التحقيب التاريخي: ملاحظات أولية -د.حسين بوبيدي- الجزائر –
التحقيب التاريخي: ملاحظات أولية
د. حسين بوبيدي
جامعة قسنطينة 2 عبد الحميد مهري
مخبر الدراسات والبحوث في حضارة المغرب الإسلامي
يشكّل التحقيب التاريخي آلية بحثية للفصل بين الأزمنة المتطاولة؛ بالنظر التي التغيّرات التي أبرزت الفوارق بين عصر وآخر، حيث يتبدّى للدّارس أن المجتمع قد انتقل من وضعية حضارية إلى وضعية حضارية جديدة تختلف عنها بشكل جليّ، وهو ما يجعل التقسيم الزمني مبرّرا، ومساعدا على الفحص العميق لخصوصيات كل حقبة تاريخية، وتمييز عناصر الثبات والتغيّر لفهم حركة التاريخ والعوامل المتحكمة فيه، وكل ذلك ينتهي إلى فهم أدقّ قادر على تقديم مقاربات مقنعة للمواضيع المدروسة من خلال قراءتها ضمن السياق المنتج لها.
1-التحقيب التاريخي: مدخل مفاهيمي
يشكّل التحقيب التاريخي آلية بحثية للفصل بين الأزمنة المتطاولة؛ بالنظر التي التغيّرات التي أبرزت الفوارق بين عصر وآخر، حيث يتبدّى للدّارس أن المجتمع قد انتقل من وضعية حضارية إلى وضعية حضارية جديدة تختلف عنها بشكل جليّ، وهو ما يجعل التقسيم الزمني مبرّرا، ومساعدا على الفحص العميق لخصوصيات كل حقبة تاريخية، وتمييز عناصر الثبات والتغيّر لفهم حركة التاريخ والعوامل المتحكمة فيه، وكل ذلك ينتهي إلى فهم أدقّ قادر على تقديم مقاربات مقنعة للمواضيع المدروسة من خلال قراءتها ضمن السياق المنتج لها،
يقصد بالتحقيب التاريخي (periodization) تأطير حوادث الماضي وتصنيفها وفق حقب تاريخية ذات سمات مشتركة، وينبغي أن يكون هناك بين كل حقبة وأخرى قطيعة معرفية أو وقائعية، تميزها من الحقبة السابقة لها واللاحقة بها[1]، وتتشكل هذه القطائع التي تؤسّس للفصل بين مرحلة وأخرى من عوامل متعددة حسب معايير التقسيم؛ فقد يتعلق الأمر بنقلة دينية عميقة، أو تحولات ثقافية كبيرة، أو بالسلطة السياسية ونظمها، أو بوقائع عسكرية أعادت توزيع موزاين القوى، وربما بالاقتصاد وشؤونه، ولا شك في أن هذه التّحولات لا يظهر أثرها في لحظة فارقة تفصل بين زمنين، بل بتراكمات تتشكل تدريجيا لتصبغ التاريخ بصورة مباينة لما قبلها، ومع ذلك فإن انبلاج الشرارة من حدث معيّن قد يجعله بمثابة المعلم الذي يتحدد به ما قبل وما بعد.
من خلال ما سبق؛ يمكن أن نمثّل داخل الفضاء المتوسطي بنماذج كثيرة مارست دورا بارزا في تدشين سلسلة من التحوّلات التي أعادت رسم مشهد هذا الجزء من العالم؛ مثل اكتشاف الكتابة، وظهور الأديان السماوية (المسيحية والإسلام على وجه الخصوص لطابعهما التبشيري والدعوي)، وقيام وسقوط الامبراطوريات الكبرى، كما هو الحال مع توسعات الاسكندر المقدوني، وبروز قوة روما وسيطرتها على عالم المتوسط القديم، واكتساح دولة الإسلام لفارس والروم، وفتح المسلمين للأندلس، وتصادم القوى الكبرى في معارك حاسمة بأثرها أو برمزيتها؛ مثل الحروب البونية، وانتصار القبائل الجرمانية على الرومان سنة: 476م، وفتح المسلمين للقسطنطينية سنة:857هـ/1453م، وسقوط غرناطة في يد القشتاليين سنة: 897هـ/1492م، أو تبلور معارف جديدة تغير واقع المجتمعات وتنقله من حالة إلى أخرى مباينة لها كمات هو الأمر في الثورة الصناعية، والثورة الرقمية الحالية، وغيرها من الوقائع والتحولات المفصلية.
إن ما ينبغي استحضاره هنا أن التحقيب التاريخي لا يمكن فصله عن المنطلقات الفكرية التي تحكمه، وطريقة فهم التغيّر العميق؛ فالمجتمعات البشرية – بالنظر إلى الخصوصيات الثقافية لكل منها- لا يمكنها أن تتوافق على ذات القراءة في تقييم فاعلية الحوادث وأثرها في بناء المشهد الجديد المتشكل تدريجيا، سواء كان ذلك إنطلاقا من رغبة في الانتصار للتاريخ الخاص لكل مجتمع وثقافة، أو الخلفية المعرفية التي تتحكم في طريقة النظر إلى التاريخ، ومنه؛ فإن “كل تحقيب هو نتاج لاتفاق يحصل في لحظة ما بين فاعلين معينين في إطار جغرافي وفكري وزمني محدود، فهو يحمل بالضرورة بصمات هذا الإطار ويعبّر عنه”[2]؛ فالتحقيب الذي ينطلق منه مجتمع يرى الدّين وعالم الأفكار المتعالية جوهر التاريخ البشري سيخالف دون شك من يرى أن الاقتصاد والبنى المادّية هي التي حكمت مسار الانسان، وسيرى بغير رأيهما من قارب القضية من منطلق الفعالية السياسية والعسكرية، وكل هذه الرؤى تحيل إلى نماذج تحقيبية شهيرة.
