العنوان: دور المرأة المسلمة في عالم متشابك متغيِّر: الدكتورة هبة رؤوف عزّت كنموذج قيادي فكري – د. فلّة لحمر -الجزائر-
العنوان: دور المرأة المسلمة في عالم متشابك متغيِّر: الدكتورة هبة رؤوف عزّت كنموذج قيادي فكري
بقلم: د. فلّة لحمر
المقدمة
الناشطة والمنظِّرة السياسية والناقدة الفكرية الدكتورة هبة رؤوف عزت، (مواليد 1965)، من أكثر النساء المسلمات تأثيراً في الفكر السياسي الإسلامي خلال العقدين الماضيين. تمتد أبحاثها الإبداعية والأصلية عبر مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية حيث نشرت العديد من البحوث باللغتين العربية والإنجليزية. تؤكد عزت (2013أ) على استقلاليتها عن أي انتماء سياسي محدد، كما تنفي التقليد الأعمى لأيّ مدرسة مذهبية أو فكرية. دراسيا، حصلت عزّت على درجة البكالوريوس (1987)، والماجستير (1992)، والدكتوراه (2007) من جامعة القاهرة، مصر.
بشكل عام، تتناول أعمالها الفكرية السؤال المركزي: ماذا يعني أن تكون إنسانًا من منظور إسلامي؟
من الناحية المهنية تعمل الدكتورة كأستاذة مساعدة في النظرية السياسية بمعهد تحالف الحضارات (ACI)، بجامعة ابن خلدون (IHU) في إسطنبول، تركيا. عملت قبل ذلك في مؤسسات وسياقات أكاديمية مختلفة؛ حيث درّست النظرية السياسية في جامعة القاهرة لمدة ما يقارب ثلاثين سنة، كما عملت كأستاذة مساعدة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة (2006-2013).كان لها تعاونات علمية مع مركز دراسات الديمقراطية، جامعة وستمنستر، لندن؛ ومركز أكسفورد للدراسات الإسلامية؛ ومركز دراسات الشرق الأوسط، جامعة كاليفورنيا، بيركلي؛ ومركز الأمير الوليد بن طلال للتفاهم الإسلامي المسيحي (ACMCU). أمضت عامين (2014-2015) في وحدة المجتمع المدني والأمن الإنساني في مدرسة لندن للاقتصاد (LSE) كباحثة زائرة قبل أن تنتقل إلى إسطنبول – حيث تقيم حاليًا – في عام 2016.
بالإضافة إلى نشاطها الفكري والمهني، فإن عزت مربيّة نشطة على مستوى القاعدة الشعبية أيضا، حيث عملت داخل المساجد وعبر مختلف المنصات الإعلامية. فمثلا، بحلول فبراير 2022، حصلت على 1.1 مليون متابع على فيسبوك و687.9 ألف متابع على تويتر، بالإضافة إلى العديد من المحاضرات المسجلة على قنوات مختلفة باليوتيوب، كما كانت من الأعضاء المؤسسين لموقع إسلام أونلاين والفاعلين في مسيرته. وفي هذا السياق، يصعب التتبع الدقيق لحياة وأفكار قائدة عميقة الفكرة لا تزال نشطة ومنتجة ومتحركة في مساحات عديدة.
يسعى هذا المقال إلى توضيح بعض الإسهامات الفكرية للدكتورة هبة رؤوف عزّت كنموذج تربوي متنقل بين الشرق والغرب. تحديدا، يركز المقال على تحليلها للفضاءات والأدوار التي تلعبها المرأة المسلمة داخل الأسرة وفي المجتمع. وأخيرًا، يختتم بأهم ما يميز مسيرة الدكتورة هبة رؤوف عزت.
العطاء الفكري
من الناحية الأكاديمية، تشمل كتاباتها البحثية وتدريسها مجموعة واسعة من الموضوعات، بما في ذلك الفكر السياسي الغربي الكلاسيكي والحديث، النظرية السياسية الإسلامية، النساء والسياسة، المجتمع المدني العالمي، السياسة الحضرية، التمدن والمواطنة، وسياسة الشرق الأوسط. في هذا السياق، عملت عزّت كمستشارة علمية في “سلسلة الفقه الاستراتيجي” التي تهدف إلى جسر الفجوة بين أسس المعرفة الإسلامية والوعي الحضاري الحديث، مع تقديم رؤى نقدية عند الحاجة. تسعى هذه السلسلة إلى طرح رؤى مستقبلية منهجية لتحقيق نهضة تواكب التحديات وتستفيد من الفرص في السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة.
