الفكر الإسلامي بين التعاضد النقلي و التمايز النقدي د. إسماعيل الحسني
بسم الله الرحمن الرحيم
يتمثل السؤال الأساسي لهذه المحاضرة المتواضعة في الصيغة الآتية: كيف تبنى المعارف و الأفكار ضمن هذا المفهوم المركب الموسوم ب” الفكر الإسلامي” ؟ الجواب عن هذا السؤال ضروري في تبين نوعية العلاقة التفاعلية التي تربط العقل الإنساني بالنقل الإسلامي. وخطوتنا الأولية في ذلك أن نحدد ما نعنيه بالفكر الإسلامي.
1 الإسلام و الفكر الإسلامي:
يتكون مفهوم الفكر الإسلامي من مفردتين: الأولى الفكر و الثانية الإسلام.
= الفكر
الفكر بفتح مصدر للفعل فكر، يقال: فكر في الشيء يفكر فيه فكرا إذا أعمل فيه النظر، الفكر بكسر الفاء اسم لإعمال النظر… سبق للغزالي أن حدد معنى الفكر في ” إحضار معرفتين في القلب ليستثمر معرفة ثالثة” . و هو، بحسب ابن خلدون، ما يميز عن الحيوان لأن الإنسان بالإضافة إلى ما يشعر به من الحواس السمعية و البصرية و الشمية و الذوقية و اللمسية هو كائن يدرك ما هو خارج عن ذاته، يدرك ذلك بالفكرالذي وراءه حسه، فالبفكر يعتدي الإنسان إلى تحصيل معاشه و التعاون عليه من بني جنسه ” بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر و عن هذا الفكر تنشأ العلوم و ما قدمناه من الصنائع” .
و على كل حال إن مادة “الفكر”، و بغض النظر عن استعمالاتها المختلفة في اللغة العربية، تجسيد لفعل ذهني مرتبط بالذات الإنسانية كذات مفكرة تريد الوصول إلى “حقائق” مخصوصة. عدتها في ذلك مبادى و تقنيات . فنذكر من المبادئ التريث و التثبت و الرزانة و الموضوعية و النزاهة و الأمانة و غيرها. و من التقنيات البحثية المقارنة، و الاستقراء، و الاستقصاء، و الفهم، والتساؤل، والاعتراض، وتحليل الأمر الواحد إلى أجزاء متعددة، و رد الأجزاء المتعددة إلى أمر واحدا، و غيرها من الترتيبات البحثية، و المفكر هو القادر على صهر تلك المبادىء و هذه التققنيات في بوثقة مفاهيم باعتبارها تجريدت ذهنية تنطوي على معطيات متعددة و متنوعة تؤهلها لإبراز نظام الفكر و التفكير و كشف صور العلاقات بين موضوعات الفكر المختلفة. و اهم ما في مدارج الفكر و أهم ما في روحه هو مدى قدرة المفكر على إبداع المفاهيم التي تقدرنا على فهم موضوع هذا الفكر أو ذاك فضلا عن مقاربة قضاياه و مسائله المختلفة.
و عليه نعني بالفكر ذلك الجهد النظري الذي يتشكل من الناحية الذهنية من مراعاة المفكر جملة من المبادءى و من إعماله لزمرة من العمليات الذهنية_النظرية ، مبادى و عمليات قد تتبلور و تنصهر في بوثقة مفاهيم تعكس حقيقته المنهجية.
= الإسلام
موضوع الفكر هنا هو الإسلام، في قولنا الفكر الإسلامي، فهو مصدر للفعل أسلم، و إذا عدي باللام ، كما في قولنا أسلم، فنعني به انقاد و خضع، و إن عدي بحرف “إلى” في قولنا أسلم إليه الشيء فنعني به دفع الشيء إليه. و المصدر “إسلام” معناه الدخول في السلم. لقد سمى القرآن الكريم الدين الذي كلف الأنبياء و الرسل بتبليغه بالإسلام كما في قوله تعالى: ” أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك و إله آباءك إبراهيم و إسماعيل و إسحاق إلها واحدا و نحن له مسلمون” \ سورة البقرة، الآية 132\. و المقصود بالإسلام في مركب “الفكر الإسلامي” الدين الخاتم الوارد في أمثال قوله تعالى: ” و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ” سورة آل عمران، الآية 85\ و قوله: ” اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا” \ سورة المائدة الآية 4\.
بغض النظر عن اختلاف علماء الإسلام في تحديد المعنى الشرعي للإسلام فإننا نقصد بالدين الإسلامي الخاتم النسق الكامل الذي الذي بعث به الرسول الخاتم محمد بن عبد الله و كلف بتبليغه للناس فنظم حياة الفرد و المجتمع لأن الجوانب الأخلاقية و العملية من عبادات و معملات امتداد للجوانب الاعتقادية، و الجوانب الاعتقادية امتداد في الجوانب الأخلاقية و العملية.
و هكذا إننا نعني بهذا المفهوم المركب “الفكر الإسلامي” كل النتاج العلمي الذي أنتجه الفكر البشري الذي آمن أصحابه بالإسلام و تفقهوا نسقه وتدبروا معنايه و أحكامه ز مقاصده و قيمه. و إن ما انتجه علماء الإسلام من فكر في هذا الصدد متعدد بحسب نواحيه الاعتقادية و الفقهية و الأصولية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الأدبية و المقاصدية. ولد الفكر في كل هذه النواحي عقل إنساني عكس و صور نوعية تفاعله مع الإسلام و مع واقع المتدينين به طول تاريخ المسلمين و إلى يوم الناس هذا.
= الفكر الإسلامي بين النقل و العقل
إذا تاملنا قليلا طبيعة موضوع هذا النتاج الموسوم ب”الفكر الإسلامي”، و انطلاقا من استحضار كل النواحي النظرية و العملية السابقة تبينا بسهولة أنه تشكل و تبلور في في إطار عمودي النقل و العقل . و النقل إذا أطلق انصرف معناه إلى الوحي الذي أوحي إلى الرسول الكريم الخاتم محمد بن عبد الله عليه الصلاة و السلام فبينه في سنته و جسده في سيرته . و هو نقل حرص علماء الإسلام عى الاهتمام به فميزوه عن غيره من المنقولات و أجهدوا أنفسهم في توثيق كل خبر منقول عن المبلغ الأول له و هو رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه و سلم، و قد بلغ من حرصهم ان شاعت عندهم القولة المشهورة: ” إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدعيا فالدليل”.
و إذا لم يكن من غرضنا في هذه المحاضرة التذكير التفصيلي بالجهود المعتبرة و المقدرة التي بذلها علماؤنا رحمهم الله في توثيق النقل ممثلا في القرآن الكريم و بيانه النبوي فلنتجه إلى مقصودنا الأصلي ممثلا في بيان كيفية تفكيرهم و تفهههم لمتون النقل الذي ثبت عندهم وثاقته و تأكدت عندهم صحته لأن ما يشغلنا هو النظر في ذلك التفكير أو التفقه في إطارين مفهوميين: أولهما ما صطلحنا على تسميته بالتعاضد النقلي ، و الثاني ما اصطلحنا على تسميته بالتمايز النقدي.