ضمن هذا التقديم يمكن المقارنة بين نموذجين مختلفين للتحقيب، قبل أن نخوض في النوع المعتمد اليوم في دراساتنا والذي يمثل حالة من الاغتراب المنهجي كما سيأتي، ويتعلق الأمر بالتمييز بين التحقيب في السياق الإسلامي والتحقيب في القراءة الماركسية المادية للتاريخ، ففي النموذج الأول نلاحظ تداخلا بين الأبعاد الدينية والثقافية والسلالاتية، حيث يتم استحضار فترة ما قبل الإسلام بتسمية: الجاهلية؛ من منطلق أنها حقبة مختلفة عن الحقبة الإسلامية تتحدد من خلال اختلاف الدّين وما يجرّه ذلك من تباين عميق في صورة المجتمعين الجاهلي والإسلامي، كما أن الكتابة التاريخية الإسلامية في نمط التواريخ الجامعة تتأسس على المنطلق الديني في تقسيم الأزمنة؛ من بداية الخلق وتاريخ الأنبياء وصولا إلى خاتمهم محمد ﷺ، ثم يطغى البعد السياسي عبر تمييز الخلافة الراشدة عن الملك، والتقسيم في مرحلة الملك على أساس السلالات الحاكمة، بينما جنح التأريخ الثقافي إلى منطق الطبقات بتقسيم الزمن استنادا إلى توالي المشيخة وتوارث العلم عبر الأجيال، ولا تنفي هذه الصورة العامة أشكالا أخرى من التحقيب تنطلق من أبعاد مذهبية محلية (سيطرة مذهب معين: سنة أو شيعة أو إباضية وغيرها) أو من مظاهر سياسية (عهد إمرة الأمراء، عهد الوزارة، عهد الحجابة، عهد السلطنة).
في الطرف المقابل يختار الماديون رؤية أخرى تتعلق بالجانب الاقتصادي، حيث تمثل النقلات التاريخية في تحقيبهم الخماسي تلك التغيرات التي حدثت في أشكال ملكية وسائل الإنتاج والعلاقة بين أطراف العمل، فمن الاقتصاد البدائي المشاعي، إلى العبودية، فالنظام الفيودالي الذي يتطور إلى الرأسمالية التي تنحل بدورها لتعوضها الاشتراكية، في انتظار تبلور الشيوعية التي تمثل عندهم نهاية التاريخ وذروة تحقق العدالة المثالية، وهذا النموذج من الواضح أنه يقوم على قراءة ما هو سياسي واجتماعي على أنه مجرد تجلّ للجوانب المادية التي تشكّل التربة التي تنشأ منها كل البنى السطحية وتتحكم فيها وفي صيرورتها.
2-مشكلات منهجية في إسقاط التحقيب الأوروبي على التاريخ الإسلامي
إن النموذجين السابقين يغيبان تقريبا عن مسالك التحقيب بجامعاتنا، التي أخذت بالتحقيب الأوروبي الرباعي (قديم، وسيط، حديث، معاصر)، وهو في أصله ثلاثي قبل إضافة حقبة المعاصر؛ ويلاحظ داخل هذا التقسيم أن التواريخ المعلمية تنتمي إلى التاريخ السياسي الحدثي، فهي نتاج تصورات المدرسة الوضعية للتاريخ، وذلك يظهر بجلاء مع تاريخ سقوط روما على يد الجرمان سنة: 476م، وتاريخ سقوط غرناطة واكتشاف قارة أمريكا سنة 1492م، وتاريخ الثورة الفرنسية: 1789م، وتاريخ الحرب العالمية الأولى: 1914م، ومع ما يلاحظ من اختلافات بين الباحثين في تحديد بداية الحقبة المعاصرة، فهو اختلاف ضمن ذات التصور المركزي الأوروبي والحدثي في الوقت ذاته، كما أن خصوصيات كل فترة تنتمي إلى وجهة نظر العقل الغربي ونظرته إلى تاريخه[3].
قبل تبيان مشكلات إسقاط التحقيب الأوروبي على تاريخ العالم الإسلامي، ينبغي الانتباه إلى مشكلاته الابستمولوجية؛ ذلك أننا إذا قاربنا المسألة من منظور أوسع؛ يستحضر التاريخ في شموليته، سنلحظ أن التحولات الحضارية (الكتابة، تطور العلوم، الانتظام السياسي والاجتماعي، الثورة الصناعية…) تعبر عن مسار تغييري لا يمكن القبض عليه عند لحظة واحدة، وبالتالي لا يمكن وضع حدّ له، وهو ما يعيق محاولة قولبة التحول الاجتماعي والاقتصادي ودراسة المجتمع في تمظهراته المختلفة داخل هذه الأطر الوهمية لزمن متخيّل، فالتحديد بالزمن السياسي يغطي على انسياب من نوع آخر تشكّله الأفكار والهجرات والتجارة والعمارة والفنون والمؤسسات المجتمعية، وهذه العوامل تنقل الجماعات البشرية تدريجيا من صورة إلى صورة مخالفة تماما دون أن تشعر بلحظات مفصلية شبيهة بالحروب الأليمة والانقلابات العسكرية أو النقلات السياسية المصبوغة بمظاهرة تخلّدها الرغبة في تثبيت السلطة وترسيخ رمزيتها، كما أن التحقيب المادي يصادر على قضية العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع، وبالتالي يجيّر التاريخ لصالح النظرية في قراءة انتقائية.
