الأمة الإسلامية والحاجة إلى ثقافة الاختلاف – الجزء الثاني في أسباب الاختلاف وقواعد تدبيره
الأمة الإسلامية والحاجة إلى ثقافة الاختلاف – الجزء الثاني
في أسباب الاختلاف وقواعد تدبيره
الدكتور محمد شاكر المودني
أستاذ التعليم العالي – مكناس/المغرب
تمهيد:
رأينا في الجزء الأول من هذا المقال أن الحديث عن الاختلاف لا يعني إرساء ثقافة التجزئة والتفرقة، بل يهدف أساسا إلى جسر الهوة من أجل وحدة الأمة وحفظ إمكاناتها وصيانة طاقتها،كما يهدف إلى إرساء قواعد التعايش والتساكن، وإشاعة ثقافة الحوار والتواصل..
فقد رأينا كيف وقع الاختلاف في عهد الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وكيف نجحوا في تجاوز أغلبه وأخفقوا في بعضه كاقتتال علي ومعاوية رضي الله عنهما، كما رأينا كيف وقع الاختلاف في تاريخ الأمة بين من جاء بعد الصحابة من التابعين وتابعيهم إلى يوم الناس هذا..، وكيف دبرت الأمة كل صور الاختلاف واستطاعت تجنب تداعياته وآثاره السلبية في الغالب. وبقدر ما كان الاختلاف ثقافة ووعيا راسخا حافظ على وحدة الأمة إلى حد كبير وورث زخما معرفيا وإنجازا حضاريا يشهد له تاريخ الأمة وينطق به واقعها وحاضرها، بقدر ما ضمر اليوم وعلا صوت التفرقة والشتات والتشرذم، ونطق واقع التخلف والتراجع والنكوص الحضاري!
فما هي أسباب الاختلاف؟ وكيف السبيل إلى تدبيره وتحويله إلى رافعة للتنمية وداعم لحركة الاجتهاد والتجديد، ومرتكزا لانبعاث جديد للأمة الإسلامية؟ أليس المطلوب منا اليوم أن يحترم بعضنا بعضا؛ نتعاون فيما تفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه؟ بل ويستمر تعايشنا وحوارنا لإنجاز الوحدة المطلوبة، حيث يكون الاختلاف تنوعا وتكاملا وفعلا بانيا؟..
تلكم بعض الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها من خلال محورين:
أولا – أسباب الاختلاف:
ثانيا- قواعد في تدبير الاختلاف:
أولا – أسباب الاختلاف:
هناك اختلافات ترجع أسبابها إلى ما هو علمي، وأخرى إلى ما هو أخلاقي، وثالثة إلى ما هو منهجي:
- اختلافات أسبابها علمية:
وهذه علتها راجعة إلى الجهل أساسا، أو إلى ضعف المستوى العلمي وهذا يتعلق بالشخص ذاته.
ويمكن أن تكون العلة خارج الذات متعلقة بالمادة العلمية بحيث وجدنا في تاريخ الأمة من العلماء من لم يصله دليل شرعي فأفتى في النازلة برأيه اجتهادا، أو يصله لكنه يضعفه ولا يعمل به في حين اعتمده غيره، وهكذا..
فوجدنا الإمام مالك مثلا يقول: “كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر”[1] –ويقصد قبر الرسول صلى الله عليه وسلم-، وكان الإمام الشافعي يقول: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”، بمعنى قد يوجد الحديث الصحيح وهو لم يصله فهو مذهبه لا ما اجتهد فيه، أو بلغه الحديث ولكنه لم يثبت عنده، أو اعتقد ضعفه..، ومن ذلك ما اشتهر عنه رحمه الله منقوله للإمام أحمد: “إذا صح عندكم الحديث فأعلمونا به لنأخذ به ونترك كل قول قلناه أو قاله غيرنافإنكم أحفظ للحديث، ونحن أعلم به”[2].