منذ عام 2015، أشرفت الدكتورة هبة رؤوف عزت على الترجمة الكاملة إلى العربية لسلسلة “الحداثة السائلة” لمؤلفها زيجمونت باومان. كما ترجمت كتاب ضياء الدين سردار “مكة: المدينة المقدسة” إلى العربية. من أحدث منشوراتها ورقة بحثية بعنوان “حركة حقوق الإنسان والإسلاميين: مسارات التقارب والتباعد” مع مبادرة الإصلاح العربي/باريس، وفصل بحثي بعنوان “إعادة تصور مصر: حالة الحرب” في كتاب مشترك بعنوان “الفكر المعاصر في الشرق الأوسط” (2021). تركز أبحاثها الحالية على إعادة تشكيل المساحات في التخطيط الحضري والسياسة الحضرية المصرية، بالإضافة إلى دراسة صعود القومية المصرية المتطرفة في الآونة الأخيرة.
من الناحية الفكرية، تركت مدارساتها مع المفكر الإسلامي عبد الوهاب المسيري (1938-2008) أثرا كبيرا على بدايات مسارها الفكري. كما كان لابن خلدون (2005) تأثير كبير على نهج عزت في فحص الظواهر الاجتماعية وفلسفة التاريخ، حيث استلهمت من كتاب كارل شميت (2003) “الناموس الأرضي” وقارنته بأعمال ابن خلدون. خلال ذلك، أعادت عزت قراءة مقدمة ابن خلدون بتوسع يتجاوز مفهوم العصبية والروابط الاجتماعية في المجتمعات القبلية التي تحفز ممارسة السلطة، والتوسع الإقليمي، وصعود السلالات؛ وركزت على الدور الحاسم الذي يلعبه الترتيب المكاني للمجتمع في هذه الرؤية الخلدونية. حاولت بذلك استكشاف مفهوم النظام وتكويناته من منظور مقدمة ابن خلدون، مع تحليلها لكيفية بناء ابن خلدون لتصوراته السياسية بناءً على فهمه لنظام الأرض على ثلاثة مستويات: النظام الكوني، النظام المادي/المكاني، والنظام الاجتماعي/السوسيولوجي.
فيما يتعلق بأسئلة البنية والفاعلية، استعانت عزت بتحليل الفيلسوفة حنة أرندت للحداثة ونظرية “العمل” التي يمكن أن تساعد كل مواطن من تقوية فاعليته في المجتمع. كما اعتمدت على تحليل زيجمونت باومان (2000، 2007) للحداثة السائلة واختفاء الهياكل الثقافية والمؤسسات الصلبة التي كانت توفر الاستقرار. بالنسبة لعزت، يتطور التغيير تدريجيًا في البنى الاجتماعية التأسيسية للمجتمعات عندما يعمل الأفراد والمجموعات داخل هذه المجتمعات كعوامل إبداعية تستخدم القوة الناعمة. وباختصار، تهدف أعمالها الفكرية إلى تحقيق الأهداف الرئيسية التالية:
- تطوير نماذج حضرية ومدنية: إنتاج نماذج تتماشى مع القيم الإسلامية الأصيلة وتستجيب لتحديات العصر وسياقاته.
- تعزيز التفاهم والتواصل الثقافي: بناء جسور التواصل بين الثقافات المختلفة لتعزيز التفاهم والاحترام المتبادل.
- تحديد أساس أخلاقي للمدنية: وضع إطار أخلاقي جماعي يشجع على التعايش السلمي والتعامل مع النزاعات بطريقة حضارية.
- الحفاظ على المدنية في أوقات النزاع: تطوير استراتيجيات للحفاظ على الحد الأدنى من التمدن أثناء النزاعات بما يتناسب مع واقع العالم المترابط.
- العيش مع الاختلاف: تشجيع المجتمع على قبول وتقدير الاختلافات الثقافية والاجتماعية لتحقيق تناغم أكبر.
