حصريا

الملتقيات والسلطة المعرفية بين الجامعات والجمعيات. د. خيرالدين سعيدي – الجزائر-

0 38

الملتقيات والسلطة المعرفيةبين الجامعات والجمعيات

ج١

د. خيرالدين سعيدي

جامعة محمد لمين دباغين سطيف ٢

لا يكاد يحدث توافق بين الباحثين حول الأماكن التي يفترض فيها أن تحتضن العلم والمعرفة، فقسم من الباحثين يعتقد أن الفضاء الحيوي للمعرفة والسلطة العلمية محلها الجامعة وملحقاتها المعرفية من مخابر علمية وأقسام بحثية ومعاهد، في حين يوجد اعتقاد بدأ يدب في أوساط الباحثين مفاده أن العلم والمعرفة الحقيقة محلها المجتمع أين تتحرك فواعل ثقافية مختلفة تتجاوز في تفكيرها ورؤيتها الأطر الضيقة التي تفرضها الأكاديمية الحديثة.

وإن أتينا إلي تشريح هذه الآراء ومحاولة تقييمها وتقويمها نجد أننا أمام عدد من المعضلات والحدود التي وضعها العقل الأكاديمي والعقل الجمعوي.فالأول ينظر للثاني من منطق فوقي لا يخلو من الوصاية، في حين لما يرى العقل الجمعويأنَّ النشاطات والملتقيات العلمية الأكاديمية شكل من أشكال الطوباوية لا تتجاوز كونها نشاطات صورية تفرضها سياقات الترقيات العلمية والأكاديمية.

إن محاولة وضع أطر للنشاطات العلمية التي تجمع بين حسنات العالمين أصبحت ضرورة علمية ومعرفية ومجتمعية، فلا يمكن بأي حل من الأحوال أن تبقى الملتقيات العلمية ضمن إطارها الضيق المغلوق الذي تحبسه فيه التقاليد الأكاديمية البالية، والتي ما زال العديد من الأساتيذ يعتقدون أنَّها بذلك مُؤهَّلة لاحتكار الأنشطة العلمية في الفضاءات المختلفة. كما لا يمكن القبول بتميع النشاطات العلمية فتصبح مجرد فلكلور تتخفى وراء نشاطاته سلطاتسياسية وإدارية في الولايات والبلديات.

لذا لا بد لنا من تشخيص هذه الحالة المرتبطة بالنشاط العلمي ككل ضمن الفضاءين ليتسنى لنا بعد ذلك الحديث عن آفاق الانعتاق المعرفي للمجتمعين العلمي والجمعوي. ولهذا لابد أولا مِن الحديث عن العقبات العديدة والعوائق المختلفة التي تُضيِّق مساحة انتشار المعرفة في كل من الفضاء الجامعي والفضاء المعرفي.

وأوَّل هذه العوائق هو الأُطر المفاهيمية التي تحكم نشاط المعرفة في كلا الفضاءين، فالملتقيات العلمية التي كانت تنظمها وتسهر عليها الجامعات الغربية عند نشأتها الأولى كانت محاولات علمية لمناقشة “إشكاليات معرفية” ما عاشها أو يُعيشها المجتمع، في حين أنَّ الملتقيات ضمن النشاطات الجمعوية كانت تنشد تقريب العلوم للعوام مِن غير المختصين؛ لفهم النقاشات الكبرى التي تحتويها الجامعات أو المعاهد. وإذا تقرر ذلك صح القول أنَّ: الملتقيات الجامعية كانت تضم -غالبا- أوراقاً مُتخصصة مقدَّمة بعمقٍ متجاوز لكل ما هو تأسيسي؛إذ أنَّ الأصل في المُستهدَف هو أنَّه مُتمكِّن مِن الأساسيات، في حين في أن الملتقيات في سياقها الجمعوي تهدف لتبسيطالمعارف التأسيسية للعامة من الناس، ما يجعلها أيسر للفهم والاستيعاب، وكأني بالملتقيات في الجمعيات نواة ودرج أوَّل يضع فيه الفرد قدمه ليرتقي إلىما هو أصعب وأعمق.

غير أنَّ ما يحدث في الملتقيات والنشاطات الجمعوية يوحي بأنَّه لم يبق أي خيط ناظم لهذا التصور، أو للعلاقة بين النشاطات العلمية في الجامعات والجمعيات. ولم أشهد ولم أسمع إلى يومناهذا بأي نشاط جامعي حاولت فيه النخب الجامعية مثلاً التواصل مع ما هو جمعوي لترشيده أو توجيهه أو تنسيق نشاطاته، بل مثلما أسلفتلا يزال كل طرف ينظر إلى الطرف الآخر بنظرة تكتنز إمَّا صبغة التعالي أو نظرة استهجان.

