رجل الضمير – أ.أحمد الصقر
[cl-popup title=”ترجمة الكاتب” btn_label=”ترجمة الكاتب” align=”center” size=”s” paddings=”” animation=”fadeIn”][/cl-popup]
عظيمٌ تنوّعت مناحي عظمته ، جعل الحق على لسانه و قلبه فكان رائده في كل قول و عمل و فيما هو ددون القول و العمل .
سر هذه العظمة النادرة التي تخلب الألباب و تملأ الأبصار يرجع إلى شيء يسير أشدّ اليسر معقد أشد التعقيد ملك عليه أقطار نفسه و غلب على عقله و حسّه هذا الشيء اليسير المعقد الذي كان مصدرا لعظمة الفاروق هو : ( الضمير اليقظ الباسل )
و مما يستلفت النظر حقا أنه كان يدرك خطر الضمير و يعرف أثره القويم في الحياة فابتهل إلى الله في أول خطبة خطبها بعد أن صارت إليه الخلافة ، أن يرزقه هذا الضمير الباسل : اللهم ثبتني باليقين و البر و التقوى و ذكر المقام بين يديك و الحياء منك و ارزقني الخشوع فيما يرضيك عني و المحاسبة لنفسي.
و قد استجاب الله دعاءه و يسر له إلى ما أراغه كل سبيل .
هذا الضمير اليقظ الباسل هو الذي صوّر للفاروق هذه الصورة الرائعة للخلافة . فهي عنده امتحان للحاكم و المحكوم على السواء : إني قد بقيت فيكم بعد صاحبي فابتليت بكم و ابتليتم بي . وهو الذي ذاد الكرى عن عينه إن ألمّ بها . مخافة أن تشيل كفته في هذا الإمتحان العظيم .حدثنا أسلم مولاه إنه كان يبيت عنده مع (يرفأ) و انه كان يقوم الليل إلا قليلا و كان كثيرا ما يستقظ في هذا القليل فيرتل القرآن ترتيلا حتى إذا كانت ذات ليلة قام فصلّى ثم قال : قوما فصليا فوالله ما أستطيع ان أصلي و لا أستطيع أن أرقد و إني لأفتتح السورة فما ادري في أولها أنا أو في آخرها ، قلنا و لم يا أمير المؤمنين ؟ قال من همّي بالناس ، يريد من اهتمامي بما يصلحهم و ما يدفع السوء عنهم .
وهو الذي يقلق باله و يشغل خاطره كلما فرغ إلى نفسه ساعة من النهار. قال حذيفة : دخلت على عمر فرأيته مهموما حزينا فقلت له ما يهمك يا أمير المؤمنين؟ فقال إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيما لي . فقلت له : و الله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك ، فإن لم تنته ضربناك بالسيف ففرح عمر و قال : الحمد لله الذي جعل لي أصحابا يُقومونني إذا اعوججت.
و انا يخالجني أقل شك في ان عمر فرح حقيقة بهذا الجواب الغليظ و اغتبط به لأن ضميره اليقظ الباسل يأبى عليه ألا يفرح ألم يقل في خطبته : إذا رأيتم فيَّ اعوجاجا فقوموني؟ أو لم يقاطعه أحد السامعين بقوله و الله يا عمر لو رأينا اعوجاجا لقومناه بسيوفنا ؟ بل قد قال و قد قوطع و لم يكتف بإقراره العمل على تقويم المعوج بل أعلن اغتباطه على رؤوس الأشهاد بذلك فقال : الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه .
اعترف الفاروق بسلطان الأمة عليه و اعلن خضوعه لرقابتها بل جرّد الأمة من كل خير إذا تهيّبت معارضة الحاكم و جرّد الحاكم من كل خير إذا لم يتقبّل المعارضة من المحكومين .
جرى مرة بينه و بين رجل كلام فقال الرجل : اتق الله يا عمر و أكثر من قولها حتى ضجر رجل من الحاضرين فقال له : أتقول لمير المؤمنين اتق الله !! فنهره عمر و قال له : دعه فليقلها لي ، نِعْمَ ما قال ! لا خير فيكم إذا لم تقولوها ، و لا خير فينا إذا لم نتقبلها).
و جاءته بُرودٌ من اليمن ففرّقها بُرْدًا بُرْدًا، ثم صعد المنبر يخطب و عليه حُلَّةٌ منها و الحلّةُ بُرْدَان فقال : اسمعوا رحمكم الله فقام إليه سلمان الفارسي و قاطعه قائلا : و الله لا نسمع و الله لا نسمع فقال عمر و هو هادئ: و لم يا أبا عبد الله ؟ فقال سلمان : تفضلت علينا بالدنيا ففرقت علينا بردا فقال أين عبد الله بن عمر فقا له ولده ها أنذا يا امير المؤمنين .قال عمر : لمن أحد هذين البردين الذين عليَّ؟ فقال : لي ، فتوجّه عمر إلى سلمان الفارسي و قال : عجلت عليَّ يا ألبا عبد الله إني كنت قد غسلت ثوبي الخلق فاستعرت ثوب عبد الله فقال سلمان أما الان فقل نسمع و نطع و استأنف عمر خطبته وهو هادئ البال مرتاح الضمير .