من خلال هذه الأهداف، تسعى عزت إلى تقديم رؤى متكاملة تساهم في بناء مجتمع متوازن ومستدام يعزز القيم الإنسانية والأخلاقية.
العيش مع التنوع والاختلاف: الاستكشاف النظري التأصيلي
تؤكد عزت (2005ب) أن الظاهرة الاجتماعية لا يمكن فهمها إلا في سياق تعقيدها وشموليتها، بما في ذلك تداخل وتبعية العناصر الثقافية والاجتماعية والسياسية. ولهذا السبب، تسعى عزّت إلى إنتاج نماذج متكاملة من العمران والمدنية من داخل إطار وجودي ومعرفي وقيمي إسلامي أصيل، مع تجنب نهج صدام الحضارات. تدعو إلى تحديد أساس أخلاقي جماعي للمدنية الإنسانية يشجع على العيش مع الاختلاف والحفاظ على الحد الأدنى من المدنية في أوقات النزاع، في ظل واقع إنساني مترابط ومشترك (عزت، 2016). بناءً على ذلك، دعت إلى التالي:
أولاً، تجديد التصورات والمفاهيم واستعادة النهج النقدي تجاه النظريات القائمة. يتضمن ذلك إعادة فحص المفاهيم من منظور موقعها داخل الخريطة المفاهيمية الإسلامية أو إعادة رسمها من خلال التوليد والتأطير (عزت، 2016). تحاجج عزت (2016) بأن هذه المراجعة ستسهل إيجاد البدائل المقترحة من داخل النظام القيمي الإسلامي لتحقيق كرامة الإنسان وبناء جسور بين الحضارات دون الوقوع في الشعور بالدونية أو العدوان على الآخر. بناءً على ذلك، تنظر إلى المفهوم الإسلامي لـ “العالمين” كونه مفهوم جسر ترابطي يسعى إلى تعزيز القيم الإنسانية المشتركة بين الحضارات (عزت، 2015ب).
ثانيًا، ضرورة فهم الواقع السياقي لتحقيق الأهداف العليا للشريعة الإسلامية في مختلف المجالات. في ظل الحداثة والعولمة، تجادل عزت (2016) بأن التفاعل مع الواقع الغربي أصبح ضروريًا لفهم الواقع الخاص بالمسلمين. إضافة إلى ذلك، أصبح من الحتمي على العلماء والنشطاء الذين يسعون إلى الاجتهاد الفقهي أو النضال من أجل التغيير في مجتمعاتهم أن يدركوا عمق تأثيرات الحداثة وما بعد الحداثة على تلك المجتمعات.
ثالثًا، تتبع العلاقات بين الفقه والواقع الاجتماعي وتطوير طرق لفحص السياقات المتعددة. طرحت عزت تساؤلات عميقة حول مفهوم التدين وظواهره وتجلياته، على مستوى أعمق من الأحكام الفقهية. تحث عزت علماء الفقه الإسلامي على فهم الواقع الجديد والمعقد والمتغيّر، مع فهم المجتمعات التي تطورت في سياقات الحداثة. على سبيل المثال، تأسست العديد من الأحكام الفقهية الإسلامية ضمن سياقات اجتماعية وأعراف مختلفة عن واقع الحداثة، مثل قيمة التكافل، ولكن تلك السياقات تغيرت في المجتمعات الحديثة بسبب التحولات الكبيرة في علاقة الدين بالحياة وعلاقة التكنولوجيا بالقيم الأخلاقية. عند مساءلة المفاهيم التقليدية للزمان والمكان، يمكن لهذا الفهم أن يزعزع المعارضة القطبية الثنائية أو الجغرافية بين دار الكفر ودار الإسلام، أو المعارضة الجغرافية بين الشرق والغرب، وما يترتب على ذلك من ترتيبات فقهية واجتماعية.
