المسك الأَذْفَر في توجيه تفسير البخاري (تَزْفُر)
المسك الأَذْفُر
في توجيه تفسير البخاري (تَزْفُر)
الحمد لله وصلواته وسلامه على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.. وبعد:
فقد وقع في (الصحيح) تفسير حرف غامض من غريب العربية لمصنفه الإمام الحافظ المجتهد محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، وهو شيء أعيا العلماء معرفتُهُ، حتى هجم لأجله بعض من لا عناية له بالعربية من الحداثيين والروافض للطعن فيه، وتتابعوا على نبز مصنفه بالأعجمية، على عادتهم في التعسف وسلوك غير الرأي الأحزم، شنشنة نعرفها من أخزم.!
والحديث رواه البخاري في باب حمل النساء القِرَبَ إلى الناس في الغزو من كتاب الجهاد، من طريق يونس عن ابن شهاب قال ثعلبة بن أبي مالك: إن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قسمَ مُرُوطا بين نساء من نساء المدينة، فبقي مِرْط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أميرَ المؤمِنين، أعط هذا ابنة رسول اللَّه صلى اللهُ عليه وسلم التي عندك، يريدون أم كلثوم بنت علي، فقال عمر: (أم سَليط أحق، وأم سَلِيط من نساء الأنصار، ممن بايع رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم) قال عمر: (فإنها كانت تَزْفِر لنا القِرَبَ يومَ أُحُد) قال أبو عبد الله: تَزفر: تخيط.
وأعاده في باب ذكر أم سليط من المغازي، ووجه الإشكال ما قاله القاضي عياض في (المشارق) {1/312} زفر: (قوْله: تزفر لنا القرب، أي: تحملها ملئا على ظهرها تسقي الناس منها، والزفر: الحمل على الظهر، والزفر: القربة أيضا، كلاهما بفتح الزاي وسكون الفاء، يُقال منه: زفروا زفرا، وجاء تفسيره في البخاري من رواية المُستملي قال أبو عبد الله: تزفر: تخيط، وهذا غير معروف).
وقال ابن قرقول في (المطالع) {3/238}: (وروى المستملي في البخاري، قال أبو عبد الله: تَزْفِر: تخيط، وهذا غير معروف في اللغة).
ويقويه رواية ابن زنجويه في (الأموال) من طريق الأوزاعي عن الزهري مرسلا أن عمر قال: (أُمُّ سَلِيط الأنصارية أحقُّ به كانت تَزْفِرُ القِرَبَ يوم أُحد تسقي الصفوف) فقوله (تسقي الصفوف) يقوي أن المراد من الزفر حمل قرب الماء للسقي، وليس خياطتها كما فسره البخاري.
وأيضا فقد ذكر الحافظ في (الفتح) {6/80} أن أبا نُعيم الأصبهاني رواه في (المستخرج) من طريق عبد اللَّه بن وهب عن يونس به، وقال عبد اللَّه بن وهب: تَزْفر: تحمل، وهو يدل على خطأ تفسير البخاري لأن ابن وهب راويه، فتفسيره مقدم كما تقرر في الأصول، ومن استقرأ معاجم العربية لم يجد فيها ما قاله البخاري إن تزفر بمعنى تخيط.
والجواب من وجوه:
أحدها: ما حكاه الحافظ في (الفتح) {6/80} أن أبا صالح كاتب الليث قال: تزفر: تخرز، قال الحافظ: (فلعل هذا مُستند البخاري في تفسيره) وقال القسطلاني في (شرحه) {5/85}: (ولعل البخاري إنما تبع في ذلك ما روي عن أبي صالح كاتب الليث حيث قال فيما رواه أبو نعيم عنه: تزفر: تخرز).
ويقويه أن أبا صالح من رواة هذا الحديث فتفسيره مقدم أيضا، لكن يعكر عليه أن تفسير الزفر بمعنى الخرز لا يعرف في العربية أيضا، لكن قال السيد الحافظ مرتضى الزبيدي في (التاج) {11/436}: (ووقع في صحيح البخاري، تزفر: تخيط، قال الجلال في التوشيح: لا يُعرف هذا في اللغة، هكذا نقله شيخنا وسكت عنه، قلت: ويصح أن يكون بضرب من المجاز، فتأمل).