وكان من عادة عمر أن يمر بالاسواق ويضرب التجار بدرّته اذا تكدسوا في الطرقات ، حتى يدخلوا سكك ( أسلم ) ويقول : “لا تقطعوا علينا سابلتنا”، روى اياس بن سلمة عن ابيه قال : مرّ بي عمر وأنا قاعد في السوق،ومعه درته فقال : هكذا يا سلمة عن الطريق ، فغفقني*بها فما أصاب إلا طرفها ثوبي ، فأمطت عن الطريق فسكت عني، حتى إذا كان العام المقبل لقيني في السوق فقال : ياسلمة أردت الحج العام؟ فقلت: نعم. فأخذ بيدي فما فارقت يده يدي حتى أدخلنيبيته ، فأخرج كيساً فيه ستمائة درهم وقال : ياسلمة خذها فاستعن بها على حجك ، واعلم أنها من الغفقة التي غفقتك عاماً أول ! فقلت: يا أمير المؤمنين ما ذكرتها حتى ذكرتنيها . فقال عمر: أنا والله ما نسيتها!. وكيف ينساها عمر ذو الضمير اليقظ الباسل الذي يحاسبه على كل شيءصغير أو كبير، آونة رقيقاً رفيقاً كما في هذه المرة، وآونةعنيفاً كل العنف ، شديداً كل الشدة ، مؤلماً كل الايلام ، كما في قصته مع ذلك الذي لقيه في الطريق فقال له : يا أمير المؤمنين انطلق، فأعدني على فلان فإنه قد ظلمني ، فرفع عمر درته، فخفق به رأسهوقال:” تدعون أميرالمؤمنين وهو معرض لكمحتى إذا اشتغل في امر من أمور المسلمين أتيتموه، اعدني اعدني”. فانصرف الرجل وهو يتذمر، وقام الضمير الباسل يعمل عمله في سرعة فائقة، وماهي إلا لحظة حتى قال عمر : عليَّ بالرجل عليَّ بالرجل . فجاء فألقى إليه الدرة وقال : ” امتثل ” . فقال الرجل لا والله، ولكن أدعها لله ولك . فقال عمر: ” ليس هكذا إما أن تدعها لله إرادة ما عنده، أو تدعها لي فاعلم ذلك ” . فقال الرجل : ادعها لله ! ولما قفل عمر إلى منزله ومعه الأحنف بن قيس وجميع من حضر هذه المحاورة، صلى ركعتين وجلس وأطرق وأطرقوا، ثم أنشأ يقول بصوت جهير ملؤه الغيظ والغضب : يابن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الهه، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم حملك على رقاب الناس فجاءك رجل يستعديك فضربته، ماذا تقول لربك غداً إذا أتيته ؟! وظل الضمير اليقظ الباسل يعمل عمله والقوم خشع قد عقل جلال الموقف مزاودهم عن الكلام !. وكما كان عمر ذو الضمير اليقظ الباسل، والعقل العبقري يعنى بتنظيم حركة المرور في الشوارع، كذلك كان يهتم بالنظافة ويأمر أهل كل منزل أن يكنسوا أمام بيتهم، ويفتش بنفسه ليرى من لم يمتثل ومن امتثل . حدث الأصمعي عن جويرة بن أسماء: ” أن عمر قدم مكة فجعل يجتاز في سككها فيقول لأهل المنازل : قُمُّوا أفنيتكم، فمر بأبي سفيان فقال يا أبا سفيان: قموا فناءكم .فقال : نعم يا أمير المؤمنين، يجيء مُهَّاننا، ثم إن عمر اجتاز بعد ذلك فرأى الفناء كما كان ، فقال : ياأبا سفيان ألم آمرك أن تقموا فناءكم ؟ فقال : بلى يا أمير المؤمنين، ونحن نفعل إذا جاء مهاننا، فعلاه عمر بالدرة بين أذنيه فضربه، فسمعت هند زوجته فقالت: أتضربه ؟ أما والله لرُب يوم لو ضربته لاقشعر بك بطن مكة ! فقال عمر : صدقت، ولكن الله عزوجل رفع باالإسلام أقواماً ووضع به آخرين . مضى عمر لشأنه وقال لنفسه وقالت له، والضمير اليقظ الباسل من ورائهم رقيب، وماهي إلا ساعة أو بعضها حتى نادى عمر : الصلاة جامعة، وصعد المنبر ليخطب، والناس من حوله يتنظرون، وما لبث عمر أن شرع يخطب فقال : ” أيها الناس لقد رأيتني وأنا أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبض لي القبضة من التمر أو الزبيب ” . ولم يزد على ذلك حرفاً حتى نزل، فشده الحاضرون وظنوا الظنون، وتهامس المتهامسون، ولكن لم يصل إلى سر هذا الخطاب الغريب أحد ، وهابوا أن يستفسروه، إلا عبدالرحمن بن عوف، وكان أجرأ الناس عليه، فقد سأله : ما أردت إلى هذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال عمر : في صراحة وإخلاص : ويحك ! يابن عوف، خلوت بنفسي فقالت لي أنت أمير المؤمنين، وليس بينك وبين الله أحد فمن أفضل منك ؟ فأردت أن أعرفها قدرها ! رحم الله عمر، فقد كان حصناً، وللإسلام عزاً، وكان بحق رجل الضمير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الغفق الضرب الخفيف