في هذا السياق؛ يرى محمود حبيدة أن النمطية التحقيبية “غالبا ما تتحول إلى مسلّمات ضمنية، ومطلقة في أحيان كثيرة، فيوظفها المؤرخ في معالجة جميع الحالات، خاصة في فهم تاريخ البنى الاجتماعية والاقتصادية فتصير شبكة قراءة الزمن هذه عسيرة إلى درجة التعسف (…) ولذلك فإن مستوى البنى؛ أي مستوى الزمن الطويل كما يقول فرنان بروديل يستلزم بالضرورة نوعا من المرونة في التعامل مع الأمور وأن يؤخذ في الحسبان عامل البطء والثبات الذي يميّز البنى الاجتماعية والعقليات”[4].
يبدو مما سبق أن التحقيب الذي نعتمده اليوم في الجامعة الجزائرية (قديم، وسيط، حديث، معاصر) يمثّل أحد تجليات الوصاية الغربية على عقل الباحث في عالمنا العربي، وانصياعا منه لسلوك الهيمنة الفكرية النابعة من مركزية أوروبية مفرطة ومتعالية، حيث يفرض عليه آليا الانصياع إلى حمولة فكرية محصورة في الزمان والمكان عند الكتابة عن كل حقبة داخل هذا التقسيم، ذلك أن التحقيب الأوروبي محكوم بتصورات حول كل حقبة وما يميزها عن غيرها انطلاقا من نظرته لذاته، ثم يسحبها تبعا على غيره[5]، وهذا يبرز أن الوعي باختلاف الأمم في النظر إلى التاريخ والغاية منه وطريقة قراءته يحتم ظهور أشكال مختلفة من التحقيب الخاص، وتوجهات متباينة للتحقيب العالمي، ولا يتمّ ذلك إلا بتجاوز هذه القوالب الجامدة الموروثة عن الحقبة الاستعمارية والكتابات التي اعتبرت مؤسسة للمنهجية التاريخية.
يقول جاك لوغوف في التنبيه إلى وجود قصدية معيارية ووظيفية في تحديد العصور التاريخية: “لم يكن تحقيب التاريخ عملا محايدا أو بريئا البتة، والدليل على ذلك تطور صورة العصر الوسيط في العهد الحديث والمعاصر، فمن خلال هذا التحقيب يبرز تقويم ما للمقاطع التي جرى تحديدها، وحكم قيمة ما، وإن كان جماعيا، بيد أن صورة أي حقبة تاريخية يمكن أن تتغير بمرور الزمن”[6]، وهذا ما يؤكد وجود حمولة ذات خلفيات وأهداف في تشكيل تصورات معينة على حقبة محددة لتكريس هذه الرؤية عند من يدرس تاريخها.
إن محاولة وضع تحقيب عالمي مشترك بين جميع المجتمعات الإنسانية وفي مختلف المحطات التاريخية عملية مستحيلة، ذلك أن بعض الأمثلة التي أوردناها حول الفضاء المتوسطي لا يمكن سحبها على مناطق شاسعة؛ فلا أثر للحروب البونية وغزوات الاسكندر على صحاري إفريقيا وما يقع جنوبها، ولم يحدث سقوط روما على يد الجرمان أثرا مفصليا على تاريخ الهند والصين وأواسط آسيا، كما أن مسار التطور العلمي والتقني لم يكن نفسه في مختلف البقاع، لذلك يعدّ اعتماد تحقيب واحد لدراسة تاريخ مجالات حضارية متباينة ركونا إلى تزمين خاطئ لا يفيد في تقطيع الزمن لأجل استيعاب خصوصيات كل مرحلة فيه، وهو ما يمكن التمثيل له بأن تأسيس دولة المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية أكثر أثرا في مجتمعات البحر المتوسط من سقوط روما التي كانت مجرّد حدث رمزي اجتمعت عوامل تحققه منذ انتقال السلطة إلى القسطنطينية؛ بينما كان انبعاث الإسلام ودولته إيذانا بتحولات جذرية أنتجت تاريخا مختلفا للعلاقات بين الشرق والغرب، ومع ذلك فإن رمزية روما في العقل التاريخي الغربي جعلته يقدم ما هو رمزي على ما هو واقعي، ويفضّل تحديدا مستندا إلى رؤية حنينية على تاريخ أعاد تشكيل الواقع السياسي والديني والثقافي في جزء كبير جدا من العالم، ومن ذلك بلاد المغرب (الشمال الإفريقي)؛ فإن لحظة الفتح الإسلامي تمتلك من الأثر ما لا تمتلكه لحظات أخرى منذ تدمير قرطاج الذي مهّد لتمدّد الرومان بالمنطقة، فهي التي قطعت ارتباط تاريخ المغرب مع أوروبا لتلحقه بالشرق.
إن إسقاط التحقيب الأوروبي على التاريخ الإسلامي وقراءته من خلاله يعدّ من مداخل الغلط التي تمنع الاستفادة من التقسيم الزمني لفهم التطورات والتغيرات التي تحدث عبر التاريخ، والتي تتراكم تدريجيا تبعا لأحداث مفصلية كبرى أو تتمة لمسار متدرج من التفاعل والتمايز الحضاري سرعان ما يتكشّف عن نموذج جديد في بناء العلاقات والنظم والتفكير في الحياة، ذلك أن الملامح التي يتم ربطها ذهنيا عن مرحلة معينة انطلاقا من المجتمعات التي أعطتها هذه الخصوصية قد تكون مناقضة لواقع مجتمعات أخرى في ذات الحقية التاريخية، فلم تكن المجتمعات الإسلامية تعيش خصوصيات أوروبا في المرحلة التي سمتها هذه الأخيرة عصرا وسيطا[7]، سواء على المستوى الديني بمختلف تمظهراته (العقائد والتصورات، العلاقة بين السلطة السياسية وأصحاب النظر الشرعي، موقع العلماء داخل المجتمع وعلاقتهم بمختلف فئاته)، أو السياسي أو الاجتماعي.
