العلوم الإنسانية في العالم العربي بن جدلية السياقية واللاسياقية- د.ليلى فيلالي

العلوم الإنسانية في العالم العربي بن جدلية السياقية واللاسياقية
د.ليلى فيلالي
جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية-قسنطينة
مقدمة
تحدَّث كثير من العلماء المسلمين في الماضي عن ضرورة المحافظة على وحدة العلوم والمعارف وارتباطها بالسياق الاجتماعي والثقافي، في سياق الخطاب العربي الإسلامي المتعلق بوحدة العلوم. أما في العصر الحديث وبعد الصدمة التي واجهت المسلمين نتيجة التفوق العلمي الصناعي للغرب، وبعد تأثُّر كثير من مثقفي المسلمين بأيديولوجية الغرب في التمييز الحاسم بين العلم والدين، فقد نهض عددٌ كبير من العلماء المعاصرين للدعوة إلى خطورة الفصل بين السياق الحضاري والعلم، وضرورة إقامة الارتباط التوحيدي العميق بينهما.
نجد أنّ المعرفة بكل فروعها تمتلك أنساقاً تختلف وتتوزع باختلاف وتنوع الثقافات، يظل التجزيئيّون في العالم العربي يغفلون التأسيسات الفلسفية للمعرفة، ويقصرون عن إدراك العلوم ضمن سياقاتها الاجتماعية، فضلاً عن التساؤل عن معطياتها النهائية، ذلك أنّ التبعية الإدراكية التي هيّأت لها الثقافة الغربية المهيمنة، جعلت من العلم الغربي العلمَ الشرعي الوحيد، فجهل لذلك الكثيرون دور “المخصّبات الثقافية”، التي يمكن أن تفرزها الخصوبة الحضارية في الحقـل المعرفي، بل بما يمكن أن تقدّمه من رؤيـة «منحـازة» لجـانب من الواقع «الفيزيقي» أو الاجتماعي الإنساني – كما يشير إلى ذلك عبدالسميع سيد أحمد- لهذا نشأت في الوطن العربي نزعة واضحة في هذا المجال هي “العلموية” (Scientism)التي أصبحت تشكل جزءاً من العقلية العربية – وبخاصة النخبة المتعلمة والمتخصصة، ومؤدّى “العلموية” أنّ الوسيلة إلى التقدم الحضاري هي تداول “أرقى” و”أحدث” النظريات العلمية دون معرفة أسسها الفلسفية، أو دون التعرض للتغيرات التي يفرضها هذا التجديد العلمي على الأفكار العلمية والاجتماعية والسياسية، فيؤخذ العلم دون تاريخيته، وتتحول المادة العلمية كأنها جهاز مستورد أو قطعة تكنولوجية جديدة.(1)
تقتضي وحدة المعرفة التي تعتمد الترابط بين الإنسان والطبيعة والكون والخالق، النظر إلى الظواهر بشكل متداخل، لهذا فإنّ تزايد الجهود المنصبة على إنشاء المنظور التكاملي الذي يجمع المساهمات المعرفية للعوالم المختلفة، من شأنه أن يقلل من تحيّز كلّ تخصص وادعاءاته المعرفة المبالغ فيها، لذا فالأخذ بالتكامليةبدلاً من الأحاديةيعني: تبنّي مبدأ تعدد المؤثرات في السلوك الإنساني، وانطلاقاً من هذا المنظور يمكن التحدّث عن إعادة تنظيم المناهج التعليمية وتجديدها. (2)
ووقد تحدث بوعلام باقي(*)في هذا السياق عن أزمة العلوم الإنسانية، إذ رأى ” أن هناك صيحات كثيرة تتعالى في الغرب تدعو إلى إعادة النظر في فلسفة العلوم الإنسانية عموما بعد أن برهنت على فشلها بل إفلاسها لأنها قامت منذ انطلاقها على أسس واهية، فهي لم تزد في الحقيقة على أن وسعت مجال العلوم الكونية والطبيعية فأضافت الإنسان إلى ميدان الاختبار والتجربة وكأنه جزء من الطبيعة لا أكثر دون أدنى اعتبار لجوهره وحقيقته، أو تمثل لمعنى وجوده ورسالته.”(3)
