حصريا

الافتتاحية : العلم والعبادة زمن الهَرْج – بن جدو بلخير

0 326

خُتم الإسلام بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بعد أن أدّى الأمانة وبلّغ الرسالة، فكانت شريعته تامّة مُفصَّلةً: إمّا نصًّا، وإمّا دِلالةً، على سبيل الإجمال أو على سبيل التفصيل، بحيث تصلح لكل زمان ومكان؛ لم يُفرَّط فيها من شيء يعوزه الناس إلا وجدوا فيه لأمرهم ذِكرا وبيانا؛ على ما يستنبطه أولو العلم.
ولا يزال الزمان يتغيّر، وشؤون الناس تتبدّل، وتنزل بهم النازلة التي لم يشهدها زمن النبوَّة، وتطرأ عليهم الحادثة مما لم يعرفها من مضى من الأمم، وفي كل ذلك يُهيِّئ الله من رجاله ممّن أوتوا العلم حقا، فيفتون عن الله في دين الله من كتابه وسنة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال الإمام الشافعي في رسالته العظيمة : (فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله؛ الدليلُ على سبيل الهدى فيها)
ولم يخلُ زمنٌ من عالمٍ قائمٍ لله بالحجة، بل في كل قرنٍ من الزمن يبعثُ الله مَن يجدِّدُ هذا الدين؛ لئلا يكون للناس على الله حجّة، وهذه النوازل كما كانت في حوادث الناس وفروع الفقه؛ كانت أيضا في أصول الاستدلال، ولذلك عَدَّ بعض العلماء احتجاج الإمام مالك رضي الله عنه بعمل أهل المدينة؛ نازلة علمية، وطريقة جديدة في استنباط الأحكام، وهذا يدل على مرونة الشريعة وشموليتها لطرائق التفكير والاستنباط
والمراد؛ أن العلماء قد استنزفوا عقولهم ليؤدّوا الأمانة في أحسن أداء، ويبلُغوا بالشريعة مبلغَ التَّمام؛ حتى تكون على مُراد الله ومُراد نبيّه صلى الله وآله وسلم؛ تقريرًا للأصل المُتَّفَق عليه “أن الشرائع إنما جيء بها لمصالح العباد، فالأمر والنهي والتخيير بينها؛ راجعةٌ إلى حفظ المكلف ومصالحه” على ما قرّره الشاطبي في موافقاته.
والنازلة الشديدة والفتنة العظيمة يجتمع لها أولو الرأي، ولما كان الناس قد اختلطت عليهم مصادر العلم، وكثُر عليهم أدعياؤه، كان لابدّ من صحوةٍ تذكّرهم بمصادرهم، وتُعلِّقهم بعلمائهم…