إن تبني دلالات العصور الوسطى بحمولتها الغربية قد أدّى إلى “أوربة” التاريخ الإسلامي، وظهرت دراسات تسحب الوظيفة الكنسية وعلاقتها بالسلطة السياسية على الفقهاء في السياق الإسلامي، وتبنت مفاهيم غريبة حول الكهنوت، والحكم الثيوقراطي، وغيرها من الأخطاء التي جعلت المسلمين ينظرون إلى تاريخهم بعيون الآخرين فيعجزون عن فهمه بالصورة التي كان عليها، ما سبّب حالة من الاغتراب المنهجي في تلمس الأدوات المناسبة لتفكيك طبيعة العلاقات بين الفاعلين الاجتماعيين بعيدا عن الصورة النمطية التي سحبتها الدراسات الاستشراقية على المجتمعات والدول المسلمة، ثم أورثتها الدرس الجامعي الذي كرّسها بسبب غياب المراجعات العميقة لمناهج التدريس ومخرجاتها.
إن ما قيل عن العصر المسمى وسيطا في التحقيب الأوروبي يمكن ملاحظته على الفترة المسماة حديثة، فإن أوروبا التي انفتحت على تغيرات عميقة توجد جذورها في عصرها الوسيط، شملت تحولات فكرية ودينية وفلسفية وعلمية، وبداية تفكك العلاقات القديمة على المستويين السياسي والاقتصادي، قد تلمّست بالتدريج تشكل عصر مغاير له خصوصية تستدعي دراسته على ضوئها، لكن العالم الإسلامي بامتداداته الإفريقية والآسيوية لم يكن يعيش ذات السياق، ولم يبد أنه قد حدثت له نقلة في مساره التاريخي تؤسس لإعطاء هذه الفترة اسما مميزا، ورغم أهمية فتح القسطنطينية سنة: 857هـ/1453م، وسقوط غرناطة سنة: 897هـ/1492م فإن حوادث سابقة ولاحقة كان لها وقعها المماثل، فلم يكن فتح القسطنطينية سوى تتويجا لانتصارات عثمانية سابقة يمكن اعتبارها الممهد لها، كما أن الأثر البعيد للطاعون الأسود سنة 749هـ/1348م على الحياة الثقافية، وتقويضه لممكنات النهضة العلمية يتجاوز في أهميته إسقاط بقايا دولة كانت تحتضر في جنوب الأندلس، أما السيطرة العثمانية فلم تكن أكثر من تغيير في الأسرة الحاكمة وتوحيد جزء من دار الإسلام تحت سيطرتها، مع استمرار الكثير من معالم العصر الذي سبقها تحت حكم السلطنات المختلفة في المشرق والمغرب، والدليل على ذلك أن تاريخ المناطق التي لم يصلها العثمانيون استمر في ذات السياق الموروث عن مراحل سابقة، واتجه بالطريقة نفسها نحو العجز الحضاري والوقوع تحت نير الاستعمار الأوروبي.
3-البديل المقترح للعصرين الوسيط والحديث: العصر الإسلامي
إن إصرارنا على التعاطي مع التحقيب التاريخي الأوروبي وفق مقارباته وأدواته التحليلية أدى بنا إلى محاولة إيجاد تخريجات تدفع نحو قولبة التاريخ الإسلامي داخل هذه التحديدات الزمنية، بينما نحن مطالبون باقتراح تحقيب جديد يكون شاملا لمجالات دار الإسلام من حيث كونها انخرطت في تحولات عميقة بانتشار هذا الدين ورسالته وثقافته وشريعته من ناحية، ويستحضر الاختلافات الكبيرة الموجودة بين مناطقها الشاسعة؛ بسبب التباين في طريقة تفاعل كل مجال مع الإسلام وفق بناه الاجتماعية والاقتصادية وخلفيته الثقافية وموروثه المعرفي، وإذا كان من الواضح أن المجتمعات الإسلامية منذ القرن 1هـ/7م هي مجتمعات الشريعة والثقافة الإسلامية العالمة كإطار جامع يتجاوز التنوع المجتمعي والانشقاق المذهبي والعقدي، فإن التوصيف العام لكل القرون التي سبقت التوغل الاستعماري الأوروبي وغيره باعتبارها: العصر الإسلامي مقدّم على أي توصيف آخر وسيطا أو حديثا، بينما تمثل المرحلة الاستعمارية وما نتج عنها منعطفا جديدا يتطلب تمييزه عن العصر الذي سبقه، بما كرسه من واقع جديد أنتجته سياسات الاحتلال والوصاية والانتداب التي أعادت تشكيل النظم السياسية، وأورثت الدول المستقلة مؤسساتها وأساليب إدارتها للمجتمعات، وكرّست فيها منظومتها القانونية المستندة إلى فلسفة ذات أصول غربية.
إن اختيار هذا التحقيب للعصر الإسلامي الذي يمتد من انبلاج رسالة الإسلام إلى الهجمة الاستعمارية الأوروبية على المسلمين لا ينطلق من ثنائية الإسلام والجاهلية، ولا يمثّل إعادة إنتاج للمقترحات التحقيبية التي تنسب لرواد خط أسلمة التاريخ وما قدموه من بدائل للتحقيب الغربي الذي يستبطن توجها علمانيا مغيبا للدين إلا كمظهر بين مظاهر كثيرة[8]، بل إن وسم العصر باعتباره إسلاميا ناتج عن الفعالية المركزية التي مارسها الدين في تاريخ المجتمعات الإسلامية في هذه المرحلة، وأنه بإعادته تشكيل الثقافة، وصياغته المعارف التي تدرس وتتداول داخل مجالاته، وضبط العلاقات البينية ثم مع الآخر انطلاقا من أحكامه وتشريعاته، جعل منه جوهر الحياة وأساس التفكير، وكل ذلك يظهر بجلاء أن الحقبة إسلامية بالأساس، أما ما قبلها فزمن ممتد إلى حضارات مختلفة شملت المجالات التي استدخلتها دار الإسلام (دار المسلمين وشريعة الإسلام)، وتستوجب تحقيبات خاصة، فلا يمكن دمج تاريخ شبه الجزيرة العربية مع تاريخ الفرس أو تاريخ البربر/الأمازيغ داخل تحقيب واحد، ولا يمكن اعتماد توصيف التاريخ الجاهلي الذي يحيل إلى الجاهلية العقائدية وليس إلى كل مناحي الحياة الاجتماعية، بدليل أن الدين لم يكن يمارس ذات الفعالية التي تؤهله في فترة ما قبل الإسلام ليشتق منه توصيف المرحلة، في زمن القبيلة وتجارة العبور والانتقال إلى نظام الممالك والتشريعات وغيرها من الظواهر التي ميزت مجتمعات الإسلام قبل انبلاجه.