على كل حال إن أتينا لمحاولة وضع تصوُّرٍ لبعض الأمور التي تشترك فيها مظاهر التَّأزُّم في نشاط الملتقيات في الجامعات والجمعيات لانطلقنا أساسا مِن داء “المناسباتية”. أي ارتباط الأنشطة في الغالب الأعم بالمناسبات التاريخية أو الوطنية أو الأحداث الآنية، ولعل هذا الأمر جلي في النشاطات التي تحتضنها الجامعات والجمعيات بشكل أساسي في كل المناسبات التاريخية والسياسية، إذ أصبح الأمر وكأنه تقليد فج، لا نشاط إلا ضمن مناسبة ما،…وليت شعري…مَن قرَّر أنَّه يجب أن تناقش الجامعة مسألة “استرجاع السيادة”(ولا نقول الاستقلال) في الخامس جويلية مِن كلِّ سنةٍ حصراً؟ أو مَن هذا الذي قرَّر بأنَّه لا يجب على الجمعيات النشاط في غير “نوفمبر” لتعريف العامة مِن الناس بثورتنا المباركة؟ مَن قرَّر أنَّ الحديث عن جرائم الاستعمار يحتاج إلى مناسبة ما لإحيائه؟ أم مَن أوعز أنَّ الحديث عن ملف “تجريم الاستعمار” حِكراً على الطبقة السياسية أثناء تصاعد الهجوم الكولونيالي المتجدد على بلادنا؟ مَن قرر أنه لا يمكن الحديث عن الشيخ “ابن باديس” إلاَّ في 16 أبريل؟ هذا الداء المناسباتي الذي انخرطت فيه الجامعات والجمعيات لم يحتكرأثناء نشاطه المناسباتية التاريخية فقط، بل أنَّه مع الوقت تقوقع داخل المناسباتية المكانية وهي أخطر، إذ أضحت جامعات غرب البلاد مثلا تناقش في كل مناسبة بيعة “الأمير عبد القادر” وما أدراك ما هذه اللحظة التاريخية في حين لا نقف مثلا على أي ملتقى أو نشاط لتخليد مقاومة “الحاج أحمد باي” والأمر نفسه في جامعات الشرق فلعلك تقف على عدد مِن الملتقيات تخص “أحمد باي” لكن الحديث عن “الأمير عبد القادر” قد تُرك لجامعات الغرب.، والأمر سيان في الجمعيات بل هو أخطر إذ تستغرق أكثر في المحلية.وعلى ما أذكر نادراً ما دُعيت لإلقاء مُحاضرةٍ عن الأمير عبد القادر مِن جامعات أو جمعيات في الشرق أو الجنوب،لكن دائما ما توجه لي دعوات مِن جمعيات أو جامعات أو متاحف من غرب البلاد.وكذلك الأمر عندما نتحدَّث عن الجنوب الجزائري، فنجد الزوايا هناك تهتم بتخليد رجالاتها أمثال: الشيخ العلامة محمد باي بلعالم رحمه الله أوالشيخ أحمد الطاهري التواتي وتحتفي بهم زوايا كنته والرقاني وساليفي حين لا تكاد تقف على أي ذكر لعلماء ورجالات الشرق والغرب والوسط شيئا. الأمر عينهنقف عليهفي غالبا الجامعات والجمعيات، لكل واحدة شخصية احتكرتها فجامعة اختصت:بـ”العربي بن مهيدي” طيب الله ثراه وأخرى بالشيخ “العربي التبسي” وثالثة بـ”عبان رمضان”.  إن هذا الأمر الذي قد يبدو هامشي هو في الحقيقة يزرع بذور تمايز لا نريدها في مجتمعنا العلمي، وهذا الإغراق في المحلية قد يجعل رموزنا محلية أكثر منها وطنية، وقد أحسنت الدولة منذ سنين خلت عندما سمت أفخم جامعات الشرق باسم “الأمير عبد القادر” وأكبر مساجد وهران باسم علامة البلاد وشيخها “عبد الحميد بن باديس”. وهذا هو المطلوب في سياق النشاط العلمي للملتقيات.

إنه لمن الضروري الآن للجامعات والجمعية على حد السواء أن تتحرر من غلال المناسباتية الضيقة إلى سعة العلم الرحبة، وأن تعي أنَّ العلم ليس مناسباتياً فقط، فما يصلح في 1 نوفمبر الجليل يصلح أيضا ليلقى على أفئدة الناس في مارس وأبريل، وكل شهور العام، كما علينا أن نعي ونفهم أن تنويع المشهد الثقافي ضرورية لا مناص منها، فالأمير عبد القادر في سطيف ليس غريبا عن دياره، بل كأنه في القيطنة، والشيخ “عبد الحميد ابن باديس” في تلمسان هو في فناء داره.والشيخ “البشير الإبراهيمي” في أفلوا إنما هو في وعرينه. لا بد للجامعات والجمعيات مِن الآن أن تُراعى في نشاطاتها الجامعية والجمعوية الصبغة الوطنية زمانيا ومكانيا وأن المناسباتية الزمانية والمكانية إنما هي بلاء وشر كبير، كما أن عليها أن تعي أنَّ الرمزية التي تنشد بعثها من خلال ملتقياتها ونشاطاتها يجب أن تنقلها إلى فضاءات أوسع، وتشاركها وتتشاركها مع كل أقطار الجزائر مِن تلمسان إلى تبسة ومِن تيزي وزو إلى تين زاوتين.

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.