وقديمًا؛ أحسّ الشافعي –رضي الله عنه –بشيءٍ قريبٍ من هذا، فألَّف رسالته بسبب “أنه رأى قوماً من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يُسوِّغه الشرع بالقياس الذي أثبته، فلا يميزون واحداً منها من الآخر، ويسمونه تارة بالاستحسان وأعني بالرَّأي أن ينصب مظنة حرج أو مصلحة علة لحكم وإنما القياس أن تخرج العلة من الحكم المنصوص ويُدار عليها الحكم… وبالجملة لما رأى في صنيع الأوائل مثل هذه الأمور، أخذ الفقه من الرأس، فأسَّس الأصول، وفرَّع الفروع وصنَّف الكتب فأجاد وأفاد”إ.هـ(1) فماذا يقال الآن؛ والناس يخلطون الشرع بقوانينَ وضعية، يستمدّون التشريع من غير نصوص الوحيين أو يجمعون للفتوى من ليس لها بأهل، أو تحت تأثير السلطان!
والواقع أظهر أنه يفتقر إلى علماءَ يؤصِّلون لفقه التمكين، في حين انتشر أنصاف العلماء والمحلّلين، وصدق فينا الخبر النبوي من علامات الساعة: انتشار الخطباء وقلة الفقهاء، والعالم المؤصِّل عزَّ وجوده للأسف..!
ونرى كثيرًا من النوازل ينفرد لها العالم أو يحتقرها الحاكم؛ فلا يُأبَه لها، ففي خبر الوباء الذي انتشر في الشام زمن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – استفتى عمر المهاجرين ثم الأمصار ثم مشيخة قريش من مُهاجِرة الفتح!، قال ابن عبد البَرّ في التمهيد : (وفيه دليلٌ على أن الإمام والحاكم إذا نزلت به نازلةٌ لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة، كان عليه أن يجمع العلماء وذوي الرأي ويشاورهم) إ.هـ
ثم تأمّل أن النّبي صلى الله عليه وسلم قد قدَّم كثيرا من التنازلات لأن المآل مُعتبَرٌ شرعًا، قال النبي مُجتنبًا قتلَ المنافقين ((أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه )) ، وقوله لعائشة رضي الله عنها في قضية إعادة بناء الكعبة : (( لولا حداثةُ عهد قومك بالكفر، لنقضتُ الكعبة،ولجعلتها على أساس إبراهيم) .
وادّعاء المصلحة كثيرا ما يلتبس بالهوى، والاستصلاح أصلٌ كُلِّيٌّ يرجع إليه المجتهد في الترجيح، ولكنه لا يتأتّى إلا لمن ملك ناصية الاجتهاد باقتدارٍ، فإن النفس تميل إلى هواها؛ تعتبره مصلحةً مقصودةً، والتحرّي ليس لآحاد الناس ودهمائهم، وإلا فُتح بابٌ من الشرِّ عظيم قد لا يوصَد.
وهنا يُلزَم المجتهد بأن يكون على قدرٍ كبير من فقه الواقع، والنفوذ إلى حقيقته والإحاطة بحيثياته، ويضطر المفتي النظر إلى الواقع بعينٍ غير العين التي يراها مجتهدٌ في مكان آخر، ولا يعني هذا اضطراب الفتوى؛ بل العكس من ذلك هو الصحيح، فهذا دليل على ملاءمة الشريعة لكل زمان ومكان؛ ودليلُ مرونة، قالت العلماء من أهل الأصول : (لا يُنكَر تغيّر الأحكام بتغير الأزمان)..هذه قاعدةٌ صحيحة، لكنها من الخطورة بمكان، بحيث لا ينبغي استخدامها إلا لأهل الاجتهاد الحقّ، فقد يمتطيها المنهزمون لتغيير الأحكام على أهوائهم بدعوى تغيّر الزمان !
ونحن نرى أن الزمن لم يعد يسمح بوجود مجتهدٍ مطلق؛ لظهور كثيرٍ من العلوم، واختلاف طبائع الناس وتوسّع الدول،إذْ لا هيثمَ اللّيلةَ للمَطيّ!، فكان لابدّ من اجتماع العلماء؛ كلٌّ بحسب تخصصه ضمن منظومة علمية متكاملة لإصدار فتاوى مؤصَّلة، تقطع الألسنة الوالغة في الواقع، وهذا الواقع مهما تأخر عن زمن النبوّة فإن تفاصيله مبثوثة في أثناء النصوص تحت أصولٍ عامّةٍ من التؤدة والتصبّر والتدرّج والتزوّد بالعبادة وطاعة العلماء، ليواجه المجتمع الإسلامي نوازلَه، يقول الطاهر بن عاشور في مقاصده (فاستعداد الإنسان للكمال وسعيه إليه يحصل بالتدرج في مدارج تزكية النفس، ولنا من تطوّر التشريع من ابتداء البعثة إلى ما بعد الهجرة هادٍ يهدينا إلى مقصد الشريعة من الوصول إلى الإصلاح المطلوب )
وعلى العبد زمنَ النّوازل وكثرة الفتن أن يتدرّع بالعلم والعبادة ليُوَفّق إلى تحقيق أمر الله في الأرض التي استخلِف فيها، ففي الحديث الصحيح : (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا ” أَنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ “. قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: ” الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ “. قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ. قَالَ: ” إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ “. قَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ ومَعَنَا عُقُولُنَا قَالَ: ” لَا. إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذلكُم الزَّمَانِ حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ ” وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ تُدْرِكَنِي وَإِيَّاكُمْ تِلْكَ الْأُمُورُ، وَمَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجًا فِيمَا عَهِدَ إِلَيْنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْنَاهَا، لَمْ نُحْدِثْ فِيهَا شَيْئًا)