لا يمكن نفي الفعالية المركزية للإسلام في هذا الزمن الطويل الذي أسميته العصر الإسلامي بإشكالية سيرورة انتشار هذا الدين، ومدى نفاذ شريعته إلى كل المجالات بسبب التباين بين مستوى تمثّلها في المراكز والهوامش، أو نجاحه في صبغ المجتمعات المتعددة التي امتدّ إليها -والتي تستند إلى مسار تاريخي وثقافي متباين-بمعارفه، ومع الجزم أن كل هذه المجالات انخرطت بمجموعها في إعادة تشكّل أدخلها في مرحلة جديدة ومختلفة تماما، فإن ذلك لا ينفي الاختلاف في السيرورة الزمنية للقطيعة التي أحدثها الإسلام مع المرحلة التي سبقته، وصور استمرارية الثقافات والنظم السابقة عنه، ومع ذلك يبقى الإسلام وشريعته هو أكثر تأثيرا في التغيرات التي تحققت من النظم السياسية والوقائع العسكرية وأشكال الإنتاج وعلاقاته في كل البلاد المسلمة.
4-مقاربة محمد الطاهر المنصوري: اعتماد التحقيب الأوروبي في حوض المتوسط
يعدّ المؤرخ التونسي محمد الطاهر المنصوري من الباحثين الذين يحوزون دراية واسعة بتطور الكتابة التاريخية في العالمين العربي والغربي، وقد سمحت ترجماته المميزة بوضع المؤرخ العربي في خضم النقاش المنهجي الغربي بما يمكّنه من فهم التحولات التي طرأت على الدرس التاريخي والخلفيات الفكرية التي يستند إليها[9]، ومع أن وجود أسماء عربية كثيرة من المختصين في التاريخ قدمت رؤيتها في مسألة التحقيب؛ إلا أن اختيار عرض وجهة نظر هذا المؤرخ ومناقشتها مؤسس على تقدير أعماله وتميزها.
يرافع محمد الطاهر المنصوري على أن اعتماد التحقيب الرباعي للأوروبيين في الجامعات المغاربية له ما يبرره[10]، ومع تأكيده على أنّ المعالم التي استند إليها تم اختيارها من محطات مفصلية في تاريخ أوروبا، وأنه تحقيب محدود لا يمكن تعميمه على كل تاريخ الإنسانية، إلا أنه يرى فيه احتكاما إلى منطق داخلي يمكّن من اعتماده تحقيبا للحضارات المطلّة على البحر المتوسط، مع ضرورة مراعاة بعض الخصوصيات لكل حضارة، ويبرز هذا التداخل في تاريخ الحضارات المتوسطية حسبه؛ في أننا نجد فيه “جزءًا من تاريخ الفينيقيين، وجزءًا من تاريخ الرومان، وجزءًا من تاريخ البيزنطيين، وجزءًا من تاريخ الشعوب الجرمانية، ومن تاريخ العرب، وتاريخ البربر/الأمازيغ، والأتراك فيما بعد وغيرهم، فكيف نفصل كل هذه الكثافة التاريخية وننخرط في تحقيب مختلف؟” [11].
لقد حاول محمد الطاهر المنصوري أن يعطي دلالة جديدة لمصطلح العصر الوسيط بما يفرغه من محتواه المتمركز داخل تاريخ أوروبا، مقترحا اعتماد الدلالة الحضارية لهذه الحقبة بدل الدلالة الزمنية، وضمن هذا المفهوم قدم مطابقة بين بدايته عند الأوروبيين (سقوط روما) وبين افتكاك المسلمين زمام “المبادرة التاريخية” بتعبير المستشرق الفرنسي: أندريه ميكال/André Miquel، حيث أصبحت الحضارة الإسلامية هي المعطى المهيمن على فكر الناس ووجدانهم، وقد مثّل ظهورها وتفوقها نقلة في كل تاريخ المتوسط، بل إن توصيف العصور الوسطى الأوروبية بالمظلمة لم يكن إلا بالمقارنة مع الحضارة الإسلامية حسبه، وفي السياق ذاته يعترض محمد الطاهر المنصوري على اعتماد توصيف التاريخ الإسلامي بدل التاريخ الوسيط في التحقيب المعتمد في دول الجزيرة العربية اليوم، ويرى أنه يخرج هذا التاريخ من مجرى التاريخ العام ويجنح به نحو محلية ضيقة تضره ولا تنفعه، بل إنه يقصي مناطق إسلامية مثل تاريخ اليمن وتاريخ المماليك، ويعدّ مسايرة لرغبة الأوروبيين في إقصاء المسلمين وفاعليتهم، منتصرا لاختيار تحقيب التاريخ الوسيط وفق دلالة حضارية متوسطية[12].