2 النقل و التعاضد النقلي
الحرص على أن يكون تفكيرنا في المتن المنقول عن الرسول الكريم محمد عليه الصلاة و السلام تفكيرا تعاضديا هو في العمق حرص على التسلح بالنظرة الشمولية لأن من شأن التسلح بها أن يجنبنا السقوط في مهاوي التعضية بكل ما تعنيه من تجزيء و من انتقائية نهى الله تعالى عن الوقوع في مهاويها من ذلك قوله تعالى: ” أفتومنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلكم منكم إلا خزي في الحياة الدنيا و يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب و ما الله بغافل عما تعملون” \سورة البفر، جزء من الآية 85\. كما نهى الله تعالى عن المجزئنن الذين قسموا القرآن الكريم تقسيما لا يراعي مقاصده و هذا واضح في قوله تعالى : ” الذين جعلوا القرآن عضين” .
= النقل
وصف القرآن الكريم الدين الذي بلغه الرسول الكريم محمد عليه الصلاة و السلام و نقله إلينا بأنه دين كامل لقوله تعالى: ” اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا”\ سورة المائدة، الآية 4\. و لعل من أبرز مظاهر كمال هذا الدين ان يكون المنقول منه منقولا متعاضدا. و عليه المفروض ان يكون هذا النقل ممثلا في القرآن الكريم و بيانه النبوي متعاضدا يسند بعضه بعضا و يبين بعضه بعضا، و قد قدم الأصوليون و علماء القرآن و الحديث كسبا علميا معتبرا في بنائه و توضيحه.
إن لفظة التعاضد استعملها غيري: من ذلك قول الغزالي رحمه الله : ” الشرع عقل من خارج، و العقل شرع من داخل، و هما متعاضدان، بل متحدان” . و من ذلك قول الشاطبي رحمه الله : ” إذا تعاضد النقل و العقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يسبق النقل” . لقد استعمل هؤلاء الأفذاذ مادة التعاضد و عبروا بها عن المعاضدة التامة بين ما يقتضيه النقل الصحيح و العقل الموضوعي النزيه. العلاقة عندهم بين النقل الصحيح و العقل الموضوعي النزيه علاقة وحدة أو انسجام أو تناغم لا علاقة تناقض أو تنافر أو تخالف. أما استعمالي لهذه اللفظة فمن أجل الدلالة على مفهوم الإحكام الدقيق الذي لايقبل التجزئة و الانتقاء أو البناء المتلاحم الأطراف الذي لا يقبل التعارض و التناقض و الذي يختص به الشرع الإسلامي المنقول عن الرسول الكريم محمد عليه الصلاة و السلام.
عندما نستعمل التعاضد فإننا نعني به في المقام الأول الإحكام المتين في مكونات النقل المنقول ممثلا في القرآن الكريم و في بيانه النبوي. بكلمة أخرى عندما نستعمل التعاضد فعني بها البناء المتراص للنقل في عناصره سواء تعلق الأمر ببنائه الذاتي الداخلي ذاته أو تعلق الأمر بعلاقته بالمتلقين له، المعتقدين به، و المكلفين بأحكامه. و لهذا لا نستغرب إذا كان الإحكام من أبرز من اوصاف القرآن الكريم عماد الشريعة و ينبوع الملة الإسلامية لقوله تعالى: ” كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير” \ سورة هود، جزء من الآية 1\ و قوله تعالى: ” هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات” \ سورة آل عمران، جزء من الآية 4\..
= مفهوم التعاضد النقلي و أقسامه
نعني بالتعاضد التعاون الذي يتضافر على تحقيقه أهدافه أكثر من عنصر، فلئن كان هذا المعنى هو الذي تدور في محوره معظم استعاملات مادة ع. ض. د في اللغة العربية فإنني استعرته و و وظفته للدلالة على مفهوم ينظم المعرفة الإسلامية و يجذر بنيتها الفكرية. إن توظيفي لمفهوم التعاضد فمن أجل أن الدلالة على وصف الاتساق الذي يجب أن يتصف به المتن النقل المنقول عن صاحب الشرع محمد عليه الصلاة و السلام. المفروض قبل أن أن يستعمل المفكر المسلم، أيا كان مجاله اشتغاله العملي و أيا كان مستوى انشغاله العلمي، هذا المتن النقلي او ذاك، فيجب ان يحرص أن يكون متسقا تتعاضد مكونانه النقلية و تتساند ليأخذ بعضها برقاب بعض كما ثقال.
و عليه إن مقصودنا بالتعاضد النقلي هو أن يتصف النقل في فكرنا بوصف الاتساق فتتسق الآيات القرآنية بعضها مع بعض و تتسق السنن النبوية بعضها مع بعض و تتسق السنن النبوية مع الآيات القرآنية ، و يتسق ما حصلناه من آيات قرآنية وسنن نبوية مع قدرات المخاطبين بها تعقلا و عملا. لا بد أن ينتظم هذا الاتساق في ذهن العالم المسلم و في فكره و لا زال كذلك حتى يتصور الشريعة على نظام واحد غير متخالف مع ولا مختلف .
ينقسم التعاضد النقلي، انطلاقا من هذا المعنى، إلى قسمين: أولهما داخلي والثاني خارجي.
= التعاضد النقلي الداخلي
نعنى بالتعاضد الداخلي اتساق آيات القرآن و السن النبوية. نلاحظ ان القول بالتعاضد في منقولات الشريعة بمثابة القاسم مشترك بين الجميع لأنه مبدأ قرآني، قال تعالى : ” اليوم أكملت لكم دينكم” \سورة المائدة، جزء من الآية 4\. نعـم لا شك في ذلك، لكنه أمر مختلف في تقديره لأنه مفهوم مبني ومكتسب. والشاهد على ذلك تفاوت علماء الإسلام في تمثله وبنائه. منهم من طرح التعاضد الداخلي طرحا تجزيئيا، ومنهم من ارتقى إلى طرحه طرحا شموليا. و هكذا يمكننا أن نميز في تناوله بين مقاربتين: الأولى تجزيئية و الثانية شمولية.
يقتصر صاحبة المقاربة التجزيئية على كشف الارتباطات المختلفة بين ألفاظها. يبدو ذلك في دفع التعارض الظاهري بينها، و في القول بعدم اجتماع النقيضين في أحكامها ، وفي مسائل النسخ وأسباب النزول، وفي مسائل الإجمال والخفاء، التواطؤ والاشتراكـ، العموم والخصوص، الإطلاق والتقييد، والحقيقة والمجاز … و كلها مباحث تتصل بالأفاظ و سائر عوارضها الذاتية المتعلقة بها. عالج معظم الفقهاء و الأصوليين كل هذه المباحث بمنطق لا يرتقي في الغالب إلى أفق شمولي بقدر ما يتبصر صاحبه بالاتساق بين آيات القرآن المجيد و سنن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه و سلم يجمع جمعا جدليا بين تلك الآيات و السنن و بين ما تدل عليه من دلالات مقصودة ينتظمها الخطاب الشرعي، و ما يمكن أن تدل عليه هذه الدلالات المقصودة من أحكام يستهدف صاحب الشرع من تشريعها غابات مصلحية مخصوصة. و قد يكون من الدوافع التي نتفهم من خلالها صنيع هؤلاء و نفسره في الوقت نفسه ما عبرعنه الأستاذ العلواني رحمه الله ” بعجلة المفتي و رغبته في الإفتاء فيما يعرض عليه من أسئلة دون تأخير تجعله يسرع إلى الدليل الجزئي، أي الآية التي يراها كافية في تمكينه من الإجابة على السؤال” .
