الحب في القرآن الكريم رؤية تأصيلية تربوية: محمد قاسمي
اقتضت حكمة الله تعالى وقدرته أن يخلق الإنسان في أبهى صورة وأجمل تقويم (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) فكان أفضل مما خلق الله من الموجودات والكائنات الأخرى، فقد حباه الله بميزات لا يتوفر عليها غيره، أولاها: نعمة التسخير والبيان، والإحساس، والعقل، والقلب، وغيرها مما لا يحصره العد ويعده الحصر، فجعله نصفين نصف من (التراب) يحتاج فيه إلى مقومات الحياة المادية من الطعام والشراب والحركة والنوم والتطبيب، ونصف آخر يتغذى فيه على المشاعر والروحانيات والمعنويات والغيبيات والماورائيات. ولا يتم له التوازن الطبيعي إلا بالتوازن في وجبات النصفين والمزج بينهما وعدم تغليب أحدهما على الآخر.
وحديثي اليوم لا علاقة له بالتراب والماديات والطينيات، وإنما هو حديث في العمق النفسي والجوهر الوجداني والسر العاطفي، حديث في القلب المعنوي للإنسان بصفته (عضلة) قابلة للتمدد والتقلص بمعاني القرب والبعد والكراهية والوئام، بل حديثي سيكون عن أرقى مقامات الإحساس الوجداني لهذا (القلب)، وهو مقام يتكون في بنيته اللغوية اللهجية من (حرفي: حاء+باء) أي من صوتين كلاهما لا ينتميان إلى حروف (الاستعلاء) المتسمة بالعلو في طبقتهما الصوتية، بل هما من حروف (الاستفال) يسيرة النطق على الناطق، وسهلة اللفظ للافظ، لا يتكلف في النطق بهما كما لا يمكن أن يتكلف ويتجشم عناء اكتسابهما والتظاهر بحقيقة معناهما، لأنهما بكل بساطة يشكلان كلمة جميلة رقراقة حلوة / صعبة وهي (الحب).
نعم هي كلمة خفيفة في الميزان لكنها ثقيلة في (الامتحان) امتحان القلوب وتمحيصها، ومدى تفاعلها مع زمرة المحبوبين، فقد قلّ فيها الصادق والمصدوق، والمُجدّ والمحبّ، فكثير من الورعين الزهاد في (الحب)، يظنون أنها كلمة معيبة، وعبارة ركيكة، وهم معذورون في ذلك، لا لشيء إلا لأن تجربتهم فيه عديمة، وذاكرتهم المعنوية ارتبط مفهوم (الحب) فيها بالصور والأبدان، وتشوه معناه بسلوكات وادعاءات المحبين الكاذبين، وأصبح الحب في مخيلتهم صورة مقيتة، ومظهرا من مظاهر التفلّت من معاني الوئام الصادق، والتضحية البطولية، والأخلاق الرفيعة والقيم السامية، والأدب الجم. وزاد الطين بلَّة، والبعد جفاء، حديث أهل البغض في الحب، وسكوت أهل الصلاح والإيمان عنه، فتبدى للناس أن الحب كل الحب أن ” تحب كما يحب أهل الفسوق “، وتفسق كما يفعل المحبون، أما الحب الحقيقي للأسف فقد بقي أفكارا في بطون الكتب والعقول والقلوب، لا يقدر البوح به أحد العفيفين، ولا الحديث عنه أهل الصدق من المحبين.
إن (الحب) أحد (مسالك التولية) على عروش قلوب الناس، سلطته نافذة، آثاره عميقة، وفوائده سنية، يحق لنا أن نتنافس فيه تنافس الشرفاء، ونتبارز فيه مبارزة الأقوياء، ولم لا ؟؟ وهو ركيزة الاجتماع، وأس الانتفاع، وروح دوام العلاقات وخلودها في سجل المحبين، ولم لا ؟؟ وهذا القرآن الكريم يزخر بعشرات الآيات يستعمل فيها لفظ (الحب) بمشتقاته، وتصاريفه في زمني الماضي والمستقبل، وها السُنّة حوته بأزمنته الواردة في القرآن وزيادة زمن (الأمر). نعم إن القرآن الكريم اعتبر الحب (كلية) من (كليات) النفس والقلب، ومحورا من محاور الألفة والأنس، وسببا في استحقاق وسام الولاية وحب جبريل والملائكة والناس أجمعين.