الأمة و”مسألة الدولة”: ما هي طبيعة الرؤية الإسلامية للعالم؟
تتناول عزت تجديد الفكر الإسلامي من منظور متكامل وناقد ومتعدد التخصصات، مستفيدة من تخصصات مختلفة مثل علوم الشريعة، والتاريخ، والفلسفة، والفكر السياسي، مؤكدة أن الأبعاد الإيمانية والأخلاقية تشكل جوهر الاعتقاد الإسلامي. استنادًا إلى هذا المبدأ، دعمت عزت (2004، 2005) فصل مفهوم “الأمة” عن القيود المفروضة من قبل التصورات الغربية “للدولة الوطنية” التي تطورت تاريخيًا على أساس العنف. بالنسبة لها، فإن نموذج الدولة الحداثية محمَّل بالمشاكل الذاتية للحداثة والتسلط، ويحمل قيمًا تتعارض مع الأهداف العليا للشريعة الإسلامية في قيادة الأمة بالعدل، والرحمة، والكرامة، والتكافل المجتمعي.
في كتابها “الخيال السياسي للإسلاميين” وفي العديد من محاضراتها، تقدم عزت نقدًا لاذعًا لمفهوم الدولة القومية الحديثة، التي بنيت على أسس الاستبداد والسيطرة على المجتمع من خلال الثروة، والتقنين، والمؤسسات الرسمية التي تعمل كقوى تنفيذية ممتدة في المجتمع. ومع ذلك، تشير إلى أن الحركات الإسلامية تفتقر إلى رؤية بديلة تحول دون إعادة إنتاج نموذج الدولة الاستبدادية المركزية أو الوقوع في الفوضى (2015). لذلك، تدعو عزت إلى تجديد الفكر السياسي الإسلامي بحيث يتجاوز هدف تأمين السلطة والسيطرة من خلال الدولة، ويسعى بدلاً من ذلك إلى التفكير العميق في البدائل المتعلقة بالقضايا الأخلاقية الأساسية.
ماذا يمكن أن يقدم الإسلام للبشرية جمعاء (العالمين) اليوم؟
سبرت عزت كيفية تصور الأمة الإسلامية كواقع أخلاقي دون وصم كل ما هو غير إسلامي بأنه غير أخلاقي، فاقترحت إعادة النظر في ثلاثة مفاهيم لتحقيق التعاون والتغيير السلمي: الفطرة، والعالمين، والمجتمع المدني العالمي. بناءً على ذلك، أصبح أساسيًا في الفكر السياسي لعزت فهم الدين نفسه ومراجعة خرائط المفاهيم الدينية. في هذا السياق، تتناول عزت جانبين رئيسيين من الدين:
أولاً، مفهوم “التمدن” والشمولية ضمن نطاق مفهوم “العالمين”. يجب أن يحدد هذا التدين القيم الأخلاقية الإسلامية التي تتعلق بالطيف الأوسع من البشر والحياة على الأرض كجزء من مبدأ الاستخلاف؛ دون اللجوء إلى النهج المتشائم أو الشعور بالدونية أو نموذج العنف المدمر (عزت، 2015).
ثانيًا، تشير عزت إلى الحاجة إلى التعرف على الأنماط الاجتماعية والسياسية المختلفة لإدارة القوة والسلطة في المجتمع. وبذلك تدعو (عزت، 2015أ، 2015ب) إلى تطوير تصورات سياسية تهدف إلى التحرر من الدولة المهيمنة، بحيث يصبح دور الدولة هو الحماية والبناء، بدلاً من القمع والعقاب. في هذا النموذج البديل، يتم تقليص سلطات الدولة لصالح تعزيز الفاعلية لدى المواطنين من خلال القوة الناعمة والسائلة.
ترى عزت أن الحركات الإسلامية قد أغفلت المنطق غير الثنائي القطبي أو العمل الناعم، والعفوية، والسيولة التي تولد التغيير. لذلك، على الرغم من هذه الاختلافات، تدعو عزت إلى شراكة في العمل السياسي والبحث عن القيم المشتركة العليا في النضال من أجل التغيير، مثل النضال من أجل العدالة الاجتماعية ومنع الفقر والاستبداد. كما تركز على اعتبارات التنوع والتمازج الهجين في المجتمعات الحديثة، وبذلك أصبحت القضايا التي تهم النساء المسلمات جزءًا أساسيًا من الأبحاث الفكرية لعزت.