كما أن الدليل أحيانا قد تكون دلالته ظنية، فيختلف العلماء في إفادة الأحكام منه رغم أنه قطعي في ثبوته كما في قوله تعالى: ]والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء](سورة البقرة: الآية 228)، فدل القرء على الطهر وعلى الحيض، فاختلف العلماء بين من أخذ بالمعنى الأول ومن أخذ بالثاني.
كما قد يكون الاختلاف في قراءة الواقع أو في فقه التنزيل وتحقيق المناط فتتباين الرؤى السياسية والمناهج الإصلاحية..
2- اختلافات أسبابها خلقية: ومنها[3]:
– كإساءة الظن بالآخرين
– التعصب للأقوال أو الأشخاص أو الأفكار أو الهيآت..
– اتباع الأهواء.
– الإعجاب بالرأي والاعتداد بالنفس.
– …
3- اختلافات أسبابها منهجية:
– كانسداد أفق الحوار، وغياب التواصل..
-غلبة نفسية المغلوب حضاريا وفقدان الأمل..
– تفاوت الناس في الاستعدادات والإمكانات والقدرات؛ فمنهم الحصيف ذو الرأي السديد والمنطق السليم ومنهم دون ذلك، ومنهم اللبيب النبيه الفطن الذي يستوعب بسرعة ويفهم بدقة ومنهم دون ذلك، ومنهم من توفرت له ظروف التحصيل وإمكانات التعلم والتوجيه والترشيد ومنهم من لم يتيسر له شيء من ذلك، وفيمن توفرت لهم الظروف منهم صاحب الهمة العالية والنفس التواقة الطموح، ومنهم دون ذلك..
ثانيا- قواعد في تدبير الاختلاف:
1- منطلقات أساسية:
– بل الله فاعبد: إن صمام الأمان وأول ما ينبغي الحرص عليه هو تحرير القصد والتجرد من الأهواء وتخليص النية لله، فينبغي أن تكون الوجهة واضحة والقبلة جلية[بل الله فاعبد] (سورة الزمر: الآية 66)، فأحد أهم أسباب الخلاف هو التعصب واتباع الأهواء والانتصار للذات حيث تغيب مقاصد الوجود الإنساني، وتبقى مقولة “نفسي.. نفسي” هي المهيمنة، والنظرية الفرعونية (ما أريكم إلا ما أرى..) (سورة غافر: الآية 29) التي تحجب الحق وتصرف كل نظر سليم قويم رشيد هي المُوجهة، فإذا قوَّم الإنسان الوِجهة، وأخلص لله النية، عصمه الله من الزلل ورشد مساره وقوم لسانه ومسلكه..
– إلى كلمة سواء:
ثم إن أول ما نحتاج تقريره في هذا الباب ما سبق تقريره في الجواب عن سؤال سابق: ماذا يعني الحديث عن الاختلاف؟[4] وهو أن وحدة الأمة أصل، كما قال تعالى: ]إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون[ (سورة الأنبياء: الآية: 92)، وقال سبحانه: ]وَاعْتَصِمُواْبِحَبْلِاللَّهِ جَمِيعًاوَلاَتَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْنِعْمَةَاللَّهِ عَلَيْكُمْإِذْكُنتُمْأَعْدَاءفَأَلَّفَبَيْنَقُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمبِنِعْمَتِهِإِخْوَانًاوَكُنتُمْعَلَىَشَفَاحُفْرَةٍمِّنَالنَّارِ فَأَنقَذَكُممِّنْهَاكَذَلِكَيُبَيِّنُاللَّهُ لَكُمْآيَاتِهِلَعَلَّكُمْتَهْتَدُونَ(103) وَلْتَكُنمِّنكُمْأُمَّةٌيَدْعُونَإِلَىالْخَيْرِوَيَأْمُرُونَبِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَعَنِالْمُنكَرِوَأُوْلَـئِكَهُمُالْمُفْلِحُونَ(104) وَلاَ تَكُونُواْكَالَّذِينَتَفَرَّقُواْوَاخْتَلَفُواْمِنبَعْدِمَاجَاءهُمُالْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَلَهُمْعَذَابٌعَظِيمٌ(105)](سورة آل عمران: 103- 104-105)، وهذا هو الأصل الذي لا ينبغي أن نغفل عنه، أو نجعل إقرار الاختلاف ماحقاً له، أو بديلا عنه، بل إن ترشيد واقع الاختلاف من شأنه أن يمهد الطريق ويؤسس لوحدة الأمة، فالوحدة أصل والاختلاف فرع.
