أيها المسلمون… أمكم تستغيث فهل لها من مغيث؟
أ. رضا راشد علي
أيها المسلمون
أمكم تستغيث فهل لها من مغيث؟
نظرت إليها فأنكرتها: من تكون؟ إذ بدت على غير ما كنت عهدتها عليه: قد شحب لونها، ووهن بدنها، وغارت عيونها، وغابت نضرة وجهها، ورثت ثيابها، فقلت متسائلا: من أنت؟ قالت ـ وقد اختنق بالبكاء صوتها واغرورقت بالدموع عيونها- : أَوَ لا تعرفني؟ قلت: من؟ قالت: أمّك.. أنا أمّك.
قلت -وقلبي يتفطّر ألمًا وعرقي يتصبّبُ خجلا-: أمي!.. أمي ! وما الذي أحدث بك ما أرى؟! لقد كنت دائما أراك ـ على علوِّ سنك وامتداد عمرك- نضيرة الوجه، متألِّقة المحيا، متهلِّلة الأسارير، ترتدين من الثياب أغلاها، ومن الحلل الأنيقة أحلاها. ووالله ما أنكرتك عقوقا، بل استبعادا، فإني ما كنت أتخيل يومًا ما؛ أن تكوني كما أرى (وذهبت ببصري بعيدا كأني لا أريد أن أراها في هذا المظهر المؤلم)، فمن فعل بك هذا؟ قالت – أسيفةً حزينة-: إليك عني فإنك مثلهم. فألححت، فقالت – متعجبة- :وكأنك لا تدري من جنى عليَّ؟ واعجبا !! لكأنّي بالجاني يذبح ضحيته، ثم يسألها: من ذبحك؟
قلت لها -ولم أفهم كلامها-: ماذا تعنين أماه؟ فقالت: أنتم.. أنتم من جنى عليّ، وبدَّل حالي بالفرح ترحا، وبالشباب مشيبا، وبالابتسامة بكاء، أنتم من جعلتموني أتوشح بالسواد وألبس ثياب الحداد، كما تفعل الأم الثكلى، لا، بل الأم الثكلى لأهون مصابا مني، لأنها ابتليت بأولادها بعد مماتهم، أما أنا فابتليت بأولادي في حياتهم، بعقوقهم لي وتنكرهم لشأني.
قلت ـوقد أمسكت بيديها متوسلاـ: بالله عليك يا أماه إلا أرحت بالي ورويت ظمأي: من نحن الذين جنينا عليك؟ ومتى؟ وكيف؟
فسكتت قليلا كأنها تستجمع قواها المتهالكة، وسرحت بعينيها بعيدًا كأنها تسترجع تاريخا مُعرِقًا في القدم، وذكريات موغلة في أعماق الماضي السحيق، ثم تنهدت وراحت تقصُّ عليَّ ما حدث فقالت:
تعرف كم كنت أسعد أم بأبنائها! وكم كان أولادي أسعد أبناء بأمهم!
كانوا يبرونني فأغدق عليهم عطاء، وأفيض عليهم منحا، هكذا كنت وهكذا كانوا ، ظللنا على هذا الحال تاريخًا طويلا بدا منذ العصر الجاهلي قبل الإسلام، دنا مني أولادي فيه فدنوت منهم، وأكرموني فبحت لهم بأسراري، وفتحت لهم مكنون خزائني وذخائري، فكان لهم مني أجمل العطاء، وكان لي منهم أبهى الحلل، إذ ما كنت أفارق لسان الكبير ولا سمع الصغير.
كنت إذا لبست ثياب الشِّعر: سلوى الحزين، وأنين الحنين، ولوعة المحب، وصيحة الفارس، وسمير الجالسين، ومحرض المتقاتلين. وكنت إذا ارتديت ثياب النثر: حكمة الحكماء، ولسان الخطباء، وحجة الكتاب والأدباء، بي يستعينون على قضاء حوائجهم، ويصلحون ذات بينهم. ظللت على هذا عصورًا ممتدة وأحقابًا متطاولة. وإن أنسى؛ لا أنسى تألقي مزدانة على لسان امرئ القيس في رحلاته وصيده ولهوه، وزهير في حكمته، وقس في وعظه، وأكثم في حكمته، وجرير والفرزدق في نقائضهما، وأبي تمام في معانيه، وأبي نواس في خمرياته، وأبي العتاهية في زهده .