و المقاربة الثانية مقاربة شمولية لللتعاضد الداخلي إذ يتتمثل صاحبها الشريعة في صورة البناء الذي تتعاضد مكوناته و تتساند عناصره و تترابط أعمدته. و هذا لا يتأتى إلا إذا انتظمت في ذهن صاحبه منقولات الشريعة في صورة الكلية الواحدة أو السورة الواحدة بالنسبة للقرآن الكريم كما قال أبو علي الفارسي أو كاللفظة الواحدة كما قال ابن حزم: ” لا اختلاف في شيء من القرآن و الحديث … كل ذلك كلفظة واحدة و خبر واحد موصول بعضه ببعض و مضاف بعضه إلى بعض و مبني بعضه على بعض” . لقد أجهد كثير من علماء القرآن قديما و حديثا أنفسهم في بناء ما اصطلحما على تسميته بالتعاضد الداخلي، أنجزوا ذلك تحت عناوين متعدد: تارة تحمل جهودهم عنوان الارتباط أو الاتساق بين آيات القرآن الكريم كما هو حال أبي بكر بن العربي ، و تارة ثانية تحمل هذه الجهود عنوان النظم أو الترتيب كما ذهب إلى ذلك فخر الدين الرازي .
و مهما تكن الجدوى المعرفية لهذه الجهود و مهما تكن القيمة المنهجية للعدة الموظفة في بنائها يبقى ما كتبه فقيه المقاصد في العصر القديم الإمام الشاطبي في الموافقات و في الاعتصام من النماذج الجيدة في هذه المقاربة الشمولية. ذلك أن فقيه غرناطة يتصور القرآن الكريم و بيانه المتمثل في السنة في صورة “الإنسان الصحيح السوي، فكما على الإنسان أن لا يكون إنسانا حتى يستنطق، فلا تنطق اليد وحدها، ولا بالرأس وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمي بها الإنسان كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الإنسان إلا بها” .
إن من شان استحضار مفهوم التعاضد أن يجعلنا نتصور النقل في صورة بناء بناء مقاصدي تلتحم مراتبه في الحفاظ على مقصد الدين، وتتمحور شروط بنائه في ألا تعود مكملات مراتبه على السابق منها بالإبطال. فمقاصده مراتب ثلاث : الضروريات والحاجيات والتحسينات، وبينهما علاقات يستحضرها الفقيه و المفكر عند الاستدلال. فالإخلال بمرتبة الضروريات، خاصة ضرورة حفظ الدين، يؤدي إلى الإخلال بمرتبتي الحاجيات والتحسينات. أما الإخلال بهاتين المرتبتين فيؤدي إلى الإخلال بمرتبة الضروريات، لكن لا في كل الأحوال، بل في بعضها دون البعض. وعليه تؤصل كلية الضروريات الكليات الأخرى، لأنه إذا انخرمت لم يبق للتكليف بالشريعة المنقولة وللمكلفين بها وجود دنيوي. لذا دارت مرتبة الحاجيات على مرتبة الضروريات، تتردد عليها لتكملها، ويقال مثل ذلك في مرتبة التحسينات، فإنها تكمل ما هو من مرتبة الحاجيات أو الضروريات، فهي كالفرع للأصل ومبني عليه .
= قسم التعاضد النقلي الخارجي
أعني بالتعاضد الخارجي عدم تناقض النقلل المروي عن صاحب الشرع مع طاقات المكلفين، سواء في فهم معانيها، أو في تعقل علل أحكامه، أو في العمل بأحكامها. نعم إن هذا النقل المروي عنه مستقل و لكنه في هذا المضمار معضد ب”العقل الموضوعي” الذي لا يناقض الشرع. و عليه فكما يضمن هذا الشطر الخارجي من من التعاضد النقلي تنزيه الدين عن التهافت، يضمن لأحكامه المستفادة من معانيه وعلله كمال الاتساق الذي هو من مقاصد قوله تعالى :” اليوم أكملت لكم دينكم”\ سورة المائدة جزء من الآية 4\.
تناول الأصوليون مضمون و روح التعاضد الخارجي في مباحث التكليف بما لا يطاق، والأمر بالشيء نهي عن نقيضه، والأمر بما لا يتم الواجب إلا به. و يبدو من معالجاتهم لتلك المباحث حرصهم على جريان الاستدلال الفقهي على قيمة اليسر التي حققها الفقهاء في قواعدهم من مثل الحرج مرفوع، الضرر يزال، إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق … و هكذا إذا كان في المسألة قولان فلا نأخد إلا بأيسرهما و أخفهما . تماما كما روي أنه : “ما خير النبي صلى الله عليه و سلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم” المفكر أو الفقيه المراعي للتعاضد الخارجي هو إلى رخص ابن عباس أقرب منه إلى شدائد ابن عمر: هو شديد الأخد بالرخص في أحوال الضرورة و الحاجة، شديد الاحتفاء بالمخففات المقدرة بقدرها من مرض و سفر و مشقة شديدة و عموم بلوى. الفقيه المراعي للتعاضد الخارجي لا يحكم على التصرفات بالحرام إلا على ما علم تحريمه جزما وقطعا. والحق أنه على الرغم من الأهمية المنطقية لهذا الصنف من المباحث الأصولية في ضبط التعاضد الخارجي، بل وعلى الرغم من أهمية أساسها المقاصدي، فإنها تظل ناقصة إذا لم يكشف الباحث فيها عن نوع صلة التعاضد الخارجي بمبدإ الفطرة . الفطرة التي ألاحظ مع الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله آخرين غياب التنظير لها عند معظم أهل المقاصد من الأصوليين والفقهاء.
لقد أجهد الفقيه و المفكر المغربي العلامة محمد بن الحسن الحجوي نفسه في إبراز تعاضد قطعيات الدين المنقولة القرآنية و البيانية النبوية مع العقل و قطعياته العلمية و استدل على ذلك بأدلة نقلية من واقع العقائد الإيمانية و القواعد الأصولية و الفروعية. و العقل المقصود به هنا الأحكام الضرورية التي لا تحتمل النقيض و لا يتغير النظر فيها مع طول الأزمان لأن العقلاء اختبروها اختبارا تجريبيا و امتحنوها امتحانا علميا فدلت على أنها يقينية لا شك في صحتها ككون الواحد نصف الاثنين و وجود إله حي مدبر للعالم و استحالة اجتماع النقيضين… و عليه كما انه ليس من السداد القول بأن الدين المنقول فوق العقل المنقول او غير المنقول ليس من الصواب القول بان العقل فوق الدين لأن المطلوب هو القول بتعاضدهما لا القول بان أحدهما فوق الآخر لأن الفوقية معناها كما قال: ” أنهما يتناقضان فنقدم أحدهما على الآخر فيكون فوقه بمعنى أنه يبطله، و هذا لا يتصور في الشريعة الإسلامية” .