كما أن الوحدة لا تعني “قولبة” أفراد الأمة، وجماعاتها، أي جعلهم على نمط واحد وشكل واحد، أو بمعنى آخر جعلهم نسخا متطابقة، بل إنها وحدة في تنوع واختلاف وتعدد وتكامل، وفي الوقت نفسه تنوع واختلاف في ظل وحدة متماسكة.. تجتمع فيها الألسن والألوان والأشكال والأجناس المختلفة، وتلتقي فيها الثقافات، والحضارات المتعددة.. بل إن وحدة الأمة نفسها ليست على صورة واحدة، ونموذج واحد، ولكنها وحدة في المعنى وإن تعددت النماذج واختلفت التعبيرات عنها.
إن آية وحدة الأمة من سورة الأنبياء: ]إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون[ ليست وصفا لواقع الأمة، فالواقع خلاف ذلك قطعا، بل هي دعوة إلى تحقيق هذه الوحدة، وهي أمر بصيغة الخبر إمعانا في التأكيد، وتأكيدا على إمكان الإنجاز، وإشارة إلى أن عناصر الوحدة، ومعطيات إقامتها وأدوات إنجازها متوفرة، وما المطلوب من المسلمين إلا رسالية وعَدْلية وفاعلية لإنجاز هذا العمل وإتمام هذا الصرح الحضاري العظيم.
– ولا يزالون مختلفين:
كما أننا نحتاج أيضا إلى تقرير حقيقة أخرى –سبق تقريرها- وهي أن الاختلاف قدر محتوم وواقع لا ولن يرتفع، كما قال تعالى: ]ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك[، فما نحتاجه اليوم هو فقه الاختلاف، وإرساء ثقافة التعايش والتساكن، والتواصل والتسامح، والتوافق والتعاون.
ومن هاهنا يأتي حديثنا عن تدبير الاختلاف، ومحاولتنا وضع بعض القواعد التي يمكن أن تساعد على تدبير كل اختلاف بين الأحباء أو الفرقاء.
- قواعد في تدبير الاختلاف:
ويمكن تصنيف هذه القواعد إلى قواعد علمية، وأخرى أخلاقية، وثالثة منهجية:
أ- قواعد علمية:
–الصواب قد يتعدد:
وقد مر معنا في هذا البحث بعض الصور لاختلاف الصحابة وتباين آرائهم في المسألة الواحدة ومع ذلك أقر النبي صلى الله عليه وسلم اختلافهم، وثبت اجتهاداتهم ولم ينكر عليهم لا الاجتهاد ولا الاختلاف، كما في قصة الرجلين الذين لم يجدا ماء فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء، فأحدهما أعاد الصلاة، والآخر لم يعدها، وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم معا ولم يعنف أحدا منهما، ولم ينكر عليهما الاختلاف في الرأي، بل إن النبي عليه السلام أحيانا لم يبين الصواب من الخطأ كما وقع في قصة صلاة العصر في بني قريظة، وكأنه عليه السلام يشير إلى أن الصواب قد يتعدد.. وهكذا.
فمما قد يغفل عنه المختلفون هو إمكان تعدد الصواب في الزمان الواحد والمكان الواحد، بل في النازلة الواحدة، فكيف إذا اختلف الزمان والمكان، والشخص والحال..؟ فإذا استحضر المختلفون هذه القاعدة تجنبوا كثيرا من الفرقة والشتات والنزاع والصراع، وعذر بعضهم بعضا، بل صار الخلاف مصدر إثراء للفكر، وغنى للثقافة، ولهذا قال علماؤنا: “الاجتهاد لا ينقض بمثله”.