وهو كما قاله، فمن مجازه، وهو:
الوجه الثاني: أنه مقلوب (زرف) وهو انتقاض الجرح، فقال أبو عبيد عن الأصمعي كما في (التهذيب) للأزهري {13:/133}: زَرِف الجرحُ يَزرَفُ زَرَفانا: إذا انتقض ونُكِس، وقاله ابن فارس في (المقاييس) {3/51} وابن القطاع في (الأفعال) {2/87} وغيرهم.
ومثله انتقاض القرب وتشققها فلذا تحتاج إلى خياطة وخرز، لأن القرب تتخرق وتتشقق فيكون إطلاق الزفر بمعنى الخرز والخياطة من تسمية الشيء باسم ما يحتاج إليه من عمل، كما سموا الإماء اللواتي يحملن القرب بالزوافر وسموا القربة بالزافرة، إذ أصل الزفر الحمل، فسمي به الحامل والمحمول.
الثالث: ونظيره أنه مقلوب (زفر) وحكى أبو منصور في (التهذيب) {13/132} عن الليث قال: الفُزُور: الشقوق والصدوع، وتفزَّرَ الثوبُ وتفَزَّر الحائط: إذا تشقّق.. ويقال: فزرتُ أنف فلان فزراً، أي: ضربته بشيء فشققته فهو مفزور الأنف.
فساغ من هنا إطلاق الزفر بمعنى الخرز والخياطة، لأن كل مشقوق فهو يخاط ويخرز فهو كما تقدم من المجاز، لأن إطلاق الزفر بمعنى الخرز والخياطة نظير إطلاقهم الزافر على الضخم لأنه حامل الأثقال، وعلى القوي من الرجال، وسموا به السيد الجواد تشبيها له بزفرة البحر كما في (التاج) {11/433} وغيره، وقالوا: زفر الماء إذا استقى فحمل، وسموا به زاد المسافر وكل هذا مما تتسع له اللغة من الدلالات المجازية.
الرابع: أن الزفر تلاحم المفاصل كما في (التاج) {11/435} وغيره، ولهذا تسامحوا في إطلاق الخياطة فيه مبالغة في إظهار تلاحم المفاصل، قال الجعدي:
خِيطَ على زَفْرَةٍ فتَمَّ ولم … يرجع إلى دِقّةٍ ولا هَضَمِ
قال الأزهري {13/133}: (يقول: كأنه زافِرٌ أبداً من عظم جوفه، فكأنه زَفَرَ فخيط على ذلك) فيسوغ والحال هذه إطلاق الزفر على الخياطة والخرز مجازاً.
تنبيه: وقع في (الحلية) {2/62} لأبي نعيم من طريق الليث بن سعد عن يونس عن ابن شهاب عن ثعلبة بن مالك، فذكر الحديث وفيه: (وأم سَليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ترفو لنا القرب يوم أحد).
وقد اغتر بقوله (ترفو) المحققون لــ(الجامع الكبير) للسيوطي، وأُراه تصحيفا لأنه وقع عند البخاري وأبي عبيد وابن زنجويه في (الأموال) لهما، من طريق الليث به بلفظ (تزفر) وهو الصواب.
واغتر بعضهم بما في (الأموال) لأبي عبيد، فإنه رواه بلفظ (تَزفر) بفتخ أوله، ثم قال: (وبعضهم يقول: تزفر) وضبطه من حقق (الأموال) بالفتح أيضا، فتوهم أنه مصحف عن (ترفو) وقوى به رواية (الحلية) لأنه غير متعقل أن يكرر نفس الحرف دون معنى زائد.!
والصواب أنه (تُزفر) بضم أوله، وإنما أراد أبو عبيد أن بعضهم يرويه بفتح أوله وبعضهم بضمه، والله أعلم
والحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وآله وأصحابه.
كتبه
أبو جعفر بلال فيصل البحر