الفضاءات والأدوار النسائية المسلمة: القوة الناعمة والفاعلية السياسية
تحليل عزت للنسوية وقضايا المرأة في السياق الإسلامي
تُعتبر عزت من بين المفكرين الإسلاميين الذين يسعون إلى رفع دور ومكانة النساء المسلمات في المجتمعات الإسلامية، لكنها تظل ناقدة بشدة للفكر النسوي. وبذلك تتبنى عزت النقد الأكاديمي للأدبيات الإسلامية والغربية معًا، حيث تنقد الحداثة وما بعد الحداثة كما تنقد بعض طروحات تجديد الفكر الإسلامي فيما يخص قضايا المرأة. في طرحها الإسلامي لقضايا المرأة، تبدي عزت تأثرا برؤى شخصيات مثل الغزالي (1917-1996) والقرضاوي (مواليد 1926)، لكن رؤيتها تتجاوز مقترحاتهما (عزت، 1999).
وبالتالي، لا ترى عزت أن ما يُصنّف بـ”النسوية الإسلامية” يعبر عن منطلقات فكرها معتبرة إياها قائمة على أسس علمانية حداثية (رشيدز، 2020)، ولذلك تؤكد عزت أن أسس الفلسفة النسوية تتعارض مع إطارها الإسلامي الوجودي (الأنطولوجي) والمعرفي (الإبستمولوجي). تعكس معارضتها للفكر النسوي في كتابات عديدة، منها كتاب ” المرأة والدين والأخلاق” في حوارها مع الدكتورة نوال السعداوي، الذي يكشف عن تصورات متضاربة بينها وبين نوال السعداوي (السعداوي وعزت، 2000). ومع ذلك، تقدر المساعي الجادة لرفع بعض المظالم المشتركة بين النساء والنضال من أجل حقوق الإنسان، رغم اختلاف الأطر الفلسفية لذلك.
تعتقد عزت أن تطور الحركة النسوية بدأ بمطالب مشروعة نتيجة فقدان حقوق أساسية عانت منها النساء في السياقات الغربية، وهي مشكلات ما زالت تواجهها العديد من النساء في أماكن أخرى من العالم. وبالتالي فهي تتوافق مع الحركة النسوية على ضرورة رفع المظالم عن النساء في المجتمعات الإسلامية لتعكس كرامتهن وفاعليتهن، لكنها تختلف في تقييم تلك المظالم وكيفية وأطر معالجتها. في نقدها للنسوية، تربط عزت افتراضات النسوية حول أدوار النساء ومكانتهن بالأسس العميقة للحركة النسوية المستمدة من تجارب النساء الغربيات وسياقاتهن التاريخية الفريدة (1995، 1999). ولذلك، ترى أن اختزال قضايا النساء المسلمات ضمن سياقات تجارب النساء الغربيات وافتراضات الحداثة حول الأدوار المجتمعية ليس فقط طريقة متحيزة لدراسة الثقافات التي تقوم على أنظمة قيم مختلفة عن النموذج الغربي السائد، بل إنه أيضًا يعكس رؤية مشوهة للواقع.
وبالتالي، تؤكد عزت أن أطروحات التجديد يجب أن تنبثق من داخل إطار أخلاقي إسلامي وتقيّم أحوال المرأة من خلال نفس الإطار، مع الاستفادة من الفكر البشري والاستراتيجيات الفعالة في سياقات أخرى. وتعتبر أن الأمر يتعلق ببناء جسور تواصل من دون فقدان التأصيل المرجعي أو الانحراف عن الأسس الوجودية والمعرفية أثناء التعامل مع السياقات والأطر النظرية المختلفة، بما في ذلك مواجهة تحديات اضطهاد النساء وقضايا عدم المساواة. ولذلك، حاججت عزت بحزم بضرورة التزامها المرجعي بالإطار الإسلامي الذي يعتمد على القرآن والسنة كمصدرين رئيسيين، مستفيدة من التراث العلمي للفقه الإسلامي (رشيدز، 2020).
ولاستكشاف قضايا المرأة من إطار إسلامي طرحت عزت ثلاثة مفاهيم محورية: الفطرة، والتمدن، والعمران.