و هكذا إن التعاضد النقلي ، انطلاقا من شطريه الداخلي و الخارجي، جهد علمي مستأنف و مستمر لا يتوقف من أجل بناء رؤية شمولية متسقة في ذهننا للنقل بحيث تتساند معانيه و دلالاته المقصودة و لا تتنافر، و بحيث تترابط غاياته المصلحية و لا تتناقض، وبحيث تنسجم أحكامه التكليفية و الوضعية و لا تتناقض. و تلك لعمري خطوة سابقة في أي فكر إسلامي أصيل يتشوف صاحبه التأسيس المتين لأنموذج معرفي إنساني. أنموذج معرفي ينطلق صاحبه من من تعاضد ما يستدل به من مقولات باعتبارها بناء واحدا و كلية واحدة متعاضدة و متفاعلة في مكوناتها و في وحداتها “المستقلة”، نعم لا شك في ذلك، و لكن لا بد في الوقت نفسه ان يكون انطلاقه التعاضدي هذا يمثابة الفرقان، و للفرقان في القرآن الكريم ” معنى جليل واسع يفرق الإنسان به بين الخير و الشر، و الحق و الباطل، و الصواب و الخطأ، فتكون لدى القارىى المتدبر قدرة أو ملكة أو حاسة تمكنه من التمييز في ذلك كله و تقييم أقواله و أفعاله و حركاته و نظراته و أفكاره و نواياه و جل تصرفاته بذلك الفرقان” .
3 العقل و التمايز الفرقاني
الفرقان تمييز، و التمييز فعل نظري لعله من أهم ما يميز معنى العقل. نعم إن الإمساك و الاستمساك معنى أساسي تنتظم في خيوطه الاستعمالات المتعددة لمادة ع. ق. ل ، و لكن الذي يهمنا من العقل باعتباره عمودا أساسيا في الفكر الإسلامي هو وظيفته المتمثلة في كونه فعلا نمارسه من خلاله وظيفة التمييز.
= العقل و مفهوم التمايز
لما كان من أهم وظائف العقل التمييز كالتمييز بين الحق و الباطل و بين الخير و الشر، فقد كان من مرادفاته في القرآن الكريم لفظ اللب. لقد مدح القرآن الكريم أولي الأباب لأنهم يستعملون عقولهم استعمالا نقديا مبنيا على الاختيار المستقل كما في قوله تعالى: ” فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الأباب” . فاسم التفضيل في الآية الكريمة : ” فيتبعون أحسنه” هو للدلالة على قوة عقولهم. قال الإمام ابن عاشور: ” أثنى عليهم بانهم أهل نقد يميزون بين الهدى و الضلال، و الحكمة و الأوهام، نظار في الأدلة الحقيقية، نقاد للأدلة السفسطائية” .
إن التمييز أحد إطلاقات العقل عند الفقهاء و الأوصوليين و معظم المتصوفة . ما كانوا ان يكونوا أولوا ألباب لو لم يكن يمتلكون الفرقان المبني على التقوى كما في قوله تعالى: “يا أيها الذين آىمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا”أي قدرة فارقة تميزون بها الحق من الباطل و الخير من الشر و الحلال من الحرام و الحسن من القبيح… و لهذا كان من أسماء القرآن الكريم الفرقان كما في قوله تعالى: ” تبارك الذي نزل الفرقان ليكون للعالمين نذيرا”\ سورة الفرقان، الآية 1\
و عليه إن ما يهمنا من العقل هو ما يكتنزه من معنى تمييزي نقدي يؤسس ما ينطوي عليه من نشاط فكري أو تدبري يمارسه المفكر أو الفقيه على المنقولات. و هكذا نقول ميز الأمر تمييزا و مازه و يميزه ميزا إذا فصله عما يختلط به. يطلق التمييز عند الفلاسفة على التميييز بين الشيئين بحسب الفصل الذي يقال على أحدهما، و يطلق التمييز عند النحاة على الاسم النكرة الذي يذكر منصوبا لتفسير نا تقدمه من غموض أو إبهام في ذات أو نسبة كقوله تعالى: ” قال رب إني وهن العظم مني و اشتعل الرأس شيبا ” \ سورة مريم، جزء من الآية 4\ ف”شيبا تمييز لغموض الاشتعال بالنسبة للرأس .
يبدو من هذه الاستعمالات اللغوية و القرآنية و النحوية و الفقهية و الصوفية و الفلسفية لمادة م . ي . ز انتظامها في معنى قدرة العقل الإنساني على التمييز. و هذه القدرة هي قدرة نقدية تتبلور في ما اصطلحنا على تسميته بالتمايز، و الذي يقتضي إعماله قدرة نقدية في الانتباه و الحركة الدائبة و التجديد . لما كان التمايز مفهوما نقديا فقد نسبناه إلى إليه في قولنا التمايز النقدي، و نعني به القدرة النقدية على التمييز و التي تتعدد في صورها و تتلون أشكالها و تتباين في مستوياتها.
= مظاهر التمايز
يظهر مفهوم التمايز في تجليات متعددة:
من ذلك قدرة التمييز بين الخير و الشر و النافع و الضار. و في هذا الإطار نشير إلى استعمال الفقهاء لفظة التمييز و يعنون بها مستوى يبلغه الإنسان يصبح من خلاله قادرا على تمييز النافع من الضار و تمييز الشر من الخير. يبدأ هذا المستوى من سن السابعة و يستمر إلى البلوغ و فيه تثبت للميز أهلية أداء ناقصة فتصح منه الصلاة و الصوم و يثاب عليهما كما تصح منه التصرفات المالية مثل قبول الهبة و جواز البيع و الشراء موقوفا ذلك على إجازة الوصي عليه، إلا أنه لا يصح منه التصرف الذي ينال من حقوقه كالتبرع بشيء من أمواله. كما يرد التمييز عند الفقهاء في أبواب عديدة: منها باب إمامة الطفل المميز للصلاة إذ وقع فيها الاختلاف بين الفقهاء، و منها باب أداء الطفل المميز للشهادات و قد اختلفوا أيضا في ذلك .
و من ذلك التمييز في معارفنا بين ما هو منقول و بين ما هو غير منقول. فففي علوم العقائد و الأخلاق و التشريعات نلاحظ أن النقل المتعاضد و المتسق متبوع أما العقل فتابع له. فعلى سبيل المثال إن العقل في المسائل الشرعية الاعتقادية و الأخلاقية و التشريعية تابع كما سبق أن بين الإمام الشاطبي رحمه الله : ” إذا تعاضد العقل و النقل على المسائل الشرعية فبشرط ان يسبق النقل فلا يسرق العقل في المسائل الشرعية إلا بقدر ما يسرحه النقل” . أما في العلوم الدقيقة فإن العقل غير محجور عليه، أعني بالعقل هنا العقل الموضوعي و النزيه و العقل النقدي و لله ذر فقيه المقاصد في العصر الحديث الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله لأنه اعتبر التفكير في التمايز هو الموضوع الأساسي لأي ممارسة علمية لأن به يكون “تمييز الخبيث من الطيب فهو عند ذلك التمييز تفكير في التمايز ” . و على الرغم من هذا التقرير فمن الصعب القول بالتمحض النقلي المطلق للحجة التي تحتج بها فتكون حجة نقلية محضة و هو ما سبق أن أوضحه البيضاوي في قوله: ” إن الحجة لا تكون نقلية محضة و لا تتصور أبدا، إذ لا بد لها من صورة و مادة. فصورتها عقلية لا مدخل فيها للنقل فيها، و ما دتها يتوقف صدقها على العقل فالنقلي المحض محال” .