- إن كنت ناقلا فالصحة أو مدعيا فالدليل:
وما يهمني في هذه القاعدة النفيسة هو الشق العلمي لا المنهجي، فهذا له مكانه، فكم من الأحاديث والقضايا يتناقلها الناس، ويروج لها بعض المحسوبين على أهل العلم –مع الأسف- ولا أساس لها من الصحة، لم يكلفوا أنفسهم عناء التمحيص والتدقيق والبحث والتروي، ولا يدرون أنهم قد يوردوا الأمة المهالك، فحسن نيتهم وحرصهم على البلاغ وإبراء الذمة ونصح الناس قد يكون دافعهمأحيانا، ولكنهم لا يعلمون أنهم يسيئون من حيث يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فكم سمعنا من الوعاظ والخطباء من يردد حديثا وينسبه للرسول صلى الله عليه وسلم وهو منه براء، كحديث: “شاوروهن وخالفوهن”[5]وهو من الموضوعات، وحديث: “لا تعلموا نساءكم الكتابة، ولا تسكنوهن الغرف العلالي”[6] …، وبهذه النصوص وأمثالها يتكرس الاختلاف أكثر، وينسب للوحي وهو منه براء.
ثم بعد النص تأتي مرحلة فهمه، فيَقصُر الفهم بالبعض لاعتبارات مختلفة منها ما يرجع إلى قلة العلم، أو ضعف الملكة وغياب الصنعة، أو الاستعجال، أو وجود مشوشات أخرى …، فتكون الكارثة بإخراج النص عن دلالته أو عن روحه ومقاصده..أو بعدم عرضه ومقابلته بنصوص أخرى في نفس الموضوع، أو بعدم الاهتمام بأقوال العلماء فيه، مما يخرج الإنسان عن جادة الصواب، فيكون سببا في توسيع الفتق من بعد ما كان يقصد الرتق، وسببا في زيادة الخرق وقد كان يحرص على الرقع.
ومثل هذا أيضا من يقطع بتحريم والأمر ليس فيه تحريم أو على الأقل فيه سعة،ومن يفتي بجواز في أمر مقطوع بتحريمه ومجمع على ذلك، فلا يتعب نفسه بالبحث عن الصحة في النقل، ولا بالإتيان بالأدلة في الادعاء.
– وللتنزيل فقه:
وهذا ما يسمى عند علماء الأصول “بتحقيق المناط”، وها هنا آفة أخرى؛ فإذا كان ما سبق فيه إشارة إلى مسألة “تخريج المناط” و”تنقيح المناط” بالاصطلاحات الأصولية، فإن المشكلة الأخرى ترتبط بتحقيق المناط أو بفقه التنزيل وتكييف الواقع.
فإذا لم يكن العالم ممن يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وممن يعانقون هموم الناس، ويحسون بآلامهم، ويشاركونهم آمالهم، وكان ممن لا يبرح صومعته العلمية، ولا يغادر برجه الثقافي، فسيفتي الناس بفتاوى تهز الأرض من تحتهم هزا، تفسد ولا تصلح، وتفرق ولا تجمع، وتعمق الاختلاف والشتات ولا توحد..
فكلما كان الرسوخ في العلم كلما تقلص هامش الخلاف، أو كان عاصما من الفرقة والشتات..
ب- قواعد أخلاقية:
– إحسان الظن بالآخرين:
قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم] (سورة الحجرات: الآية 12)، وقال سبحانه: [وإن الظن لا يغني من الحق شيئا] (سورة النجم: الآية 28)، وفي الحديث: “الظن أكذب الحديث”[7]، وسوء الظن عادة ما يشنج الأجواء ويعمق الخلافات، ولا يأت بخير…
أما إحسان الظن بالآخرين فإنه يقرب الشقة بين الناس، ويكسر أول الحواجز أمام التواصل وفهم الآخرين وهو الحاجز النفسي حيث الانطباعات والمواقف المسبقة.