الأسرة كنموذج مصغر للأمة: مراجعة مفاهيمية
تعتبر عزت الأسرة جزءًا لا يتجزأ من النشاط السياسي، والتغيير، والقيادة المجتمعية، معتبرة الوحدة الأسرية كنواة أساسية للتغيير في المجتمع، ولذلك فأطروحتها الناقدة تتناول التصورات الثقافية المتجذرة حول أدوار النساء المسلمات، ومساحاتهن، وواجباتهن في المجتمع، ومن ذلك مفهومي القوامة والولاية. وفقًا لعزت (1996)، فإن الأسرة من منظور إسلامي هي نموذج صغير للأمة والدولة، حيث تتوافق القوامة مع الإمامة أو الخلافة على مستوى الدولة، وتحكمها الشريعة وتدار بالشورى (ص. 30). ولذلك فهي تؤكد قوامة الزوج في الأسرة، ولكنها تعيد تصور العلاقات الأسرية وتعيد تعريف طبيعة القيادة الأسرية كمسؤولية مشتركة من خلال التشاور المتبادل وحفظ الكرامة الإنسانية. بالتأكيد، فموقفها هذا من القوامة الأسرية يبقى مثيرا للجدل بمعايير النسوية العلمانية (ماكلارني، 2015)، إلا أنه يتسق مع التزام عزت بالأطر المفاهيمية الإسلامية وتحليلها الناقد لهيمنة الحداثة الغربية على نظام القيم في المجتمعات الأخرى خارج السياق الغربي، وكذلك يتسق مع أطروحتها حول العيش مع الاختلاف.
ولذلك فقد أولت عزت مفهوم “القوامة” اهتمامًا خاصًا في مراجعاتها المفاهيمية. من منظورها، يلعب مفهوم القوامة دورًا وظيفيًا مهمًا داخل الأسرة، ولكن ذلك لا يعني أن دور النساء المسلمات محصور داخل البيت، بل يمكنهن لعب أدوار قيادية متقدمة في مجتمعاتهن. حاججت عزت (رشيدز، 2020؛ عزت، 1995) بأن القيادة النسائية المسلمة في المجال العام هي شكل من أشكال القوامة، إذ يأمر القرآن الكريم جميع المؤمنين، بغض النظر عن جنسهم، بأداء واجباتهم (القوامة لدعم العدالة) والشهادة (شهود لله):
﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ’مِینَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَاۤءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَ’لِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَۚ …﴾ (النساء: 135)؛ وقوله سبحانه: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ’مِینَ لِلَّهِ شُهَدَاۤءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰۤ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟…﴾ (المائدة: 08). وذلك كجزء من مسؤوليات قبول الأمانة، وفي الآية القرآنية: ﴿إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَ’تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَیۡنَ أَن یَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَـٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومࣰا جَهُولࣰا﴾ (الأحزاب ٧٢). وتعتبر عزت أن طبيعة العلاقة في المجال العام بين الرجال والنساء المسلمين تعمل ضمن مفهوم “الولاية” المتبادلة، لقوله تعالى: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ یَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَیُطِیعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ سَیَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ﴾ (التوبة ٧١). كما دعت عزت إلى مراجعة مفهوم “الأمومة” ليكون أساسًا لفهم وتحفيز فاعلية النساء المسلمات والنشاط السياسي من خلال القوة الناعمة. وخلال ذلك، ناقشت القطبية الثنائية لمفهومي “الخاص” و”العام”، محاججة بأنهما متشابكان وليسا منفصلين انفصالا تاما. لذلك، تعتبر حصر دور النساء المسلمات في المنزل فهماً مشوّهًا للنصوص الإسلامية في القرآن الكريم والسنة النبوية (عزت، 1999؛ عزت، 2015).
بين التنظير والنشاط العملي: الحرية، والانتقال الديمقراطي، والعدالة الاجتماعية
من السهل نسبيًا التنظير من منطقة آمنة، لكن يكمن التحدي في تحويل تلك الأفكار إلى عمل فاعل في أوقات التوتر، والجدل، والصراع على السلطة، وخطر فقدان الحرية أو الحياة.
خلال زمن حكم الرئيس المصري حسني مبارك، قامت عزت بحملات متعددة، من التسعينيات حتى عام 2013، من أجل الحرية، والانتقال الديمقراطي، والكرامة والعدالة الاجتماعية. كانت عضوًا مؤسسًا في: “جمعية الأمهات المصرية” بهدف مراجعة أدوار الأمهات في الفضاءات العامة والتغيير السياسي؛ وفي “حركة حماية” (2005) التي تهدف إلى حماية حقوق الناخبين؛ وفي عام 2005، أطلقت حملة “سجين” تطالب بالإفراج عن المعتقلين في مصر (لها أون لاين، 2006).