و من ذلك التمييز في العقائد بين ما هو حق بحسب يتسق و مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، و و بين ما هو باطل بتنافر مع مقتضيات هذه الشهادةهذه ، و التمييز في الأفكار بين ما هو صواب بحسب نظرنا و بين ما هو خطأ، و التمييز في أفعالنا بين ما هو نافع بحسب تقديرنا و بين ما هو ضار. و لهذا لا ينبغي أن نقف بعقولنا عند مستوى الأشكال و المظاهر و الرسوم، لا ينبفي أن نجمد الشكليات و الصور و المباني على الرغم مما يمكن أن يكون لها من أهمية و من اعتبار. فهي لوحدها لا تكفي مهما كانت مثيرة و و جذابة و براقة، و من ثم لا بد من الارتقاء إلى منازل تمييزها عن ما يمكن أن تكتنزه من معاني سامية و ما تنطوي عليه من جواهر ثمينة و ما يمكن أن تتضمنه من مقاصد سامية. فكثرة ممارست التمييز من شأنه أن يكون عند صاحبه ميزانا موضوعيا يزن من خلاله ما يمكن أن يتلقاه من معارف . لا يقوم هذا الميزان فحسب على اعتبار البريق من صورها و المثير من أشكالها. لا يقوم هذا الميزان على الكثرة و لو أعجبتنا مظاهرها البديعة و صورها الخلابة، و إنما يقوم على ما لها من صفات و معاني و مقاصد . صفات يتميز بها الناس و تتميز بها أقوالهم و أفكارهم و أفعالهم. و لهذا نفى الله تعالى ان يكون منشا المساواة بكل ما تعنيه من مماثلة و مقاربة و مشابهة راجعا إلى الكثرة او القلة كما في قوله تعالى: ” : ” قل لا يستوي الخبيث و الطيب و لو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الأباب لعلكم تفلحون”\ سورة المائدة، الآية 102\.
و عليه المطلوب دائما هو النظر في “عوالم الأشياء و الأفكار و الأشخاص” بناء على ما تكتنزه من صفات و من معاني فلا يبقى نظرنا مشدودا فحسب إلى ما تظهر به و لا يبقى فكرنا مقيدا بما ترتسم به من أشكال براقة و من مباني خلابة و من صور خداعة. قال الإمام ابن عاشور رحمه في سياق قوله تعالى: ” وتفريع قوله : فاتقوا الله يا أولي الألباب على ذلك مؤذن بأن الله يريد منا إعمال النظر في تمييز الخبيث من الطيب ، والبحث عن الحقائق ، وعدم الاغترار بالمظاهر الخلابة الكاذبة ، فإن الأمر بالتقوى يستلزم الأمر بالنظر في تمييز الأفعال حتى يعرف ما هو تقوى دون غيره …فخاطب الناس بصفة ليومئ إلى أن خلق العقول فيهم يمكنهم من التمييز بين الخبيث والطيب لاتباع الطيب ونبذ الخبيث . ومن أهم ما يظهر فيه امتثال هذا الأمر النظر في دلائل صدق دعوى الرسول وأن لا يحتاج في ذلك إلى تطلب الآيات والخوارق كحال الذين حكى الله عنهم وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الآية ، وأن يميز بين حال الرسول وحال السحرة والكهان وإن كان عددهم كثيرا ” .
من ذلك التمييز بين المراتب و بين المتغيرات ، كما في قوله تعالى :” ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب” سورة آل عمران الآية 179.وقوله تعالى أيضا : ” ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون” سورة الأنفــال، الآية 37 . المطلوب، كما يبدو من هاتين الآيتين، أن يميز المؤمنون في مراتب الناس وفي أحوالهم، وفي أوضاعهم ليكون المؤمنون على بصيرة من أمورهم. نفهم من هذا المطلوب القرآني ضرورة التمييز الواعي في المتغيرات التي يحبل بها الواقع الوجودي للمسلمين. فبقدر ما يكون الوعي العميق بالتغاير في الوجود المجتمعي تتقوى قدرات الفقيه على تطبيق الأحكام وتنزيلها على الحوادث المستجدة. و إذا علمنا أنه لا وجود لإدراك موضوعي مستقل عن موضوع الإدراك، ولا وجود أيضا لواقع موضوعي مستقل استقلالا تاما عن الذهـن الذي يدركه. أقول إذا علمنا بانتفاء هذين الأمرين تبين أنه لا مشروعية لأي استنباط فقهي ولا لأي فهم فكري دون الوعي بأشكال المغايرة في الوجود الدنيوي، من مقابلة ومفارقة ومخالفة…
يكفي أن نلمح في هذا الصدد إلى أن الإمام الشاطبي ميز، انطلاقا من هذا الوعي بالتغاير، في الفعل التكليفي بين تصوره تصورا تجريديا و تنزيله في الواقع لأن هذا التمييز خطوة سابقة على الجمع الدقيق بين التجريد والتنزيل في تصور الفعل التكليفي الذي يتوجه عليه قصد الشارع من خطابه و أحكامه.
يفرق فقيه غرناطة في الفعل التكليفي في هدا المظهر بين تصورين أساسيين: أحدهما تصور تجريدي يتعقل من خلاله المجتهد تعقلا نظريا الفعل التكليفي، اقتضاء أو تخييرا أو وضعا. الثاني يتعقل هذا الفعل كما تحدد و تكيفه ظروف تنزيله في الواقع، فلا يدرج حكم فعل من الأفعال في مرتبة من مراتب الأحكام الشرعية، إلا بعد الوعي بما يطرأ على الفهم النظري و المجرد، إذ مكونات هذا الأخير الذهنية، بحكم طبيعتها عامة، وكلية، لا بد من تخصيصها في الواقع، “ولا تتخصص حتى تتشخص، ولا تتشخص حتى تمتاز من سواها من المتشخصات بأمور أخر” .و عليه لا يصح للفقيه إذ سئل عن نازلة من النوازل المستجدة الإجابة فحسب وفق ما ينبغي أن يكون، بل يجب عليه أيضا الإجابة وفق ما هو كائن. وطريق ذلك التبصر بكيفية حصول النازلة في الواقع المتغير.
4 المعارف الكونية بين التعاضد النقلي و التمايز الفرقاني
حاولنا أن نبرز الكيفية التي تنتج من خلالها المعارف و الأفكار في بنية هذا الذي نسميه بالفكر الإسلامي. بينا ذلك من خلال مفهومين أحدما سميناه بالتعاضد النقلي و الثاني سميناه بالتمايز النقدي . و نحن لا نعتبرهما من قبيل المكاسب المحنطة و لا المنجزات المقدسة لأننا إذا تبينا أن هذا المفهوم، أو ذاك، غير صالح وغير متطابق مع واقع الفكر الإسلامي فإن المطلوب دائما وأبدا، هو البحث، وإبداع مفهوم آخر، وليس حصر واقع موضوع الفكر الإسلامي في هذا المفهوم أو ذاك المفهوم.
لا نريد أن يكون حديثنا في هذه المحاضرة المتواضعة مجرد حديث نظري بارد، و إنما نتشوف ان يكون حديثا عمليا تطبيقيا. و ليكن شاهدنا التطبيقي مسألة تأويل آيات القرآن الكريم في ضوء العلوم الكونية. نطرح هذه المسألة و نحن نعلم سلفا أن ولع فريق من علماء القرآن و خاصة المفسرين منهم بهذا الطريق لم يكن محل إجماع بينهم .
