي وسلامه عليه )..إلى تبوك ..وما أبعد تبوكǃ..كنتَ معهم تستعد كما يستعدون ..وإذا بك تقعد وتركن إلى الأرض ..وتثّاقل ثم تتخلف عن الركب حين سار..
كيف هان عليك يا كعب أن تمكث في ظل ظليل ..وعيش هنيء ورسول الله يكابد سفرا بعيدا ..وحرا شديدا ..وعدوا كائدا ..؟
لم يكن ذلك من شيمك ..يا كعب ..فأنت المبايع محمدا من قبل ..عند العقبة ..وأمْر الاسلام يومئذ ضعيف يريد أن يقوى ..طريد يبحث عن مأوى..فما خلفك عنه هذه المرة؟؟.. أهي النفس النازعة ؟ أم تسويف الشيطان ؟..أم هو أمر يراد ؟..
بين اللحظة والأخرى ..يستيقظ وجدانك فتهوى اللحاق بالأحبة ..لكن الغزو قد تفارط.. وحيل بينك وبين الجادين في المسير ..كانوا كثيرين .. (يعتقب ثمانية عشر رجلا منهم بعيرا واحدا ..يأكلون أوراق الشجر حتى تتورم شفاههم ..يذبح أحدهم بعيره ليشربوا ما في كرشه من الماء)[2]..وأنت هنا مسترخيا تطلب الراحة.. ǃ
سرعان ما يتكشف لك هول ما اقترفت ..ألا ترى من قعد عن السير مع نبي الله ؟ ..ليس هناك إلا رجال ممن بان نفاقهم واشتهر ..أو أصحاب أعذار ردهم الرسول إذ لم يجد ما يحملهم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ..
ويلك يا كعب أين أنت من هؤلاء؟ ..أنت :لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء..
يا لحزنك يا كعب ǃ..مت بغمك أو اصرخ بأعلى صوتك :إني خذلت رسول الله.. ǃ
أما الحبيب فلا ينسى أصحابه على كثرتهم ..يذكرك يا كعب ..على بعد الشقة ..يذكركǃ :ʺ مافعل كعب ؟ʺ .[3]
_”يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه”ǃ..[4]
ما أهونك على أصحابك يا كعب ǃ..في مجلس رسول الله، بعضهم يلمزك أن قعدت عن الجهاد ..ألمز في مجلس رسول الله ؟ǃ..نعم إنهم بشر ..ككل البشر ..ولكن السماء ترعاهم وتربيهم ..ثمّة رجال صالحون يحفظون غيبة أخيهم ..:”لا والله يا رسول الله ..لا نعلم عنه الا خيرا “[5]..سكت رسول الله ولم يعقب ..وخيم الصمت على المجلس..لا أحد يعلم :لم تخلف كعب عن هذا المشهد العظيم ؟ǃ..
ويحك يا كعب ..ها قد قفل الجيش راجعا ، فبأي وجه ستلقى رسول الله ؟..استجمع قواك كلها ..دبّر أمرك يا كعب ..أتعجز أن تكون مثل المنافقين ؟..جد أي عذر ولو كان كاذبا ǃ..
أنت تكذب ..يا كعب ؟وعلى من ؟ على رسول الله ǃ..فأنت إذن لست كعبا الذي يعرفه الله ورسوله ..
وفي المسجد تلقاه ..يتبسم لك تبسم الغضبان ..إنه الحبيب الرؤوف الرحيم ..يغضب لكنه يتبسم ..يدنيك منه لتستأنس ..ويسألك برفق :”لم تخلفت ياكعب ؟..ألم تكن قد ابتعت راحلتك ؟ǃ”[6]..
فلله ما أعقلك يا كعب ǃ ..وما أصفى قلبكǃ وأنقى سريرتكǃ..يعجز المنافقون عن الصدق وتعجز أنت عن الكذبǃ
تقف بين يدي الحبيب محمد صفحةً بيضاء لا كدر فيها ..يذوب قلبك صدقا وطهرا وصفاء ..وإقرارا بالذنب ..:”.. يا رسول الله ..والله ما كان لي من عذر ..و والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .”[7]
ويكأنه لا يفلح الكاذبون ..الصدق َ..الصدقَ وإن ذقت المرارة بعده ..وجفاك من جفاك يا كعب.. فريدا كنت في صدقك .. فارقب حكما يليق بك ..”أما هذا فقد صدق ..قم حتى يقضي الله فيك ..”[8]..بهذا حكم المصطفى وأمر أن يقاطعك الناس، حتى لا تلق من يرد عليك السلامǃ
..ستمكث طريدا شريدا .(.مخلفا بين السماء والأرض)[9]..إلى أن يقبل الله توبتك ..تمحيصا لقلبك وقلوب المؤمنين ..ستضيق الأرض عليك بما رحبت ..وتضيق عليك نفسك ..وتبكي ..خمسون ليلة تمر عليك وأنت تتقلب في محنتك الضارية.. ثم تحن عليك السماء وتزف إليك البشرى في فجر خير يوم مَرّ عليك مذ ولدتك أمك ..”وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليه أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا اليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم “(التوبة :117-118).
!وإن من البلاء لزلف وكرامات ǃ
رواه البخاري و مسلم و أحمد عن كعب بن مالك رضي الله عنه[1]
روعة أسلوبك تتجلى في فواصلك الإبداعية وتنقلك بأفكارك بحروف خرجت من سباتها القصري لتروي وتقص أجمل المكارم … الصدق مع إيمان عميق كانت زبدته توبة وقبول من رب العرش العظيم … بوركت وموفقين إن شاء الله