إن رؤية المنصوري بقدر ما تحاول الانتصار لفاعلية المسلمين في العصر المسمى وسيطا، بقدر ما تختزن شعوا بعدم إمكانية منافسة التحقيب الأوروبي بالنظر إلى المنجز التاريخي الكبير الذي تبنّى هذا التحقيب وكتب من خلاله تاريخ حوض البحر المتوسط في مختلف الأزمنة، ولتطور المدارس التاريخية الغربية وخصوبة النقاش حول المناهج والمصادر، في وقت لم تستطع الكتابة التاريخية العربية أن تميز لها مدرسة واضحة المعالم، أو أن تتموقع داخل النقاشات العالمية التي تتجاوز في أغلب الحالات ما يكتب باللغة العربية، ما جعل هذا الرفض مجرد ركون إلى حالة تقوقع على الذات، ورغم ذلك فإن “إفراغ التحقيب العام من كلّ مدلول مرتبط بأحوال أوروبا الغربية لا يحلّ المشكلة من أساسها” كما نبّه عبد الله العروي لذلك من قبل[13].
إن المقارنة بين أثر حادثة سقوط روما على الفضاء المتوسطي وبين والانطلاقة الحضارية للإسلام التي أعادت تشكيل تاريخ هذا المجال يبين الفرق الكبير بين المعلمين، ويظهر بجلاء إصرار العقل الأوروبي على التمركز داخل ذاته وتاريخه، ولا يمكن اختزال حوالي قرنين من الزمن والجنوح إلى أن الحالة الإسلامية توافق سقوط مدينة كانت قد استنفذت دورها التاريخي في العالم المسيحي لصالح القسطنطينية، وبالقدر الذي يُخشى من تحويل التاريخ الإسلامي إلى تاريخ محلي بعيد عن المتغيرات الدولية، فإن الرؤية الأخرى تتهدد هذا التاريخ بوضعه ضمن قراءات تنظر إليه كمجال تأثرت به أوروبا، وليس كفاعل كانت أوروبا ضمن حلقة نشاطه الكبرى التي عمت مناطق واسعة منها، وحفّزتها للانخراط في مسالك سياسية وثقافية تمثل استجابة للتحديات التي أوجدها.
ولعل الملاحظة التي وجهها المنصوري لمن اعتمد على التحقيب الإسلامي في رفض مصطلح: العصر الوسيط ثم قبل بمصطلح العصر الحديث[14]؛ تعدّ ملاحظة مهمة، ذلك أنها تجنح إلى التقليد الذي رفضته، وتتنازل عن الخصوصية التي دافعت عنها، والذي رافعت عنه أعلاه أن العصر الإسلامي يمتد إلى غاية بداية الفترة الاستعمارية في القرن 12هـ/19م، والتي مثّلت نقلة بعيدة بما أحدثته من تغييرات جوهرية على المجتمعات الإسلامية كما شرحته، فلا وجود لخصوصية في الأزمنة المسماة حديثة في السياق لإسلامي من داخل البعد الحضاري القائم على فعالية الإسلام وشريعته.
ومع الوعي بما سبق تبيانه، يمكن القول أن ما يسمى عصرا وسيطا لو أنه اعتمد ظهور الإسلام وحركيته التاريخية وأثره في النقلة العميقة التي عاشها حوض المتوسط منطلقا له؛ لأمكن الجنوح إليه، على أن تعاد إضاءة خصوصيات هذه الحقبة بما يرفع عنها وهم المركزية الأوروبية ويعاد قراءتها مع التأكيد على الدور الجوهري للإسلام فيها، ودون ذلك سيستمر استبطان رؤية الأوروبي لتاريخ العالم حتى مع النقد الموجه له بسبب اعتماد تواريخه المعلمية الضيقة تحت ضغط هيمنته الفكرية اليوم، ولذلك أستحضر هنا النتيجة التي خلص إليها أحمد أبو شوك وهو يستعرض مختلف نظريات التحقيب للتاريخ الإسلامي؛ من أن التحقيب الأوروبي بشكله التقليدي “يساهم في طمس معالم الشعوب الأخرى، ويضعها في هامش المركزية الأوروبية، علما بأن الحقبة التاريخية ليست فترة فارغة المحتوى، بل مستبطنة من واقع تاريخي معين، ومن نظرة فلسفية أو دينية لمفهوم العلاقة الجدلية بين الله والكون والانسان”[15]، وأنبه أخيرا أنني لا أميل لفكرة التحقيب العالمي؛ انطلاقا من استحالة ذلك؛ لأن الإصرار عليه يدفع نحو قبول تصنيفات ملتبسة، وإبداع مركزيات مضادة ومتعددة، فالتاريخ قد سار في خطوط مختلفة، وخلف معالم وتحولات وعتبات متباينة، لذلك يمكن لكل حضارة أن تدرس تاريخها وفق التحقيب الذي يناسبها.
لابد من التنويه في الأخير إلى أن الاقتراحات التحقيبية العربية الأخرى، التي ارتبطت بالمدّ القومي العربي وأعادت قراءة دور الإسلام على أنه التجلي لصحوة العرب في محيطهم وثورتهم على الفرس والروم، أو تلك التي استبدلت المركزية الأوروبية بمركزية أخرى لبغداد أو مصر؛ وأعادت تفكيك العصر الإسلامي إلى جزئيات أصغر بحسب تقييمها لمحطات الصعود والنزول، أرى أنها تفتقد إلى القدرة على التعميم الذي يسمح بإيضاح ملمح عام للحقبة الزمنية المحددة، ذلك أن مسار الغرب الإسلامي لم يكن مطابقا لمشرقة، وفي الوقت الذي تفككت فيه دولة السلاجقة كان الموحدون يحققون أحد أهم النماذج الوحدوية، كما أن الاستنزاف الذي تسببت فيه الإمارات الصليبية بالشام لا يمكنه أن يعبر على حالة الأندلس الإسلامية في ذات الفترة، ولذلك يبدو أن الحديث عن مجتمعات الشريعة في العصر الإسلامي الممتد إلى عصر الهيمنة الاستعمارية يمتلك مبررات بالغة الأهمية لاعتماده وقراءة تاريخ هذه المرحلة من تاريخ أمة الإسلام على ضوئه، دون تجاوز الخصوصيات المجتمعية والثقافية.
