الإلزام بالأحكام -أ. بلخير بن جدو

الإلزام بالأحكام
أ. بلخير بن جدو
مُفتتح القول : النّفاق ظاهرةٌ طبيعية ودليلُ صحّةٍ !
جاءت الشريعة الإسلامية مُحكَمَةً، واستقى العلماء من مَعين القرآن والسنة ألفاظًا تُنبِئ عن الحكمة والإحكام، فقالوا: هذا حكمٌ شرعيٌّ: يريدون به الإلزام؛ سواءٌ على سبيل الوجوب والاستحباب أو على سبيل الحرمة والكراهة
وقالوا هذا واجبٌ : إذا كان الحكم مُلزِمًا قال تعالى: (فإذا وَجَبَت جنوبها) أي سقطت لازمةً محلّها، ثم فرّقوا بين نوعي الإلزام في الكراهة والاستحباب على ما تقتضيه النصوص الشرعية ومعانيها وسياقاتها ومقاصدها؛ كلّ ذلك وِفق قانون اللسان العربي الذي أنزِل به القرآن .
وعلى هذا كان عمل النّبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ وتأدية المهمّة المنوطة به؛ حثُّ الناس على العمل بالإسلام وألزمهم به؛ وعاقب وتوعّد المخالِف والمُنكِر؛ ليكون الدِّين كله لله؛ فأدّى الأمانة وبلّغ الرسالة حتى رضي الله عنه تمام الرِّضى؛ وصلّى عليه وسّلم، ومع ذلك ظهر النّفاق وتأذّى منه؛ هو وصحابته رضوان الله عليهم، فهل كان الأمر طبيعيا أم شيئا غريبا ؟
لا ريب أن ظهور النفاق أمرٌ طبيعي ودليلُ صحّة، وهو نتيجةٌ حتميةٌ لبسط نفوذ الإسلام، فالاعتراض واقعٌ لا محالة،ولأن الشريعة حاكمةٌ قاضيةٌ؛ اضطرَّ هذا المُعترِض لإخفاء عقيدته – خوفًا ورهبًا- من سلطان الشريعة وسيفها المسلول.
ولأن سلطان الشريعة قائمٌ؛ تحايَل العاصي لإخفاء معصيته خوفًا من الحدود، ومن أظهرها عُوقب ردعًا للمجاهر والمستهِتر، ودرءً لإشاعة المعصية وابتذالها ..وكان في هذا خيرٌ للعاصي ولمجموع الأمة، فإن الله تجاوز عن المُستتِر وأعفاه من العقاب دون المُجاهِر.
وهذا العِفاء من العِقاب للمُتَسَتَّر هو سماحة الإسلام، والأخذ بالظاهر هو معنى قيام سلطان الشريعة،وهذا ما يتجلّى من علم أبي بكر رضي الله عنه حين قام بمقاتلة مانعي الزّكاة تحقيقًا منه لبقاء سلطانها، ودرءُ الحدود بالشبهات هو معنى ملائمة الإسلام لملابسات الواقع ، فالمرأة التي زنت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كان يُماطلها، فلو أبَت العودة لَمَا لزمها الرّجم!
فلمّا تهاوى سلطان الشريعة:صرّح أهلُ المكر بمُعتقدِهم، واعتدوا على النصوص المُحكمة بالعبث والتأويل السقيم؛ واستعلنوا النفاق الذي كان يكتمه المتقدِّمون أيام قيام سلطان الإسلام (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولّى فريقٌ منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين)
وهؤلاء الليبراليون والعالمانيون ومَن في خطّهم: مَثَلٌ ودليل؛ فلأجل أنهم أمِنوا العقاب وتيقّن عندهم غياب سلطان الشريعة :استقووا بحرية الرّأي؛ فأعلنوا الحرب على الله، وعبثوا بنصوص الشرع بفهومهم السقيمة؛ وتحاكموا إلى الحداثة التي تُجرّدهم من الإنسانية والعبودية لله؛ فاستحالوا إلى كوائنٍ مُضادَّةٍ للإسلام
يقول ابراهيم صادق عرجون :
(وما قيمة الشرائع في حياة الناس إن لم يكونوا بأعمالهم في هذه الحياة معنًى لألفاظها و قالبًا لحقيقتها ومثلًا مكيفة في تطبيق نصوصها ).