وهذا مع أهل العلم أولى وأدعى، إذ ينبغي أن نحسن الظن بهم وباجتهاداتهم فهم مأجورون أصابوا أم أخطأوا، وكم سمعنا من الشباب من يتطاول على العلماء، ويسب وينتقص من قدر ذاك أو قد يكفر بعضهم..، بل سمعنا منهم من يتطاول على الأئمة الأربعة في قلة وسوء أدب…، وأحيانا قد نجد هذا من بعض أهل العلم ممن يفترض فيهم أنهم قدوة للناس، وقد نجد منهم من يشجع الشباب على هذا المسلك، وهذا لعمري مما يعمق الخلاف ويؤجج الغضب ولا يزيد الطين إلا بلة.
- عدم التعصب:
والتعصب آفة كبرى لأنه يصيب المقتل في الإنسان، وما فضل الإنسان إلا بالعقل، وما سمي العقل عقلا إلا لأنه يَعْقِل صاحبه عن قول وفعل ما يشتهي ليفعل ما ينبغي، والتعصب رزاية بالعقل، يدفع صاحبه للانتصار لنفسه ورغباته وشهواته، إذ التعصب جحود الحق عند ظهور الدليل، والآية العظيمة من سورة سبأ [وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين] (الآية: 24) تضعنا على خط التوازن النفسي الذي يعصمنا من كل زلل، ويبعدنا عن كل تعصب، إذ عندما تتحرر من التعصب سواء للأشخاص، أو الأقوال والأفكار، أو الأحزاب والهيآت والمنظمات، أو المذاهب والتوجهات…، يصير هدفك تلمس الصواب والوصول إلى الحق (والحق أحق أن يتبع) وطالب الحق “كناشد ضالَّته، لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه..”[8]، و”الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها”[9].
إن التعصب المذهبي، السياسي والعقدي والعلمي والفقهي، جنى على أمتنا ردحا من الزمن، عطل مسيرتها الحضارية، حيث انشغلت بالردود وإطفاء الحرائق المشتعلة هنا وهناك، وها هو ذا التاريخ اليوم يعيد نفسه، فكم من الطاقات معطلة، وكم من العقول أعمى بصيرتها التعصب فصدها عن الإنتاج والإبداع..، حتى أوقع الإنسان في صنمية مغلفة تصرفه عن حقيقة التوحيد لله تعالى.
- الصبر والحلم:
وهذه من أعظم صفات الأنبياء الذين جاؤوا لهداية الناس، وأرسلهم الله تعالى لجمع كلمتهم، ولَمِّ شعثهم، وتوحيد صفهم، قال تعالى: [إن الله مع الصابرين] (سورة الأنفال: الآية46)، وقال سبحانه وتعالى: [إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب] (سورة الزمر: الآية 10).
فبالصبر على الناس واحتمال أذاهم تسود المودة وتزول الفرقة، فإذا أردفه الإنسان بالحلم والرفق واللين ملك قلوب العالمين، وأذاب جليد العداوات والنزاعات، وبسط أسباب التقارب والتآلف، قال عليه السلام: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه”[10]، وقال تعالى: [ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم] (سورة فصلت: الآية34)، وقال عز شأنه: [فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك] (سورة آل عمران: الآية 159).
ج- قواعد منهجية:
– الحوار:
قال تعالى: [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم] (سورة الحجرات: الآية 13).
إن الاجتماع البشري قائم على الاختلاف والتنوع بين الذكر والأنثى والشعوب والقبائل…، ولكن الآية الكريمة من سورة الحجرات تقرر أن التعارف هو البعد الغائي لهذا الاختلاف والتنوع..، ولا سبيل إلى تحقيق هذا التعارف، وتذويب الاختلافات، وتقريب وجهات النظر، والاستفادة من هذا التنوع إلا بالحوار ومد جسور التواصل بين “الناس”..
وحين يقوم الحوار وتتوفر شروطه وضوابطه وتنتفي موانعه يمكن أن تحلكثير من المشاكل، وتزول الخلافات، ويمكن أن نوفر السلم المجتمعي الذي يسهم في تحريك عجلة الإصلاح والتنمية، ولنا في صلح الحديبية النموذج، فكم حقنت من دماء، وكم توفرت من طاقات وإمكانات كانت ستبددها الحرب، وكم أسهمت وثيقة الصلح في توفير جو من السلم والأمن أسهم في انتشار الدعوة الإسلامية ستتوج بما عرف ب”عام الوفود” من كثرة الوافدين على الإسلام المعتنقين والمقتنعين بهديه.