= الشاطبي و القول بمنع التأويل القرآني في ضوء المعارف الكونية
حاول الإمام الشاطبي أن يسد هذا الباب لأن صاحب الشرع راعى في فهم القرآن الكريم و في بيانه المتمثل في السنة النبوية نسبة ما الأمة العربية عليه من الجهل بالعلوم القديمة. يبدو ان هذا الرأي الشاطبي مبني على التمييز الدقيق في الكسب العلمي للإنسانية بين ما اندرج منه ضمن المعارف العلمية العربية المقارنة لنزول القرآن الكريم و بين ما اندرج ضمن المعارف العلمية التي لم يعرفها الذين نزل عليهم بلغتهم و بمعهودهم الحضاري. و عليه، و انطلاقا من هذا التمييز، لا يمكن فهم معاني الشريعة قرآنا و سنة فهما سليما، و لا يمكن تفهم مقاصدهما تفهما موضوعيا إذا غيب المفسر الملابسات المجتمعية العلمية و غير العلمية للحضارة العربية، التي قارنت نزول الشريعة وورودها. و قد أسس هذا التمييز موقف الشاطبي الرافض لتفسير القرآن الكريم في ضوء ما تطرحه المعارف العلمية المستجدة. فهذا مسلك بحسب تقديره، غير سديد لأنه يجب حمل معانيه على ما هو متعارف عليه بين العرب، و من ثم يجب ان يقتصر في تفسير القرآن، عمدة الشريعة الأول، على المعهود العلمي العربي المقارن لنزول القرآن الكريم و ورود الحديث النبوي و أن لا يحاد عن هذا المعهود.
لم يسلم كثير من العلماء هذا المسلك الشاطبي ، و من أبرز المعترضين فقيه المقاصد في العصر الحديث الإمام محمد الطاهر بن عاشور، و من وجوه الاعتراض التي قدمها رحمه الله أنه لا يمنع استواء المخاطبين في تعقل المعاني الأصلية من استنباط معاني إضافية، راجعة لخدمة المقاصد القرآنية ولبيان سعة العلوم الإسلامية، و منها و منها أنه يلزم عن عموم عموم الخطاب القرآني التمييز بين ما تتناوله الأفهام في عصر النبوة و الرسالة و بين ما يمكن أن تحصله أفهاء العلماء في في الأعصار اللاحقة. و منها تأكيد كثير من الأحاديث و النقول المروية عن السلف عدم انقضاء عجائب القرآن الكريم. و منها أن من مقتضيات الإعجاز القرآني تضمن القرآن الكريم من المعاني المتعددة، مع إعجاز لفظه، ما لا تستطيع أن تفي به الأسفار الكثيرة. و إذا تقرر إبطال هذه الوجوه لمعنى الأمية عند الشاطبي، فمن غير المنطقي التسليم بما تفرع عليه من قواعد و مواقف، و منها موقفه من التفسير العلمي كما في قوله رحمه “إنما يصح في مسلك الفهم والافهام ما يكون عاما لجميع العرب. ” .
يبدو من هذه الاعتراضات اتساقها مع ما يقتضيه عموم إعجاز القرآن لأنه الدليل على صدق النبوة و الرسالة التي بلغها إلينا محمد عليه الصلاة و السلام. و لما كان هذا الدليل من قبيل الأقوال لا الأفعال التي عجز البشر عن الإتيان بمثلها من جهتي الألفاظ و المعاني فقد بقي هذا الباب مفتوحا يلجه كل مؤمن بتعقل هذا الدليل و يتدبره و بتأمله و ببحثه و بنظره و بكل تمييزاته. نقول هذا و نحن ننعلم سلفا بمخاطر هذا النوع من التأويل للقرآن الكريم. نستحضر في هذا الباب ما قام به علماء المذهب الإسماعيلي لأنهم أولوا آيات القرىن الكريم بالشكل الذي يزكي ما كان سائدا وقتها من معطيات “علمية” ثم قلبوا الأمر فنصوا على أن مذهبهم هو وحده الصحيح لأنه “يشهد” له القرآن و “العلم”. و قد رد عليهم أهل السنة بردود فيها من إثارة الشكوك و التنبيه على المطاعن الشيء الكثير، نعم لا شك في ذلك، و لكنها لم تحسم الموقف. و ظل الناس إلى يومنا هذا يرتادون باب النظر إلى القرآن الكريم في ضوء ما يستجد من معارف كونية. و الحق أنه لا تخفى أهمية هذا المنزع من الناحية التربوية و الدعوية في الإسلام، لأن أكثر سكان الأرض الذين لا يدينون بالإسلام لا يعترفون بنبوة و برسالة محمد عليه الصلاة و السلام، و متى استطاع الباحث أن يقدم الأدلة اتي بها يقنع من الناحيتين العقلية و الإيمانية فقد يفحم بها فيحصل عند فريق منهم الاطمئنان بأن القرآن الكريم وحي إلهي.
و الحاصل أنه مهما يكن موقف الباحث من رأي الشاطبي و من قيمة الاعتراضات التي وجت إليه فإن تأويل الآيات القرآنية في ضوء ما يستجد من المعارف الكونية باب سيظل دائما مفتوحا لاختلاف الأنظار بحسب تطور المعارف الكونية . إننا نلمح إلى الاختلاف في فهم الآيات الكونية و نحن نستحضر ما يقرره علماء الفضاء المحدثون و المعاصرون مثلا في شأن أمر كروية الأرض في زماننا الراهن . بل و نعرض هذا الاختلاف و نحن نستحضر في المقام الأول المنحى التمايزي للعمل العلمي و الذي يجعل من مسلسل بناء العالم لأفكاره و تشكيله لقواعده و لقوانيينه و لنظرياته مسلسلا مستأنفا لا تكتمل حلقاته في التاريخ… كل ما يمكن أن يفضي إليه من نتائج إنما هي نتائج نسبية لا تعرف القطع .
إن القطع في العمل إنما هو بالنسبة إلى تاريخ محدد أو عصر محدد سرعان ما تعاكسه السيرورة العلمية المتطورة و المتقدمة بطبيعتها …منشأ ذلك قيام العلم ، أي علم على مبادىء واضحة و تقنيات بحثية سرعان ما يبلورها العالم في مفاهيم حاكمة و مفسرة قد تفضي إلى كشف علمي جديد أو إعادة النظر في الاكتشافات السابقة التي كانت “قطعية و مسلم بها. إن العمل العلمي لا يقوم على وجهة النظر التي تقول : هل يحتاج النهار إلى دليل لأن الشغل الشاغل لأصحابه هو إقامة الدليل ، باستمرار: كما قال الأستاذ الجابري رحمه الله على ان “النهار” هو بالفعل “نهار” .
= القول بتأويل القرآن في ضوء المعارف الكونية بين التعاضد و التمايز
لا نجد في منقولات الشريعة آية قرآنية تدل دلالة قطعية على رأي علمي في هذه المسألة أو تلك من المسائل التي تكون موضوعا للباحث في العلوم الكونية.فعلى سبيل المثال لا نجد في القرآن الكريم آية واضحة الدلالة تدل دلالة قطعية على على انبساط الأرض و تنفي كرويتها نفيا قاطعا. كما لا نجد في الوقت نفسه آية قرآنية واضحة الدلالة تدل دلالة قطعية على كروية الأرض و تنفي انبساطها أو امتدادها. يؤدي بنا استحضار التعاضد النقلي إلى القول بان ما نظفر به في هذا المضمار آيات قرآنية كما تحتمل الدلالة على الانبساط تحتمل الدلالة على الكروية. و كل ذلك يحتاج في فهمه و تعقله و تبينه إلى الاغتراف من بحار المعارف العلمية و العكوف على النهل من مواردها و مشاربها و التمكن من مفاهيمها.