وبالجهل تستشري الفتن وتتجذّر، ودواؤها العلم، وبالفتن تقسو القلوب وتتحجّر وطِبّها العبادة
والنازلة الشديدة والفتنة العظيمة يجتمع لها أولو الرأي،فجناح الإصلاح الذي ينبغي ألا نغفُل عنه هو العبادة، يقول الله تعالى : أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون) فجعل العبادة عَلَمًا على العلم
وفي الصحيح: قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد قام ذات ليلةٍ فزِعا : “سبُحان الله؛ ماذا أُنزل الليلة من الفتن؛ أيقظوا صواحب الحُجرات، رُبَّ كاسيةٍ في الدُنيا عاريةٌ في الآخرة).فأوصى بقيام الليل لأنه سبيلُ نجاة.
وفي العلم والعبادة نجوةٌ للعباد من العذاب؛ وبهما يحلّ الأمن يقول الله تعالى : (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) قال أهل التفسير : لم يُشركوا فهم آمنون من العذاب ، والهدى في الحجة بالمعرفة والاستقامة!
ويجرُّنا ذكر الآية إلى مطلب الأمن، فهو مطلب البشرية جمعاء، والأمن من الإيمان، وسبيله أداء الأمانة التي كُتب على البشرية حملها ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) وهي الإسلام في أكمل صورة، وهذا لا يحصل إلا بالعلم الصحيح والعبادة السليمة، وكل مسلمٍ هو رجلُ أمنٍ على أمّته؛ كلٌّ بحسب موضعه في المجتمع، وكل ما في الكون مسخَّر لتحقيق هذا الأمر (وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه)
وهاؤم الغرب يبدو للناس أنهم في أمنٍ، إلا أن حقيقة الأمر تنفي هذا الظاهر، فهم أبدًا يعيشون على تخوُّف وتجسّس وسباقُ تسلّح، ويُشاع بينهم المنكر والانتحار لأن الإيمان بالله والطمأنينة به منعدمٌ، فانعدم الأمن انعدامَ النتيجة عن موجبها..
وبعدُ : فخير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه سلم القائل : (والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يُعَظِّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتُهُم إياها) فعلى العامة أن تَسْتَنْبِئ العلماء، وعلى العلماء ألا يَعتسِفهم السلطان عن ميثاقهم الذي أُخِذ عنهم في تبيان الحق! وميثاقه: أن يستقصيَّ العالم السُّنن والاثار، ويتسقّط الأقيسة، ويحترث كلام الأئمة، ويتوخَّى الحقيقة ليشرُف على الحق؛ مميزًا إياه عن الباطل، يتبصّر مرادَ الله الخافي عن عامة الخلق، وهنا فتنةٌ أخرى تنبَّأ بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحذرنا من الرُّويبضة، فحقيقٌ بمن أوتي حظًّا من العلم أن يرتفع عن التقليد، فينأى بنفسه أن يُطعَم، ولئن قصُرت نفسه عن بلوغ الاجتهاد، فليسبح في لُجَّة العلم مُتَّبِعًا سائلًا مُستبصِرًا أدلة القوم حتى ينقدح في قلبه أن الحق في قولٍ دون غيره، فعسى حينها أن يكون ممن سدَّد وقارب، فكُرِّم بالقبول وإن لم يُصِب، قال الإمام الشافعي في رسالته : ( والناس في العلم طبقات، موقعُهم من العلم بقدْر درجاتهم في العلم به،فحُقَّ على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدِهم في الاستكثار من علمه، والصبرُ على كل عارضٍ دون طَلَبِه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه: نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يُدرَك خيرٌ إلا بعونه،فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علِم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونَوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة) إ.هـ. وعلى البشرية إن أرادت النجاة أن تتَّبع القرآن إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ..وصدق الله ..والسلام

وكتب
المُتحنِّنُ إليهم
بن جدو بلخير

(1)الدهلوي في “حجة الله البالغة”


 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.