وهل أنسى ما كنت فيه إبّان العصر الأندلسي؛ حيث كنت لشعرائه (بألفاظي وأساليبي ومجازاتي) المرآة الصادقة التي تصور ما يرون بأجمل مما يرون، حتى كأنّ قصائدهم رياضا غناء، وجنات فيحاء، يُدلِف إليها القارئ فيرتع منها في مرتعٍ ماتع لأنفه وعينه وذوقه.
هكذا كنت لأولادي وهكذا كانوا لي: فيا لسعادتي بهم إذ يكرمونني حيث أحل ضيفا دائما على مجالس الملوك والأمراء، ومناظرات العلماء والأدباء، ويا لنشوتهم بي وأنا أغدق عليهم من عطاياي؛ أمد الأديب باللفظ العذب والأسلوب الرقراق والمجاز الخلاب بما يعينه على غرضه من مخاطبة القلوب وإمتاع العاطفة، وأرفد العالم باللفظ الدقيق والمعنى العميق ما يمكنه من إقناع العقول وتحديد المصطلحات .
هكذا كنت: لغة الأدب والعلم معا، لم يشكُ أديب من فقري، ولا عالم من عجزي، ولم لا؟ وقد تُوِّجت بتاجٍ لم تتوجَّهُ أمٌّ قبلي، وارتديت ثوبا لم تُحلَّ به لغة سواي، إذ نزل بي أعظم كتاب رباني وأفصح دستورٍ إلهيٍّ، وكان آيته بلاغته التي أعجزت أساطين البلاغة، فعجزوا عن أن يأتوا ولو بآيةٍ من مثله في بلاغته، ثم كان الشرف الثاني بكوني وعاءً لسنَّة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بي .
ومن أجل هذا تسارع أبنائي في خدمتي؛ حمايةً لذِماري، وذودًا عن حِياضي، لا يبالون بما يَلقون من عناء السفر ولأوائه، حيث طلَّقوا الراحة حفاظا عليّ من الضياع بدخول الأعاجم الإسلام، يجمعون ألفاظي في معاجمهم وأشعاري في دواوينهم، ويستنبطون منه قواعد نحوي وصرفي وبلاغتي .
ظللت على هذا الحال يا ولدي – تخاطبني- حتى أتى عليَّ حينٌ من الدهر كنت فيه كأني لم أكن شيئا مذكورا، فكانت جفوةً طويلة بينى وبين أبنائي؛ كدت منها أختنق؛ فأفارق الحياة إلى غير رجعةٍ، حتى قضى الله فانقضى هذا الكابوس المخيف، وجاء عصر النهضة بمكتشفاته التي كان لي منها ما ردَّ إليَّ الكثير من حياتي، اخترعت المطابع فطبعت الكتب، وظهرت دواوين الشعراء الفحول وصدرت المجلات، فكان من ذلك زادٌ وفير؛ تضلَّع منه شعراء ذلك العصر، فاستحيونى بعد مماتي، وابتعثوني بعد طولِ رُقاد، كان ذلك على يد البارودي ومن اقتفى أثره؛ كشوقي وحافظ وغيرهم ممن استعادوا لي شبابي، واستردوا لي عافيتي، وتزينت على أيديهم كما كنت أول مرة، حتى ذهب بي الخيال بعيدا، فتوهمت أن الزمان قد استدار كهيئته يوم كانت حاضرة الخلافة في دمشق أو بغداد، حين كنت كالعروس ليلة الزفاف، لكن هذا لم يدم طويلا، إذ سرعان ما انهالت علي خناجر مسمومة تطعنني في ظهري، فنظرت فإذا بعضها بيد أعدائي (ممن يُسمُّون بالمستشرقين) وإذا الأخرى بيد بعض من كنت أعدُّهم أبنائي ممن جعلوا قبلتهم لندن وباريس، فعادوا أعداء أَّلدَّاء لدينهم وللغتهم.