فيما بعد، لعبت عزت دورًا نشطًا كقيادية في الانتفاضة المصرية في 25 يناير 2011 وما تلاها. انخرطت كعضو في “الجبهة الاستشارية الوطنية” التي تهدف إلى حماية أهداف الثورة (عزت، 2013). في فترة ما بعد انتخابات 2012، انتقدت قلة خبرة ورؤية جماعة الإخوان المسلمين في قيادة البلاد بفعالية خلال الظروف والتحديات المعقدة مما وتّر العلاقة بينها وبين شباب جماعة الإخوان المسلمين حينئذ. ثم انضمت إلى لجنة استشارية فنية مكونة من عشرة أشخاص لمراجعة مسودة الدستور بالتشاور مع الجمعية التأسيسية. لاحقًا، انسحبت من اللجنة مع سبعة آخرين احتجاجًا على عدم أخذ اقتراحاتهم بعين الاعتبار. يوم 3 يوليو 2013، أطاح الجيش المصري بقيادة وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي، الذي أصبح رئيسًا في العام التالي، بالرئيس مرسي واعتقله، كما علق العمل بالدستور (العزامي، 2021؛ عزت، 2021). حينئذ، أدانت عزت علنًا انتهاكات حقوق الإنسان المتعلقة بسجن وقتل الأبرياء وطالبت بمحاسبة المسؤولين، كما أدانت الخلط بين “الإرهاب” والمعارضة السياسية المشروعة (عزت، 2013). وبالتالي فنقدها لأداء الرئيس مرسي ومعارضتها لاحقًا للانقلاب العسكري على رئاسته يتماشيان مع تحليلها النظري للدولة (عزت، 2013) مما جعلها خارج الموقف الاصطفافي. بحلول أواخر عام 2014، أفادت الصحف بأن عزت احتُجزت لساعات في قسم الشرطة للاشتباه في ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين. وفي وقت لاحق، ذُكر أنها كانت تشارك في نشاط طلابي تحت شعار التطوع (الجزيرة مباشر، 2014). غادرت عزت مصر لاحقًا للإقامة في تركيا، حيث تواصل مسيرتها الفكرية والنضالية في المجال البحثي الأكاديمي.
الخاتمة: ماذا يمكن أن نتعلم؟
تقدم عزت نموذجًا واثقًا وناقدًا ومستقلًا فكريًا، معتزًا بهويته الإسلامية، ومتفقهًا بعمق في عالمه المتشابك، ومتفاعلًا إيجابيًا للقيام بواجبه كمسلم فاعل في أمته بمنهج التجديد المؤصَّل. كما أن مسيرتها العلمية والإصلاحية تقدم مثالًا للنساء المسلمات الفاعلات، طالبات العلم، اللواتي يتنقلن بين أوساط اجتماعية وفكرية قد تكون متناقضة في بعض جوانبها، ولكن يرفضن التبعية الفكرية والذوبان أو الانعزال. وبذلك تقدم عزّت نموذجًا مسلما منفتحًا على التعلم من “الآخر” كجزء من واقع متشابك في زمن العولمة، ساعيةً لبناء جسور التواصل الثقافي من دون الذوبان في الآخر أو الشعور بالدونية أو الجمود على الموروث. يبقى فكرها ومسارها مجالًا للتحليل والنقد الموضوعي والتقييم، كأيّ قيادة فكرية تركت بصمتها في أمتها. ويُعدُّ هذا التفاعل النقدي الموضوعي أحد المطالب الأساسية لفكرها.
ربما تقدم بمسيرتها هذه جزءًا من الإجابة على سؤالها المركزي: ماذا يعني أن تكون إنسانًا من منظور إسلامي؟ ولربما تطرح مسيرتها سؤالا مركزيا آخر لمزيد من البحث: ما أدوار ومساحات وضوابط المرأة المسلمة العالمة الفاعلة في زمن العولمة؟
المراجع:
- الجزيرة مباشر. (2014، 2 نوفمبر). أسباب اعتقال هبة عبد الرؤوف! [فيديو]. يوتيوب. https://www.youtube.com/watch?v=tG38OLGRL2w
- العزامي، و. (2021). الإسلام والثورات العربية: العلماء بين الديمقراطية والاستبداد. شركة هيرست.
