الدراما الرمضانية وغياب الرؤية- الشريف حبيلة -الجزائر-
الدراما الرمضانية وغياب الرؤية
الشريف حبيلة، جامعة الأخوين منتوري قسنطينة1
لا يعني فساد الواقع نقله كما هو في العمل الفني، إلا إذا كان الهدف هو تبني هذا الواقع وتكريسه من خلال جعل أبطاله نماذج بشرية يرغب صاحب العمل جمهور المتلقين فيهم، وعندما تغيب الرؤية للواقع يصبح هذا الأخير مجرد نقل للواقع الفعلي، دون قراءة أومنظور فكري يؤطره، فيقف المتلقي تجاه مادة مسطحة تتطابق مع تلك التي يعيشها يوميا، وربما يكون له منها موقفا في حياته أرقى من الصورة، وهنا يفضل التعامل مع الأصل بدل الصورة، ففي الفيلم باعتباره عملا جماعيا، يقدم السناريست، خاصة الحوارـ عملا يعبر عن رؤيته للواقع الذي يكتب عنه، ثم المخرج الذي يحمله أيضا رؤيته من خلال الديكور اللباس حركة الممثلين، حركة الكاميرا والزوايا التي تشتغل منها، وهو ما يؤكده (تيموثي كوريجان) عندما تحدث عن الموضوع والمعنى في الأفلام، فالأفلام ليست عن قصة أوشخصية، أو مكان أو طريقة حياة فحسب، إنما هي أيضا أسلوب الرؤية لهذه العناصر من حياتنا. فأي فيلم في أية لحظة من لحظات الحياة قد يصف عائلة أو حربا أو صراعا بين الأجناس، ولكن أساليب وأسباب عرضه تختلف بشكل كبير، وهذه الاختلافات التي يأخذ من خلالها الموضوع معنى، أو معاني محددة، تمثل جزءا كبيرا مما يتناوله التحليل.
لكن ما نشاهده في الأعمال الدرامية في إعلام اليوم، مجرد تسجيل ميت لمناطق مظلمة في واقعنا اليومي، حيث تغيب الرؤية، فلا يقدم العمل قراءة لهذا الواقع، يستهلكه كما هو، حتى على مستوي التخييل أين يمكن لخيال المتلقي أن يشتغل بالتأويل، وتخيل عوالم تدفعه إليها اللغة فلا نجد، إذ يواجهنا حوار منقول كما هو، خال من أي فكرة، أو فهم للحياة، يعمل على تفسيرها من خلال الفعل واللغة، وكأننا نكرر يومياتنا بسذاجة مفرطة، وأحيانا يكون المشهد مبتذلا (فتاة تسقط بطاقة صديقها في سيارته، فتلحق به إلى بيته في حي شعبي خطير، تطرق الباب تدخل، تسألها الأم من أنت تجيب أنا لامي/صديقة ابنك، يراها الأخ الصغير يصرخ في تعجب واو تعرف تخير، يسأله الأخ الأكبر/الرجلة صح عجبتك، بينما يتأملها الصغير برغبة تظهر في عينيه، ينهره أخو أيا روح تقرا بركانا، بينما تنخرط الفتاة مع الأم والأخت في حديث نسوي، وكأنها تعرف العائلة منذ مدة طويلة..تهجم عليهم صديقة الرجلة القديمة في البيت وتقول لصاحبها تبدلني بهذي أمام الأسرة) وهكذا. وغيرها من المشاهد التي تفتقر إلى الجمالية والتبرير الفني. وغياب الرؤية.
عكس تماما عاشور العاشر الذي يقرأ الواقع ويقدم رؤية عميقة لوضعنا -رغم أن مخرجه هو نفسه مخرج مسلسل من مسلسلات رمضان- أو كرنفال في دشرة، وغيرها من الأعمال الدرامية المتميزة بقراءتها للواقع، حيث تساعد المتلقي على فهم واقعه من جهة، وفي الوقت نفسه تعبر عن رؤيته له، وتدفعه لاتخاذ موقف مما يحدث بطريقة فنية غير مباشرة.
حتى الكاميرا عندما تتحرك وتنقل المشاهد لا تستعمل أسلوب المجاز، موظفة الاستعارات التي تخلقها حركات الممثلين وملامحهم والشوارع والديكور عامة، إلى جانب اللغة تساعد في ذلك الخلفية الموسيقية، ويحضرني هنا مشهد من فيلم إمريكي، عندما جعل المخرج الكاميرا تركز على تفاصيل هندسة البنك، التي كانت تشبه هندسة الكنسية، ثم الناس وهم يدخلونه جماعات، لنقف على استعارة تتأسس على التشابه القائم بين البنك والكنيسة، لنستنتج في مستوى التأويل أن المال أصبح إله العصر يتحكم في مصائر الناس، فيعبدونه.
وبدون هذا الطرح يصبح العمل مجرد نقل فوتوغرافي للواقع خال من الإبداع، محاكاة ساذجة لا تساعد المتلقي على الفهم، وإدراك جذور الظاهرة (ظاهرة الاغتصاب، الحبوب المهلوسة والمخدرات، الدعارة، وعصابات الأحياء وغيرها) وكأن الظاهرة ليست لها جذور اجتماعية ولا سياسية ولا اقتصادية، ولا نفسية، تقدم مقطوعة من مسبباتها، حتى تحليل الشخصية يغيب وقد جعله (ألفرد هيدشكوك) أساسا لأفلامه، أو الحفر في الطبقات السوسسويولجية للمجتمع كما فعل (فرانسيس كوبولا) في تصويره لعصابات الشباب داخل مدينة نيويورك.
العمل بهذا الأسلوب يسطح الفهم وبدل قراءة الظاهرة وتقديم رؤية، يميع الظاهرة ويقدمها مسطحة لا عمق في الطرح، ويحضرني هنا المشهد النهائي لفيلم 24ساعة في الصومال (الأمريكي) عندما قال البطل إنها ليست حربنا بل حربهم، جملة واحدة قرأها في رسالة صاحبه تفسر دخول القوات الأمريكية إلى الصومال، وربما كل حروب أمريكا، رغم تصوير الصوماليين المقاوميين بالطريقة نفسها التي صور بها الهنود الحمر في أفلام الكوبوي والأوستارن، متوحشين وهمجيين، لكن في النهاية الحرب هي الحرب، يقررها رجال المال، ويأمر بها السياسيون وينفذها العسكريون، ويكون ضحيتها الجندي البسيط، وبالطريقة نفسها تتم الدراما ليكون ضيحتها المتلقي والفن، تحت ضغط المال المتوحش.
لقد أنتجت ما بعد الحداثة ثقافة الاستهلاك، التي ترتكز على تحقيق أكبر قدر من اللذة الآنية دون التفكير، أو ممارسة النقد، وطرح الأسئلة، فقد لاحظ (جان الكان) أن التلفزيون ساهم في زيادة عدد الجمهور الذي يبكي مع أبطال الميلودراما، ويلق ضحكات جوفاء مع الحركات والقفشات الكوميدية المبتذلة. ويتعاطف مع قصص الغرام السطحية التي تحشى عادة بكل توابل السينما التجارية من مفاجآت ونكات ورقصات وأغان ومشاهد غرامية، وسلوكات لا مبرر لها.
وهكذا أصبحت الأشكال والنماذج المنحطة التي حطت من قيمة الإنسان، وقوضت الأشكال الثابتة والأصيلة، شعبية يتم توزيعها عبر وسائل الإعلام على قطاع واسع من البشر، في مقدمتها البرامج الترفيهية ثم الدراما.