ومن قبله قالت علماء المقاصد كالطوفي الحنبلي :
( المقصود من وضع الشريعة امتثال المكلفين لأحكامها قولا وعملا)
وقال الشاطبي : (المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلّف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبدٌ لله اضطرارًا)
فالأصل في الإيمان أنه مبنيٌ على الغيب،(الذين يؤمنون بالغيب)،والأصل في الإسلام أنه مبنيٌّ على التسليم (فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثمَّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلمِّوا تسليما )
و التسليم لله هو أعظم أثرٍ للإيمان بالله؛ فما مِن حكمٍ أنزله الله على عباده: امتثل له المسلمون مطيعين سواءٌ عليهم أفقهوا العلة من الحكم أم لم يفقهوا؟ قال الله تعالى في المنافقين وعموم الكفار : (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)
فثبت بتقريرات العلماء أن الأصلَ التسليمُ للنّص سواءٌ علينا أدركنا العلة أم حُجبت عنّا، والأصل العمل بالظاهر سواءٌ علينا أدركنا مقاصد الشارع ومراميه أم قَصُرت عقولنا عن ذلك، قال الشاطبي في موافقاته ( دعوى أن مقصود الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يُفهم منها؛ وإنما المقصود أمر آخر وراءه ويَطَّرِد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها مُتمَسَّكٌ أن يُلتمس منه معرفة مقاصد الشارع : وهذا رأيُ كلّ قاصد لإبطال الشريعة) ويظهر هذا في تربية النبي صلى الله عليه و سلم لصحبه فإنه كان يعلم بنفاق البعض لكنه لم يُحاكمهم لأن معرفة بواطنهم كان خاصًّا به – صلى الله عليه وسلم – من دون الناس؛ فاحتكم للظاهر وربّى الصحابة على ذلك ( لا يتحدّث الناسُ أنَّ محمدًا يقتل أصحابه )
ولغياب سلطان الشريعة للأسف؛ نبتت نابتةُ سوءٍ تزعُم تعظيم القرآن؛ لكنها تعترض على السنة بدعوى مناقضتها للقرآن،فاستهزؤوا ببعض الشرائع كالأضحية وغيرها؛وتسوّروا كتب السنة خاصة “صحيح البخاري” بجهلٍ وتعالم، ينتقضون صحته بادِّعاء معارضته للقرآن؛ وهذه الدعوى باطلةٌ؛ لأنها قامت على سوق الوهم والجهل؛ فالسنة لم تكن يوما مناقضة للقرآن بل هي مفسِّرة له: شارحةٌ ومفصِّلة، والوهم في التناقض إنما هو في عقل من احتكم إلى وساوس نفسه، وأحسن الظن بعقله فلم يتأسَّ بالعلماء، وبنوا حريتهم على قول الله تعالى (لا إكراه في الدِّين) واحتملوا من الآية الكريمة ما لا تحتمل، وذهبوا في تفسيرها غير الذي أُرِيد منها؛ وفهمه أهل التأويل، فظنوا أن المُراد هو الحرية المطلقة وأن تفعل ما تشاء بحسب ما يُمليه عليك واقعك، وأن الزّمن غير الزّمن؛ فليس آخر الزّمان كأوّله؛ وهذا فهمٌ سقيم؛ وجنايةٌ على القرآن الكريم وتأويلات العلماء المُعتبَرين لمفهوم الإكراه الوارد؛ فهو خاص بالكفار الأصليين إن لم يدفعوا الجزية؛ ولا تختصّ بالمسلمين مادام أنهم قد رضوا بالإسلام، فالاحتكام إلى الدين الذي اخترته ليس إكراهًا،كيف وأنت مسلمٌ طواعيةً!؟
وكلّ دينٍ؛ بَلْهَ كل دستور إلا وفيه قانون مُلزِمٌ للرعية، أفيكون هذا إكراهًا ؟ وهذه القوانين صادقت عليها الأكثرية؛ أفتكون الأقلية تحت الإكراه ؟ لم يقل بهذا أحدٌ، فليس لهم في الآية مُتشبَّثٌ إلا العبثْ.
ولا يدفع قيظ هذا الجهل والاعتداء على الشريعة إلا انتهاضُ طلبةٍ من العلم : مخلصون صادقون جادّون، ينفون عن هذه الشريعة الغرّاءِ الزَّيفَ والتَّجنّي
وبعدُ:
فإذا كان يَحسُن – وقد يجب- على المُتفقِّهة أن يحتكموا إلى العادة –والعادة مُحَكَّمة- ما اتَّسقت مع أصول الشريعة؛ فمن باب أولى أن يسير غيرهم على دين المجتمع؛ وما ألِفوه من عادات وعبادات؛ لا أن يركبوا المُغَمِّضَةَ فيخبطوا بها خبط عشواء؛ فلا دينهم اتبعوا؛ ولا لعالَمانيتهم أخلصوا؛ ولا على مجتمعهم حافظوا..
و: بعض القول ليس له عِياجٌ / كمَخْض الماء ليس له إتاءُ *…والسلام
و كتب المُتحنِّنُ إليهم
بن جدو بلخير
*البيت لقيس بن الخطيم؛ وهو مُخرَّجٌ في ديوانه
هذا كتاب مستطاب ، وإن أصدق الأقلام ما انبعث فيه صاحبه عن همٍّ أو حرّكته الآلام
ولاسيما في الذب عن الدين،أو دفع تهويشات المُبطلين ، وتشويهات المغرضين
صديقي الوفي الشيخ بلخير ..طبت ذخرًا لأمتك، قوالا بالصدق
وطاب قلمك سيالًا بشآبيب الحق