- باومان، ز. (2000). الحداثة السائلة. بوليتي بريس.
- باومان، ز. (2007). الأوقات السائلة: العيش في عصر من عدم اليقين. بوليتي بريس.
- السعداوي، ن.، وعزت، ه. ر. (2000). المرأة والدين والأخلاق. دار الفكر.
- عزت، ه. ر. (1995). المرأة والعمل السياسي: رؤية إسلامية. المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
- عزت، ه. ر. (1996). الأسرة والتغيير السياسي: رؤية إسلامية. المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
- عزت، ه. ر. (1999). النساء والاجتهاد: نحو خطاب إسلامي جديد. ألف: مجلة الأدب المقارن، 19، 96-120. https://doi.org/10.2307/521929
- عزت، ه. ر. (2004). نظرات في الخيال السياسي للإسلاميين: إشكاليات منهجية وسياسية. في أ. الشوبكي (محرر)، إسلاميون وديمقراطيون: إشكاليات بناء تيار إسلامي ديمقراطي (ص. 17-62). مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية.
- عزت، ه. ر. (2009، 16 مارس). عوالم أخرى… ونحن نيام. الوسط. http://www.alwasatnews.com/news/42529.html
- عزت، ه. ر. (2013أ، 25 يوليو). الحشود.. والجنود: سطوة القوة.. باسم الشعب أم بإرادة الناخبين [تحديث الحالة]. فيسبوك. https://www.facebook.com/notes/384273539277997/
- عزت، ه. ر. (2013ب، 26 يوليو). عن الميادين [تحديث الحالة]. فيسبوك. https://www.facebook.com/notes/1775844095925886/
- عزت، ه. ر. (2015أ). الخيال السياسي للإسلاميين: ما قبل الدولة وما بعدها. المكتبة العربية.
- عزت، ه. ر. (2015ب). نحو عمران جديد. الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
- عزت، ه. ر. (2016). الفوضى، الانتقالية، والنساء في الشرق الأوسط. الدولة والاتحاد.
- عزت، ه. ر. (2021). تصور مصر في أوقات ما بعد العادية: حالة الحرب. في ل. سنار (محرر)، دليل روتليدج الدولي للفكر الاجتماعي والسياسي الإسلامي المعاصر (ص. 373-386). روتليدج. https://doi.org/https://doi.org/10.4324/9781003143826
- فيسك، ر. (2017، 27 أبريل). المسيحيون يتعرضون لهجمات في الشرق الأوسط – ولا يمكن حتى لزيارة البابا إقناعهم بالبقاء. الإندبندنت. https://www.independent.co.uk/voices/pope-visits-egypt-cairo-christians-under-attack-in-the-middle-east-can-they-stay-robert-fisk-a7705351.html
- ابن خلدون، ع. (2005). المقدمة (ج 3). بيت الفنون والعلوم والآداب.
- لها أون لاين. (2006، 6 مايو). د. هبة رؤوف: لست راضية عن وضع المرأة.. والمطالبة بالحجاب لا تعني الانعزال. لها أون لاين. http://www.lahaonline.com/articles/view/10665.htm
- كلية الدراسات الدينية بجامعة ماكجيل. (2021، 28 نوفمبر). في القبيلة و”ناموس” الأرض: أهمية ابن خلدون [فيديو]. يوتيوب. https://www.youtube.com/watch?v=TvRyAqyEEk0
- ماكلارني، إ. أ. (2015). القوة الناعمة: النساء في الصحوة الإسلامية المصرية. مطبعة جامعة برينستون. https://doi.org/10.1515/9781400866441
- رشيدز. (2020، 8 سبتمبر). أدوار حضارية للنساء المسلمات المعاصرات [فيديو]. يوتيوب. https://youtu.be/vWIJWfU21nc
- شميت، ك. (2003). ناموس الأرض في القانون الدولي لحقبة الجوس بوبلكوم يوروبايم. تيلوس بريس. https://doi.org/10.3790/978-3-428-48983-1