– التعاون في دائرة المشترك والمتفق عليه، وما أكثره:
وهذه قاعدة نفيسة تسهم في تحقيق مقصد (لتعارفوا)، فكم تشغلنا القضايا الخلافية عن دائرة المشترك، فيحتد الجدال ويتسع الخرق ويكثر النزاع وتزداد الفرقة والشتات، فتضيع مصالح الأمة وتبدد طاقاتها، ويضيع المتفق عليه في زحمة الخلاف والنزاع والشتات..، وكان الأولى أن يتعاون الناس في المتفق عليه، ويعذر بعضهم بعضا في المختلف فيه، لا ليتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لننطلق إلى فضاء أرحب ومساحات أوسع لتدبير خلافاتنا كما تقعد له القاعدة الموالية.
– التسامح مع استمرار الحوار في المختلف فيه، وما أقله:
فإذا انشغلنا بالمتفق عليه قاربنا الشقة وردمنا الهوة على الأقل على المستوى النفسي، وبسطنا جسورا للتعاون، لننتقل إلى تدبير المختلف فيه بآلية الحوار، لنذيب كل الخلافات، ونزيح كل العراقيل والعقبات..، وتبقى قاعدة استمرار الحوار ممتدة في الزمان والمكان مستوعبة كل خلاف، ممتصة كل نزاع أو صدام، واضعين نصب أعيننا هذه القاعدة النفيسة: “نتعاون فيما اتفقنا فيه ويستمر حوارنا فيما اختلفنا فيه”[11].
– دعم الاجتهاد والتجديد، وتشجيع حركة النقد الهادف:
إذ بذلك نشيع جوا من الحرية الفكرية، ونطلق طاقاتنا الذهنية والعقلية نحو الإبداع والإنتاج…، وأما الاختلاف المذموم والتفرق والتنابز فينبت وينشط أكثر في جو القمع، ومع الفراغ، وفي غياب الإنتاج والإبداع، فبدل أن ينشغل الإنسان بنفسه، وبهموم أمته الكبرى ينشغل بالآخرين وبسفساف الأمور، كما يقول عبد الوهاب عزام: “علم نفسك التحليق تكره الإسفاف”[12]، والنقد هو أداة توجيه حركة الاجتهاد والتجديد، وهو قيمة يمكن اعتبارها قانونا في التطور، فالاجتهاد والتجديد والنقد يشكلون حلقة متكاملة في اتجاه الإنتاج والإبداع، والتسديد والتصويب، والنماء والتطور.
والحمد لله رب العالمين
فهرس المصادر والمراجع
- أحكام القرآن: أبو بكر ابن العربي المعافري الأندلسي، دار المعرفة، بيروت – لبنان.
- إحياء علوم الدين:الإمام أبو حامد الغزالي، تحقيق عصام عبد الرحيم محمد، دار ابن الهيثم، القاهرة.
- أزمة العقل المسلم: الدكتور عبد الحميد أبو سليمان، إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا – الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1412هـ / 1991م، دار القارئ العربي، القاهرة – مصر.
- تفسير التحرير والتنوير: الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.
- تفسير الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، 1966م.
- تفسير المنار: للإمام محمد رشيد رضا، ط2، دار الفكر
- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة: أبو الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف – عبد الله محمد الصديق الغماري، مكتبة القاهرة
- سنة النشر: 1401هـ– 1981م.
- جامع الأحاديث والآثار التي خرجها وحكم عليها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في جميع كتبه: إعداد أحمد بن محمد حسين آل عبد اللطيف، بالتعاون مع مركز تقنيات الحاسوب والنشر الإلكتروني، ط1 1422هـ، المكتبة الإسلامية، عمان – الأردن.
- جامع البيان في تأويل القرآن (تفسير الطبري): أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. ط 1: 1412هـ-1992م.