لقد دعا القرآن الكريم الناس إلى النظر و التفكر في الآيات و منها آيات الكون و انبأ بانهم سيعرفونها كما في قوله تعالى: ” و قل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها و ما ربك بغافل عما تعملون” \ سورة النمل، الآية 93\ و قوله : ” سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد” \ سورة فصلت، الآية 53\ و قوله تعالى: ” إن في خلق السمواوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الأباب الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السمواوات و الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك” \ سورة آل عمران، الآيتان 190-191\. بقدر ما يقر المرء و يقدر هذه الدعوة القرآنية إلى النظر و التفكر فلا يسعه في الوقت نفسه إلا التنبيه على التييز الدقيق بين النظر و التفكر اللذين يمارسهما الإنسان العادي بوسائله الذاتية التي فطر عليها كعينه المجردة التي يبصر بها و أذنيه اللتين يسمع بهما و بين هذا النظر أو التفكر إذا مارسهما بطرائق الاكتشاق و وسائل البحث الدقيق في المختبرات و المعامل و غيرها من ميادين البحث العلمي المتخصص من أهله.
الكل قد يتفكر، و لكن تفكر أهل الاهتصاص أدق في اكتشاف مجاهيل الأرض و السماوات، و في معرفة اعماق البحار و المحيطات و الأنهار و في فقه بواطن و أسرار الكائنات. و هكذا إن ما اهتم به القرآن الكريم هو أنه لفت نظر الناس عامة، و منهم علماء الكون إلى الأرض كيف سطحت و إلى الجبال كيف نصبت و إلى الإبل كيف خلقت، كما لفت النظر إلى ان الليل و النهار مكوران و أن الله تعالى يكور احدهما على الاخر، و لفت النظر إلى كثير من الأمور التي هي من هذا القبيل و من غير هذا القبيل. ننظر إليها ابتداء من العين المجردة فنراها سواء كنا واقفين أو راكبين لدوابنا و سياراتها و مركباتنا أو كنا متجهين شمالا أو جنوبا او شرقا. ننظر إليها بأعيننا المجردة، و قد نعتبر و قد لا نعتبر، نعم لا شك في ذلك، لكن يجب ان كون على بال في الوقت نفسه بأن نظرنا إليها بأعيينا المجردة لا يماثل أنظار العلماء المتخصصين فيها لأنهم متمايزون في هذا المضمار: فقد يفتح على هذا بشيء ولم يفتح به على الآخر، وقد يرتفع سقف المعارف في عصر هذا العالم و قد ينخفض عند ذلك الآخر، و قد ينتفع هذا بما علمه من النواحي الاعتقادية و غير الاعتقادية و قد لا ينتفع آخر بأي ناحية من النواحي. و عندما يصلون إلى العلم بمسألة من المسائل الكونية التي يكشف العلم في مرحلة من مراحل تاريخه عنها فقد يجد البعض ذلك الكشف مناسبة أخرى للاحتجاج به فيدخله في باب هذا الذي يسمى بتأويل القرىن في ضوء المعارف الكونية .
وعلى كل حال إن الآيات القرآنية هي من كتاب الله للناس كافة، و منهم المنشغلون بالمعارف الكونية كلهم كما يأخذ منه على قدر ما عنده من قدرات و أطر معرفية انتهى إليها سقف معارفه. الكل، كما قال بحق الأستاذ عبد الله دراز رحمه الله: ” يأخذ على قدر استعداده وحاجته، وإلا لاستوى العرب أنفسهم في الفهم للكتاب، والأمر ليس كذلك، ألا ترى إلى قول علي: إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب الله” .
و على كل حال ان تعاضد الآيات القرآنية في مضمار المعارف و العلوم الكونية ليس فحسب تعاضدها الداخلي، و إنما تعاضدها الخارجي أيضا، يفضي بنا إلى القول بأنه ليس في القرآن ما يدل دلالة قطعية على مسائلها لأنها مسائل تتفاوت فيها الأنظار و تتغاير فيها الأفكار حسب الأعصار و حسب قابلية العلم ل”لزيادة و النقصان. ما يسند نظرنا هذا أن المقصد الأصلي للنقل ممثلا في القرآن الكريم و بيانه النبوي هو أكبر و اعمق و أشرف من الحديث التفصيلي عن القواعد العلمية و عن نتائجها بالنسبة لهذا العلم الكوني او ذاك. … كل ما يمكن ان يرد من معلومات طبية و حكمية و فلكية و غيرها إنما يكون ذلك بحسب القصد التبعي لا الأصلي.
يتأسس القول بالتعاضد النقلي مع القطعيات العلمية و العقلية على التسليم سلفا بأن القرآن الكريم و بيانه النبوي المنقول عنه عليه الصلاة و السلام هي منقولات دينية غرضها التوجيه الاعتقادي و التهذيب الأخلاقي و التشريع للبشر حتى ينظموا علاقاتهم بالله سبحانه و تعالى و علاقاتهم مع انفسهم و علاقات بعضهم ببعض. لكن و بجانب هذا القول بالتعاضد النقلي لا يمكن الغفلة عن التمايز الفرقاني الذي يجعلنا لا نسلم إلا بالنادر او القليل من قطعيات النتائج العلمية. فالعلم ليس مجرد إدراكات، أو ملكات أو تصورات، أو تصديقات جازمة، ولا هو فحسب قضايا كلية مبرهن عليها، أو استدلالات تتفاوت مداركها ونتائجها. ليس العلم مجرد تلك المعاني أو هذه التعريفات بل هو في المقام الأول قدرة منهجية يستطيع الباحث من خلالها أن يشتق من موضوعه نسقا من المفاهيم يختبر الباحث دائما نجاعتها في فهم الموضوع ومعالجة قضاياه وإشكالاته. و الاختبار المستانف للمفاهيم العلمية هو الدرس الأساسي من أي ممارسة علمية.
ويعجبني هنا أن أستحضر نصين ثمينين لعالمين مغربيين اجتمع عندهما من مقادير التعاضد النقالي و التمايز النقدي ما تفرق عند غيرهما:
أولهما العلامة الحجوي في قوله رحمه الله: ” نجد القرآن في المسائل التي تتغير فيها الأنظار و الأفكار قابلا لكل الأفكار المعقولة لا يصدم واحدا منها، حيث القصد الأول منه هداية الخلق و تامين شريعة عامة و أبدية. أما استفادة بقية العلوم فتبع. و في نحو هذا قال النبي صلى الله عليه و سلم: ” أنتم أعلم بدنياكم” .
و الثاني العلامة الأستاذ علال الفاسي في قوله: ” وقد رفع الإسلام قيمة العقل وحث القرآن على النظر والتبصر والإحتكام إلى الفكر الصحيح والعقل الرجيح في عشرات الآيات، وجعله رسول الإسلام معجزته الكبرى ومناط دعوته، وهذا ما يجعلنا نؤمن بالعقل من غير تحفظ، ونعتد به في تفكيرنا الديني الذي يجب أن يسير معها جنبا لجنب في كامل الإتفاق وغاية الإنسجام…. فالدين في نظر الإسلام لا يمكن إلاّ أن يكون عونا للعلم، وكيف يمكن أن يعتبر منافيا للعقيدة أو معاكسا لها ورسوله يقول:”فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم” …. ولذلك ففكرنا الديني لا يمكن أن يكون إلا مؤيدا لاستقلال منطقة العلم، بشرط أن لا تحاول النفاذ إلى ماليس لها من الميادين التي لا تخضع للتجربة ولا تقبل التحليل الكيمائي.” .