ويؤكد هؤلاء المفكرون المتتبعون لمسار هذه العلوم في الغرب أنها ماضية في طريق مسدود نظرا لروح الاستقلالية المفرطة التي آلت اليها فروعها المختلفة ومبدأ النسبية الذي يطبع نتائج أبحاثها مما جعلها عاجزة عن تشكيل صورة واضحة متكاملة للإنسان والعمل على إصلاحه وتوجيه طاقاته الجبارة إلى محاربة ثالوث التخلف : الجهل و الفقر و المرض”.(4)
وقد دعا الكثير من المفكرين العرب ومنهم بوعلام باقي إلى إعادة النظر في فلسفة علوم ما تزال تؤثر في أرقى مستويات النشاط الفكري والتربوي للمجتمعات الإسلامية، التي تبنتها على أنها مناهج علمية، موضوعية ، وحقائق مسلمـة، وماهي بموضوعية ولا بمسلمة لأننا في عصر معقد مضطرب زلزلت فيه كثير من القيم، واهتزت فيه كثير من المفاهيم, بكاد كل شيء فيه يصطبغ بلون المصلحة التي أصبحت تقف وراء كل نشاط، حتى مجال العلم والفكر حيث صارت العلوم والمعارف والفنون أداة طيعة وفنية ،في خضم الصراع الحضاري الذي نعيشه، بل أن مناهج العلوم نفسها ليست أكثر من أساليب دعائية خفية، ووسائل فعالة للغزو الثقافي في أعلى مستوياته ولعل أكثر هذه المناهج تحيزا هي تلك التي تحرص،في الظاهر،على النزاهة والشمولية والإنسانية، بدعوى أن مجال اختصاصها هو الإنسان على إطلاقه وتجرده.(5)
إنّ مبدأ وحدة المعرفة هو مبدأ إسلامي بامتياز، وإنه يتعين انطلاقاً من هذا المبدأ أن نتعامل مع العلوم المختلفة بصفتها نظاماً كلياً حتى في حالة التعاطي مع تخصص محدد، ففي دراستنا للشخصية العربية مثلاً، لابدّ من استحضار الجوانب التاريخية والاجتماعية والدينية والأدبية؛ لأنه لا يمكن فهم هذه الشخصية وتغيراتها إلا في إطار التعرض لكل تلك الجوانب التي تعالجها علوم التاريخ والاجتماع والدين والأدب وغـيرها، كما أنّ دراسة ظاهرة أنثروبولوجيةما، يقتضي الإلمام بمداخل من علوم التاريخ والاجتماع واللغة والآثار والاجتماع والفلكلور والفيزيولوجيا للوقوف على طبيعة تلك الظاهرة وكشف حقيقتها.
ويرى بوعلام باقي أنه “لا فصل في المناهج الإسلامي للعلوم والمعارف بين علم الجمال مثلا وعلم السلوك او بين علم الاقتصاد والاخلاق او علم الاجتماع والشريعة وليس معنى هذا أن الإسلام يعارض مبدأ التخصص في مجال العلوم والمعارف ولكنه لا يسلم باستقلالية هذه التخصصات عن بعضها الا بمقدار ما يسلم باستقلال حاسة السمع مثلا عن حاسة البصر وظيفيا، كما أن الإسلام لا يفصل بين العلوم الإنسانية وبين مناحي الحياة الأخرى. إن انتهاج فلسفة موحدة شاملة في مجال العلوم والمعارف في عصرنا هذا مثلا لا يكفي وحده لتحقيق التوازن وضمان الاستقرار ما لم تقم نظم عالمية جديدة اقتصادية ونقدية وإعلامية.(6)
ثم إن قيام علوم إنسانية سياقية سيعود نفعه على سائر الأمم والشعوب، باعتبارها نابعة من الفكر العربي الإسلامي، الذي يتسم بسمات العالمية والكونية والواقعية والمصلحية، وليس متصفًا بما يكرس الانعزالية والانطوائية والقبلية والجهوية، كما هو الحال في كثير من التصورات والفلسفات الوضعية .. فالإسلام وعلومه ومعارفه وفنونه، ينبغي أن تشيع في شتى أنحاء الأرض وبين مختلف الطوائف والملل والجماعات، قصد إصلاحهم ودعوتهم لما فيه خيري الدنيا والآخرة.(7)