- الرقائق:محمد أحمد الراشد، سلسلة إحياء فقه الدعوة -3-، مؤسسة الرسالة، ط13، 1412هـ – 1991م.
- سنن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، مراجعة محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية.
- سنن النسائي: أحمد بن شعيب النسائي، دار إحياء التراث العربي.
- الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف: الدكتور يوسف القرضاوي، كتاب الأمة الصادر عن مجلة الأمة القطرية، ط1، شوال 1402هـ،
- صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري، حقق أصوله ووثق نصوصه وضبطه ورقمه طه عبد الرؤوف سعد، دار نشر سوماكرام، 1423هـ – 2003م.
- صحيح مسلم: للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (طبعة مرقمة بترقيم المعجم المفهرس لألفاظ الحديث)، دار الاعتصام.
- الغلو في الدين، المظاهر والأسباب: أبو زيد المقرئ الإدريسي، منشورات الزمن، الكتاب 29، 2010 – دار النجاح الجديدة، الدار البيضاء.
- كتاب نتائج البحوث وخواتيم الكتب، لمجموعة من المؤلفين، موقع المكتبة الشاملة الحديثة.
- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: للشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط2، 1351هـ.
- كيف نختلف؟ الدكتور سلمان بن فهد العودة، إصدارات مؤسسة الإسلام اليوم للنشر، ط1، صفر 1433هـ.
- مجلة الأمة الوسط: يصدرها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، العدد الثاني، السنة الثانية 2010م
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: الحافظ نور الذين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي المصري، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية.
- مفتاح دار السعادةومنشور ولاية العلم والإرادة: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية – بيروت.
- الموافقات في أصول الشريعة: الإمام أبو إسحاق الشاطبي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ط1: 1411هـ – 1991م.
- الموضوعات: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ط1، 1386هـ – 1966م.
[1]– يراجع كتاب “جامع الأحاديث والآثار التي خرجها وحكم عليها الألباني”، أحمد بن محمد حسين آل عبد اللطيف، ص8.
[2]– انظر كتاب نتائج البحوث وخواتيم الكتب، لمجموعة من المؤلفين، ج3، ص62. وهو نتائج وخواتيم رسائل علمية وأبحاث لمؤلفين مختلفين تحوي خلاصات ما فيها، نشره موقع الدرر السنية على الإنترنت dorar.net، وعدد أجزائه: 4، تم تحميله في ربيع الأول 1433هـ. الكتاب مرقم آليا، وموجود بموقع المكتبة الشاملة الحديثة.
[3]– سيأتي تفصيل الكلام في هذه الأسباب عند الحديث عن قواعد تدبير الاختلاف الأخلاقية.
[4]– انظر الجزء الأول من هذا المقال “الأمة الإسلامية والحاجة إلى ثقافة الاختلاف” بمجلة الربيئة، العدد 18.
[5]– انظر كتاب: “كشف الخفاء ومزيل الالتباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس” للعجلوني: 1/4.
[6]– انظر كتاب: “الموضوعات” لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد القرشي: 2/268، وكتاب “تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة” لأبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني: 2/208 مع زيادة، وانظر أيضا “كشف الخفاء” للعجلوني: 2/2805.
[7]– أخرجه البخاري: ح 4849، ومسلم: ح 2563، وغيرهما.
[8]– انظر كتاب: إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي: 1/57.
[9]– الحديث رواه الترمذي في سننه، وقد ضعفه غير واحد، وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/283): “له شواهد”، وأورده السيوطي في الجامع الصغير (ح6462)، وقال حديث حسن.
[10]– رواه مسلم: ح2594، وأبو داود، والسيوطي في الجامع الصغير وصححه.
[11]– أصل هذه القاعدة وضعها الأستاذ حسن البنا رحمه الله -فيما أعلم- بلفظ “نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”، ثم طورها الدكتور أحمد الريسوني حفظه الله وصاغها كالآتي: “نتعاون فيما اتفقنا عليه ويستمر حوارنا فيما اختلفنا فيه”.
[12]– انظر كتاب الرقائق لأحمد الراشد، ص48.