فأحدهم يدعو لدفني إلى غير رجعةٍ اكتفاءً بالعامية التي صارت -في زعمه- لغة التفاهم، والآخر يدعو لكتابة حروفي باللغة اللاتينية، وثالثٌ يُشكِّك في ديواني ودليلُ إعجازِ كتاب ربي: الشعر الجاهلي، ويزعم أنه منحول، اقتفاء لأثر اليهود وترديدًا لكلامهم، ورابعٌ يدعو إلى هجر الشعر العربي واستبداله بالشعر الحر الذي لا يلتزم بوزنٍ ولا قافية، وخامسٌ يدعو لما سماه كسر رقبة البلاغة؛ اكتفاءً بالحداثة البغيضة، وسادسٌ يدعو -ونجح- إلى تنحيتي عن لغة الدرس في العلوم الحديثة بزعم أني عاجزةٌ عن توفير مصطلحاتها، وهم يعلمون أنهم من قِبَل جهلهم أوتوا؛ فما الذنب ذنبي، فإن أيَّ لغةٍ تموت بالجهل وتحيا بالعلم فأنا التي:
وسعت كتاب الله لفظا وغاية / وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن رسم آلة / وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن / فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟
هكذا صوَّبوا عليَّ سهامهم، وطعنوني بخناجرهم المسمومة التي لم تغن غني منها تصدي بعض أبنائي للدفاع عني: كالمنفلوطي والرافعي وحافظ وشوقي ومحمود شاكر وعلى الطنطاوي الغمراوي وغيرهم؛ ممن حاولوا قطع دابر شبهاتهم بسيوف الحجج الساطعة والأدلة القاطعة، ولكن يبدو أن السمّ قد سرى في عروق الأجيال اللاحقة، فاستعصت على أية أمصالٍ علاجية حتى وصل بيَ الحال إلى ما أنا عليه الآن؛ فنحيت عن قاعات الدرس في العلوم الحديثة، وهجر شعري، وبغضت إلى نفوس الناشئة، حتى لكأن أحدهم باستقبال المصيبة أفرح منه بتعلمي؛ فماذا أقول؟ وعلام أبكي؟ أعلى تاريخي المجيد؟ أم على واقعي المرير ؟
قلت ـوالأسى يقطِّع نياط قلبي ـ: وماذا على أن أفعل لك يا أماه؟ قالت: إن استطعت أن تبلغهم حسراتي وتُسمعهم أناتي؛ كان ذلك منك كثيرا، قلت: أفعل إن شاء الله تعالى .
قالت قل لهم :أمكم تناديكم، تستغيث بكم
فهل من مغيث؟
تناديكم: أبنائي، فلذات أكبادي :
ماذا جنيت عليكم لتخاصموني؟
ماذا رأيتم مني حتى تعقوني؟
أكاد ألفظ أنفاسي أمامكم؛ وأنتم لا تدرون!
أكاد أختنق بين أيديكم؛ وأنتم لا تشعرون !
أكاد أفارق الحياة بين أعينكم؛ وأنتم لا تعبؤون !
أصرخ مستغيثة بكم؛وأنتم لاهون عابثون !
ماذا جرى لكم وأيّ عقوق أراه منكم؟!
لكَم تمنيت أن يكون أبنائي من يهودٍ؛ الذين ساءت أخلاقهم مع الجميع إلا مع لغتهم التي استحيوها بعدما ماتت مئات السنين.
هذا صرختى (قالت )، وهذه استغاثتي، تراك –تخاطبني- تُبلِّغها؟ وهل إذا بلغتها ستجد منهم آذانا مُصغية وقلوبا واعية؟ قلت: أما البلاغ فهذا ما أعاهدك عليه، وأما الاستجابة، فهذا ما آمله وأرجوه. فقالت: لم يبق لي أملٌ إلا في الله، ثم توارت عني مُنكفِئةً على أحزانها باكيةً على حالها.
قلت – رضا راشد- هذا حديث أمي: اللغة العربية إليّ، أفضت به إليّ في ساعةٍ من الخلوة، وهاأنذا أفي بما تعهدت به لها من إبلاغكم صرختها، وبقي دوركم فهل تستجيبون؟ وهل لأمكم تغيثون؟ هذا ما نحن فيه آملون.
لا فض وفك استاذ رضا