إذن ما الحب ؟؟؟
إن حديث القرآن عن الحب أتى بصيغ كثيرة وصور متعددة فتارة:
- في علاقة المؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- وأخرى في علاقته بالمؤمنين.
- وأخرى بذوي القربى من الناس.
- ومرة في النهي عنه مع المخالفين في التوحيد.
- وتارة في حب الدنيا والأموال ولواحقهما.
ومعنى هذا أن الحب علاقة نفسية تتجاوز (جغرافيا) المكان وحدود الزمان وذوات الأشخاص، وهو تفاعل عاطفي ذو حدين: إما حب سليم صحيح منتج، أو حب مزيف عقيم، وما يهمنا ههنا هو أن حديث القرآن عنه (إقرار) بوجوده واعتراف بضرورته، لكن مع ذلك هو تصحيح لمساره وتقويم لاعوجاجه وتقييم لتمثلاته في ذاكرة الناس وسلوكاتهم في واقعهم.
لقد تعددت وكثرت أسماء الحب وأوصافه، حتى أوصلها صاحب (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) الإمام ابن القيم _رحمه الله_ إلى خمسين اسما وهي” المحبة والعلاقة والهوى والصبوة والصبابة والشغف والمقة والوجد والكلف والتتيم والعشق والجوى والدنف والشجو والشوق والخلابة والبلابل والتباريح والسدم والغمرات والوهل والشجن واللاعج والاكتئاب والوصب والحزن والكمد واللذع والحرق والسهد والأرق واللهف والحنين والاستكانة والتبالة واللوعة والفتون والجنون واللمم والخبل والرسيس والداء المخامر والود والخلة والخلم والغرام والهيام والتدليه والوله والتعبد ” ( روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 16) )،
وأصل معنى (الحب) الصفاء “لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان وقيل مأخوذة من الحباب وهو ما يعلو الماء عند المطر الشديد فعلى هذا المحبة غليان القلب وثورانه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب وقيل مشتقة من اللزوم والثبات، وقيل معناه الاضطراب ولب الشيء “[ روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 17).].
فالبياض إشارة إلى شدة صفاء القلب لمحبوبه، وسيماء لون البياض مرتبط غالبا بالخير وأهله حتى في الاستعمال القرآني (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون)، وأما معنى الاضطراب فبين؛ لأنه أثر عن الحب لا يسكن القلب إلا بمحبوبه فهو إلى حين اللقية مضطرب غير مستقر على حال، وأما لب الشيء فلأن الحب متعلق باللب وليس بالقشور وهو الحب الصادق غير المزيف بالشهوة المادية أو العرض الزائل فهو متجه إلى دواخل النفس وشغاف الروح ومنه ينطلق عند المحب.
فمعنى الحب إذن مرتبط بالجمال بشتى صوره المعنوي والباطني، والتشوف إلى السكن، والتركيز على الجوهر، لذلك بين ابن حزم في كتابه الماتع أنه “لو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأنقص في الصورة، ونحن نجد كثيراً ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره ولا يجد محيداً لقلبه عنه “[ طوق الحمامة ص 95.]، وذلك لأن الحب شيء لا يقاس بميزان الظواهر، بل إن ابن حزم يقرر بأنه “ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه، فعلمنا أنه شيء في ذات النفس”، “وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب، وتلك تفنى بفناء سببها، فمن ودك لأمر ولى مع انقضائه”[ المصدر نفسه.]، فلذلك تزول المحبة بزوال أسبابها المادية فلو كان سببها المال فإن الفقر يذهبها، ولو كان الجمال الصوري علتها لانتفى الحب بالعجز وكبر السن أو بحادث آخر” ولهذا تنوعت ضروب المحبة وبين صاحب الطوق أن “أفضلها: محبة المتحابين في الله عز وجل، إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النحلة والمذهب، وإما لفضل علم بمنحه الإنسان؛ ومحبة القرابة، ومحبة الألفة في الاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس”[ ص 95-96.]، وصرح بأن محبة العشق المتمكنة من النفس لا فناء لها إلا بالموت.
مقال الدكتورة عبير راتب إجادة وإفادة فقد شفت الغليل وروت العليل بموضوعها الماتع الذى يحتاج إلى الكثير والكثير من الجهود للمحافظة على لغة القرءان جزاكم الله خيرا وجهد مشكور
مقال بديع ماتع، وفقك الله.
جزاك الله خيرا، ووفقنا جميعا لما يحب ويرضى.