لقد بات مؤكدا أن الإنسان اليوم ليس في حاجة إلى مزيد من الوسائل ولكنه في حاجة ماسة و عاجلة إلى قيم ومبادئ و غايات، و هو مجال العلوم الإنسانية عموما، إذا وضعت مناهجها وفق فلسفة تستمد روحها من الإسلام، وما من شك في أن المنطلق الأول لهذا الاشعاع هو الجامعة فهي النواة الأولى التي تعيد للبحث العلمي في الفكر و الثقافة روحه الإسلامية، فالجامعات تمثل قمة النظام التعليمي في كل مجتمع تضطلع بدور القيادة والتوجيه، فتعمق الجواهر الثابتة في حياة الأمة وتبحث باستمرار عن الحقائق العلمية الموضوعية، وهي في الوقت نفسه جسور تربط بين القديم و الجديد بين الثقافات و البيئات وتجسم في كل نشاطها المتعدد نظرة الإسلام إلى وحدة العلوم و المعارف.(8)
خلاصة
وبناءً على ماسبق، يبدو أن أيّ علم من العلوم الإنسانية يعالج ظاهرة نوعية، لا يسعـه إلاّ إبقاء النظر مفتوحاً على سائر الظواهر الأخرى.كما أن إغفال السياقات الاجتماعية والثقافية لانبثاق المعرفة وتأسيس العلوم من السلبيات الأخرى للمنظور اللاسياقي الذي يدعو إلى تلقي العلوم وفهمها بمعزل عن إدراك سياقاتها الاجتماعية والزمنية والجغرافية والثقافية، الأمر الذي يجعلها منفصلة عن أطر النشأة وسياقات التطور،ومن ثم الحيلولة دون إدراك عناصرها ومتغيراتها الإيديولوجية وقوانينها النسبية التي تحكم المساحات الكبرى من موضوعاتها. وابتغاءلتوظيف العلوم الإنسانية خدمة للأمة العربية الإسلامية، فيجب عدم الاكتفاء بالاعتماد على الأفكار الفلسفية التي لا تخدم الفكر العربي الإسلامي بما تساهم فيه من تضييق الخناق على هذا الفكر لتترك المجال للأفكار والإيديولوجيات الغربية تتوسع على حساب ثقافتنا وتراثنا.
الإحالات المرجعية:
1- عمر عبيد حسنه، “توطين العلوم في الجامعات العربية والإسلامية رؤية ومشروع“، الموقع إسلام ويب : المكتبة الإسلامية، http://library.islamweb.net/newlibrary/display_umma.php?lang=&BabId=1&ChapterId=6&BookId=2116&CatId=201&startno=0، تاريخ الزيارة 22/05/2017.
2- ليلى فيلالي، “ علوم الإعلام والاتصال والدراسات الإسلامية: في إطار استراتيجيةحضارية لتحقيق التكامل المعرفي “، الملتقى الدولي “التكامل المعرفي بين العلوم الإسلامية والعلوم الأخرى24 -25نوفمبر2015“، مجلة المعيار، كلية أصول الدين ، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية ، العدد40، ديسمبر2015 ، ص702-703.
(*)-بوعلام باقي مجاهد ووزير جزائري سابق. انتخب سنة 1977 كنائب في المجلس الشعبي الوطني. كما شغل عدة مناصب في الدولة الجزائرية خاصة في ثمانينيات القرن العشرين، منها وزير الشؤون الدينية ووزير العدل. توفي يوم الاثنين 16 يناير 2017 عن عمر يناهز 95 سنة.
3- بوعلام باقي، “مرحلة المبادرة وتقديم البديل العلمي”،مجلة الثقافة ، وزارة الثقافة والسياحة ، الجزائر، السنة السادسة عشر، العدد95، سبتمبر-أكتوبر1986، ص14.
4- المرجع نفسه، ص14.
5-المرجع نفسه، ص10.
6- بوعلام باقي، “الدين ليس مجرد عاطفة ووجدان وإنما هو علم وحقيقة”، مجلة الثقافة ، مرجع سابق، ص114.
7- المكتبة الإسلامية، “إنجاز التقنية الإسلامية وأسلمة العلوم الإنسانية” – المكتبة الإسلامية – إسلام، http://library.islamweb.net/newlibrary/display_umma.php?lang=&BabId=22&ChapterId=22&BookId=266&CatId=201&startno=0، تاريخ الزيارة 21/05/2017.
8-بوعلام باقي، “مرحلة المبادرة وتقديم البديل العلمي”، مجلة الثقافة ، مرجع سابق، ص13.,خ الزيارة 21/05./7. وانطلقرين لملتقيات الفكر الإسلامي