خلاصات
و الحاصل من مقاربتنا للفكر الإسلامي في ضوء مفهومي التعاضد و التمايز جملة من الخلاصات:
_ 1 نعني بهذا المفهوم المركب “الفكر الإسلامي” كل النتاج العلمي الذي أنتجه الفكر البشري الذي آمن أصحابه بالإسلام و تفقهوا نسقه وتدبروا معنايه و أحكامه ز مقاصده و قيمه. و إن ما انتجه هذا الفكر متعدد بحسب النواحي الاعتقادية و الفقهية و الأصولية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الأدبية و المقاصدية. فكلها نتاجات ولدها عقل المسلم و عكست نوعية تفاعله مع الإسلام طول تاريخ المسلمين و إلى يوم الناس هذا. و إذا تاملنا قليلا طبيعة موضوع هذا النتاج ب”الفكر الإسلامي” نلاحظ أنه متبلور في إطارين مفصليين اولهما النقل و الثاني العقل.
_ 2 و المفروض ان يكون النقل ممثلا في القرآن الكريم و في بيانه النبوي متعاضدا يعضد بعضه بعضا و يسند بعضه بعضا و يبين بعضه بعضا لأن من مظاهر كمال الدين أن منقوله الصحيح متعاضد في نظمه و في نسقيته و في وحدته البنائية.
_ 3 و عليه إن مقصودنا بالتعاضد النقلي هو أن يتصف النقل في فكرنا بوصف الاتساق فتتسق الآيات القرآنية بعضها مع بعض و تتسق السنن النبوية بعضها مع بعض و تتسق الآيات القرآنية مع السنن النبوية، و تتسق الآيات و السنن مع قدرات المخاطبين بها تعقلا و عملا. لا بد أن ينتظم هذا الاتساق في ذهن العالم المسلم و و في فكره و لا زال كذلك حتى يتصور الشريعة على نظام واحد غير متخالف مع ولا مختلف .
_4 نعني بالتعاضد الداخلي اتساق آيات القرآن و السن النبوية بعضها مع بعض.و قد قورب بمقاربتين الأولى تجزيئية و الثانية شمولية . و نعني بالتعاضد الخارجي اتساق لنقل المروي عن صاحب الشرع مع طاقات المكلفين، سواء في فهم معانيه، أو في العمل بأحكامه أو في تعقل عللها .
_ 5 هكذا إن التعاضد النقلي ، انطلاقا من شطريه الداخلي و الخارجي، جهد علمي مستأنف و مستمر لا يتوقف من أجل بناء رؤية شمولية للنقل بحيث تتساند معانيه و لا تتنافر و تترابط مقاصده و لا تتناقض، و تتسق أحكامه و لا تتناقض. و تلك لعمري خطوة سابقة في أي فكر إسلامي أصيل تؤسس للنموذج المعرفي في الإسلام. فالذي يقرأ منقولاته، ممثلة في القرآن الكريم و في بيانه من السنة و السيرة النبوي، فالذي يقرأ هذه المنقولات انطلاقا من تعاضدها باعتبارها بناء واحدا و كلية واحدة متعاضدة الأجزاء فإنه يكون له يمثابة الفرقان الذي يفرق ببه و يميز به بين الخير و الشر، و الحق و الباطل، و الصواب و الخطأ، في الأقوال و الأفعال و الحركات و النظرات و الأفكار و التصرفات و النوايا و المقاصد…
_ 6 أهم ما في العقل أنه نشاط أو فعل نظري تتمثل وظيفته وظيفة في التمييز: التمييز بين الحق و الباطل و بين الخير و الشر. و نعني بالتمايز النقدي القدرة العلمية على التمييز و التي تتعدد في صورها و تتلون أشكالها و تتباين في مستوياتها.
_ 7 موقف الشاطبي من عدم مشروعية تاويل القرآن في ضوء العلوم الكونية مبني على تمييزه الدقيق في الكسب العلمي للإنسانية بين ما اندرج منه ضمن المعارف العلمية العربية المقارنة لنزول القرآن الكريم و بين ما اندرج ضمن المعارف العلمية التي لم يعرفها الذين نزل عليهم بلغتهم و بمعهودهم الحضاري. و عليه، و انطلاقا من هذا التمييز، لا يمكن فهم المعاني التي يقصدها صاحب الشرع و لا يمكن تفهم مقاصدها تفهما موضوعيا إذا غيب المفسر الملابسات المجتمعية العلمية و غير العلمية للحضارة العربية، التي قارنت نزول الشريعة وورودها. و قد أسس الشاطبي على هذا التمييز موقفه الرافض في تفسير القرآن الكريم في ضوء ما تطرحه المعارف العلمية الستجدة.
_ 8 الرد على الشاطبي في موقفه الرافض لتاويل القرآن بناء على المعارف الكونية مبني على التمييز بين معانيه الأصلية التي يستوي في تعقلها المخاطبون به و بين معانيه الإضافية التي يتفاوت في تعقلها العلماء بحسب الأعضار.
_9 يقتضي النظر في تأويلات المفسرين “العلمية” للقرآن الكريم الوعي الدقيق بالمنحى التمايزي للعمل العلمي و الذي يجعل من مسلسل بناء العالم لأفكاره و تشكيله لقواعده و لقوانيينه و لنظرياته مسلسلا مستأنفا لا تكتمل حلقاته في التاريخ… كل ما يمكن أن يفضي إليه من نتائج إنما هي نتائج نسبية لا تعرف القطع . القطع فيها إنما هو بالنسبة إلى تاريخ محدد أو عصر محدد سرعان ما تعاكسه السيرورة العلمية المتطورة و المتقدمة بطبيعتها …منشأ ذلك قيام العلم ، أي علم على مبادىء واضحة و تقنيات بحثية سرعان ما يبلورها العالم في مفاهيم حاكمة و مفسرة قد تفضي إلى كشف علمي جديد أو إعادة النظر في الاكتشافات السابقة التي كانت “قطعية و مسلم بها.
_ 10 ان تعاضد الآيات القرآنية في مضمار التفسير العلمي للقرآن، يفضي بنا إلى القول بأنه ليس فيه ما يدل دلالة قطعية على أي معرفة علمية قطعية لأن المعرفة العلمية الكونية من المعارف المتمايزة التي تفاوت فيها فيها الأنظار و تتغاير فيها الأفكار.
_11 انبناء بالتعاضد النقلي مع القطعيات العلمية و العقلية على التسليم سلفا بان القرآن الكريم و بيانه النبوي المنقول عنه عليه الصلاة و السلام هي منقولات دينية غرضها التوجيه الاعتقادي و التهذيب الأخلاقي و التشريع للبشر ما ينظم علاقاتهم بالله سبحانه و تعالى و علاقاتهم مع انفسهم و علاقات بعضهم ببعض.
_ 12 يفضي القول بالتمايز الفرقاني إلى الإقرار بندرة و قلة القطعيات العلمية لأن المفاهيم العلمية بطبيعتها قابلة للزيادة و النقصان بحسب ما تمكننا به من فهم الموضوع العلمي ومعالجة قضاياه وإشكالاته.
مقاله رائعه بنهج محدث شيق.
وربط القرآن بعضه ببعض ومعه السنة ومعه العقل.
والربط الداخلي ثم الخارجي
فيها تقريب وتاصيل للصورة اكثر.
جزاه الله خيرا