5-مجرى التاريخ: حدود القطيعة وملامح الاستمرارية
إن الحديث عن القطيعة بين زمنين متباينين في التحقيب التاريخي لا يشير إلى إمكانية الفصل التام بينهما، ولا يدلّ على حالة من التناقض تعمّ كل المستويات، بل إنه يتعلق بالملامح العامة التي تصبغ عصرا من العصور، ولذلك ينبغي في البحث التاريخي استحضار امتدادات موروث العصر السابق في اللاحق، واستمرار فاعلية مؤسساته وتأثيرها في سياق تشكل المؤسسات الجديدة، فالجديد يختزن تفاعلات القديم وتطوره المتدرج، وفي كثير من الحالات لا يمكن فهم حقيقة التغيرات التي ندرسها إلا إذا نزلنا في الزمن بحثا عن جذورها ومقدماتها.
إن هذا التقديم يؤسس للقول إن الفهم العميق للتغيرات التي تحدث في مسار التاريخ يؤكد أن القطيعة المعرفية أو الوقائعية الدافعة للتمييز والتحقيب إنما تتواجد داخل الاستمرارية ذاتها التي تربط حلقات التاريخ بعضها ببعض، وأن التقسيم الحدّي الذي يستكين إلى أن التمايزات الموجودة داخل الحقب تسمح بدراسة كل فترة مستقلة عن الأخرى هو من مكامن الخلل في مناهج التاريخ اليوم، بحيث أصبح المتخصص في عصر محدد (وفق التحقيب الأوروبي الذي تعتمده جامعاتنا) لا دراية له بما قبله، ولا تطلّع له لامتلاك أدواته، وهذا من ملامح القصور في دراسات العصر الإسلامي ببلاد المغرب.
إن التأكيد على أن لحظة الفتح الإسلامي لبلاد المغرب تمثل علامة فاصلة بين زمنين، لا يستوجب النظر إلى أن تاريخا مستأنفا مستقلا تماما عن ما قبله قد بدأ بمجرد تفكير عمرو بن العاص في التوسع غربا باتجاه برقة، فمثل هذا التصور حول مفهوم القطيعة التاريخية قد أدى إلى منطلقات خاطئة في فهم الوقائع التالية لهذا القرار الذي دشّن تغيرا عميقا؛ سريعا ولكن متدرجا، حيث تم تجاوز المرحلة السابقة للإسلام إلا من تقريرات عامة وغامضة لا تسمح بفهم طريقة الانتقال من زمن لآخر، وكأن التاريخ الإسلامي للشمال الإفريقي يمكن القبض على نقطة بداية له في القرن 1هـ/7م، بينما تستمر في الحقيقة الكثير من خصوصيات العصر السابق فاعلة في مجراه ومؤثرة في صناعة حوادثه، ذلك أن التفاعل مع الإسلام قد تم من خلال ذات المجتمعات التي ورثت عن الفترة ما قبل الإسلامية نظمها الاجتماعية والاقتصادية وأساليب الانتظام والإدارة القبلية، كما أن موروث تاريخها الديني والسياسي وطبيعة العلاقات التي ربطتها بالشعوب المحيطة بها هو الذي شكّل مواقفها المتباينة من الفتح وأعاد بناء تحالفاتها التي سيرثها العصر الإسلامي.
قد يبدو التأكيد على ضرورة التعاطي مع التحقيب الزمني بطريقة مرنة تتجاوز القطيعة الحديّة نحو القطيعة المتشكلة تدريجيا في ظل الاستمرارية نوعا من الدعوة إلى تجاوز التحقيب، وتصورا مستبطنا بغياب أهميته في الدرس التاريخي، وربّما إشارة إلى اعتباره تضييعا “للحقيقة التاريخية” بتقطيع سيرورتها، والذي يبدو لي أن الفصل التام بين الحقب التاريخية بحيث لا يلتفت الباحث إلى ما قبل العصر الذي يدرسه يؤدي إلى هذا الخلل المنهجي، لذلك ينبغي التأكيد أن القطيعة الكاملة مجرد توهّم لا وجود له.
إن التحقيب التاريخي ليس مجرد ترتيب عقلي شبيه بتقسيم الزمن إلى ساعات وأيام وأسابيع وأشهر وسنوات، فهذا الترتيب آلية لجأ إليها الانسان لمنح المعنى للزمن، بينما يؤدي التحقيب التاريخي ذات الوظيفة لقراءة ما ندرسه، ولكن بالنظر إلى سياق التبلور والقوى الفاعلة في المرحلة المدروسة، دون أن يعني تجاوز الجذور، بل من الضروري فهم المراحل السابقة التي لا يمكن استيعاب جزئيات وكليات الموضوع المدروس إلا من خلالها، فهو تقسيم زمني يظهر دوما بالعلاقة بين محطاته، كأنك تدرك أن الساعات والأشهر المتتالية تمتلك خصوصيها ليس من ذاتها فقط، بل من الزمن الذي قبلها.
جادلت بعض الأبحاث حول أهمية استحضار الفترة ما قبل الإسلامية في دراسة تاريخ المغرب الإسلامي، معللة ذلك بالغموض الذي يلفّ الكثير من مجالات الشمال الإفريقي في القرن 6م، إذ أن مقارنة بين آخر مصادرنا في الفترة القديمة وأولها في الفترة الإسلامية تبرز –غالبا- قطيعة شبه تامة بين مصطلحات الفترتين ذات الدلالة الاجتماعية والسياسية، فقد غابت أسماء كان يمكن لها أن توضح جذور الكثير من المجموعات السكانية المغاربية، مثل أسماء الإمارات المورية المعروفة في القرن السادس الميلادي، أو غيرها من التشكيلات القبلية، وهذا ما جعل يوسف عيبش –المختص في مرحلة الوجود البيزنطي- يتساءل عن إمكانية حدوث تحول اجتماعي كبير، يكون قد حصل خلال هذه الفترة الانتقالية، دون أن ترصده لنا المصادر أو تنبهنا إليه[16].
إن الانطلاق من منطق الاستمرارية التاريخية ورفض فكرة القطيعة الحدّية في التحقيب التاريخي لا يعني الركون إلى دراسة المرحلة القريبة فقط (العتبات الانتقالية بين الحقب التاريخية)، ذلك أن عملية العودة إلى الوراء بحثا عن ما يمكن توظيفه في فهم الأوضاع والتغيرات وتفكيك خلفيات التحالفات أو طبيعة النشاط الاقتصادي والترتيب الاجتماعي قد يمتد لمرحلة طويلة في عمق الحقبة الأسبق، وهنا لا يتعلق الأمر بالنصوص الأدبية فقط، بل باستحضار النقوش والبحث الأنوماستيكي وتقدير مدد التعمير البشري، وهذا يمنحنا مقاربات ذات أهمية بالغة، فالعبرة ليست بالمدد الزمنية بل بمدى وجود امتداد لفاعلية بشرية أو دينية أو اقتصادية، ومن ذلك البحث عن جذور القبائل والكنفدراليات القبلية البربرية/الأمازيغية والعلاقة بينها، وأثر خط اللّيمس على هذه التحالفات، ودور الطرق في العهد الروماني على تشكيل صورة التبادل الاقتصادي ورسم مشهد التعمير، والعلاقة بين مسار انتشار الإسلام وبين الخريطة الدينية بالمنطقة، وغيرها من القضايا البحثية التي تنتهي قراءتها داخل العصر الإسلامي فقط إلى مجرد ملامح عامة تصف ولا تفسر.
إن هذه النتيجة التي أقررها هنا تحيل إلى حتمية اشتغال الباحث في تاريخ المغرب الإسلامي على تاريخ وآثار المرحلة السابقة له، باستغلال النقوش، وتوظيف المصادر الأدبية اليونانية واللاتينية، واستحضار دلالات أسماء الأماكن والمجموعات القبلية (الطوبونيميا والإثنونيميا) التي يجب إتقان مختلف متغيرات الأمازيغية لإعطاء تفسيرات صحيحة لها، وهذا ما يستدعي تطويرا في أدوات البحث التاريخي للمختص في مرحلة المغرب الإسلامي، وتجديدا في مناهج تدريسه لأجل تعميق الأبحاث وتطويرها والابتعاد عن مظاهر التكرار لذات المقاربات المستهلكة التي لم تعد تقدم الإضافة العلمية المطلوبة.
[1]– أحمد أبو شوك، “مشكلة التحقيب: التاريخ العربي الإسلامي أنموذجا”، نشر في: التأريخ العربي وتاريخ العرب كيف كتب وكيف يكتب؟ الإجابات الممكنة، إعداد وتنسيق وجيه كوثراني، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017، ص: 83.
[2]– عبد الحميد هنية، “حول التحقيب التاريخي”، ندوة أسطور: التحقيب في التاريخ العربي الإسلامي، نشرت في: أسطور، 3(2016)، ص: 225.
[3]– للتوسع حول معالم التحقيب بالحوادث (المدرسة الوضعية) والتحقيب بالظواهر (المدرسة الماركسية) راجع: محمد الطاهر المنصوري، “منطق التحقيب التاريخي”، ندوة أسطور: التحقيب في التاريخ العربي الإسلامي، نشرت في: أسطور، 3(2016)، ص: 228-233.
[4]– محمد حبيدة، “التحقيب وكتابة تاريخ المغرب”، أسطور، 19(2023)، ص: 8.
[5]– حول البعد الإبستمولوجي للتحقيب الغربي انظر: أحمد أبو شوك، “مشكلة التحقيب: التاريخ العربي الإسلامي أنموذجا”، ص: 85-88.
[6]– جاك لوغوف، هل يجب حقا تقطيع التاريخ شرائح، ط2، تر: الهادي التيمومي، المنامة، هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2022، ص:29
[7]– حول تبلور مفهوم العصر الوسيط واعتماده في الحقل المدرسي بأوروبا انطلاقا من ألمانيا انظر: عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، ط4، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2005، ص: 273-274.
[8]– حول هذه الاقتراحات انظر: أحمد أبو شوك، “مشكلة التحقيب: التاريخ العربي الإسلامي أنموذجا”، ص: 91-96.
[9]– المقصود هنا ترجمته لـــ: جاك لوغوف، التاريخ الجديد، تر: محمد الطاهر المنصوري، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2007؛ فرانسوا دوس، التاريخ المفتت من الحوليات إلى التاريخ الجديد، تر: محمد الطاهر المنصوري، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009.
[10]– من مؤلفات محمد الطاهر المنصوري التي اعتمد فيها هذا التحقيب في بناء رؤيته التاريخية كتابه: تونس في العصر الوسيط: إفريقية من الإمارة التابعة إلى السلطنة المستقلة، تونس، دار صامد، 2015 (287صفحة).
[11]– محمد الطاهر المنصوري، “منطق التحقيب التاريخي”، ص: 234.
[12]– المرجع نفسه؛ ص: 235.
[13]– عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، ص: 278.
[14]– المرجع نفسه؛ ص: 135.
[15]– أحمد أبو شوك، “مشكلة التحقيب: التاريخ العربي الإسلامي أنموذجا”، ص: 98.
[16]– يوسف عيبش، الاحتلال البيزنطي لبلاد المغرب دراسة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، الجزائر، دار بهاء الدين، الأردن، عالم الكتاب الحديث، 2009، ص :233،296.