مفهوم الوسطية وبعض معالمها – د.محمّد هندو

[cl-popup title=”ترجمة الكاتب” btn_label=”ترجمة الكاتب” align=”center” size=”s” paddings=”” animation=”fadeIn”][/cl-popup]
المبحث الأول: مقدّمات في مفهوم الوسطية:
المقدمة الأولى: إشكالية المصطلح، واستراتيجية التحريف:
جزء من إشكالية المصطلح في العلوم والمعارف ناشئٌ من تجدّد الاصطلاح على ما يقتضيه تطوّر العلوم، فينشأ الخلاف من عدم التحرير الدقيق للمصطلحات، إذ يحملها كلّ طرف على جهة قد لا تكون مقصودةً لصاحب الاستعمال. وقد حدثت هذه المشكلة كثيرا في العلوم الإسلامية؛ أقصد العلوم المستمدة من الوحيين: الكتابِ والسنة، حدثت في الدرس العقدي، والدرس الأصولي، والدرس الفقهي، كما في مصطلح “التعليل”، “التحسين والتقبيح”، “الاستحسان”، وغير ذلك.
ولكنَّ جزءًا آخرَ كبيراً -وليس صغيرا- من إشكالية المصطلح ليس ناشئا عن مخاض تطور العلوم ونشوء المصطلحات، بل ناشئٌ من ظاهرة التوظيف المغرِض، والخلط المتعمّد للمفاهيم.
اليوم في زمن الصراع الفكري والحضاري، أصبحت المصطلحاتُ أدواتٍ أساسيةً في الصراع. بل أصبح تحريف المفاهيم، واستعمال المصطلحات في غير معانيها الحقيقيةِ خطة مقصودة، واستراتيجيةً خبيثة وماكرة ومدروسة، تشكّل خطورة كبرى على العقائد، والأفكار، والتصورات.
وهذه الاستراتيجيةُ تأخذ شكلين:
الشكل الأول: جلب ألفاظ ومصطلحات هي أعلامٌ على معان سيئة، وإسقاطها على المعاني الشرعية، لتنفير الناس بجرس هذه الألفاظ من تلك المعاني والمفاهيم، كجلب مصطلح “الإرهاب” وإسقاطه على الجهاد والمقاومة المشروعة. فرنسا كانت تسمي المجاهدين “فلاقة”، وجلب مصطلح “الظلامية”، و”الأصولية” وإسقاطه على مشروع النهضة الإسلامية … وهكذا.
الشكل الثاني: أخذ الألفاظ السليمة والصالحة، وجعلها أعلامًا على المعاني الفاسدة؛ بغرض تسويقها وتمريرها دون أن تلقى نفرة واعتراضا. كإطلاق مصطلح “الحضارة” على المادية، وإطلاق مصطلح “الحرية” على الإباحية، وإطلاق مصطلح “التجديد” على هدم الأصول والعقائد والمرجعيات … وهكذا: فرنسا كانت تسمي الاستعمار: “مهمة حضارية” (mission civilisationnelle)
والحاصل من هذه المقدمة الأولى: أنّ هذه العملية ليست عفوية، بل هي استراتيجية مدروسة ومقصودة.
المقدمة الثانية: واقع مفهوم الوسطية في الأمة والعالم:
كلّ الناس مجمعون على مدح الوسطية وعدّها علَمًا على ما يرونه حسنا من المذاهب، والآراء، والتوجهات. ولكن الواقع: أنّ كلّ قوم يحملونها على ما يريدون، ويخلعونها على من يوافقون، بينما يسلبونها عمّن يعارضون ويخالفون. وليس هناك متطرف يقول عن نفسه إنه متطرف، بل كل طرفي يرى نفسه وسطيا.
الواقع: أنّ مصطلح “الوسطية” من المصطلحات التي عملت فيها استراتيجية التحريف بعناية كبيرة، لأنه مصطلح براق وجذاب ويترجم عن واحد من المفاهيم الأساسية التي يدور حولها الصراع الفكري والحضاري.
ويمكن أن نلحظ بسهولة أنّ استراتيجية التحريف التي خضع لها مصطلح الوسطية استهدفت تحقيق أغراض كثيرة؛ أبرزها:
صناعة عقدة الهزيمة.
تكريس التخلف.
إطفاء الفاعلية.
الحيلولة دون إعادة الحق إلى نصابه، ودون اضطلاع الأمة بمسؤوليتها في الشهادة والقيادة.
ومن هنا نرى بكل وضوح أيضا أنّ:
– الوسطية بالنسبة للغرب الاستعماري تعني مركزية الحضارة الغربية، وهامشيةَ بقيةِ العالَم بالنسبة لهذه الحضارة، ما يستلزم: ضرورة القابلية بالاستعمار، والخضوع والاستسلام، وترك المقاومة، والذوبان الكلي في الحالة الغربية، وألا تكون للمسلمين أية خصوصية، ناهيك عن حضارة قائمة برأسها، كلّ ما يصبّ في هذا المصبّ فهو وسطية بالنسبة للغرب.
– الوسطية بالنسبة للاستبداد السياسي: هي السكون والركون والطاعة العمياء وعدم الإزعاج. أمّا مجرّد الحديث عن العدل والحرية والتنمية والإصلاح ومكافحة الفساد ونقد منظومة الحكم القائم؛ فهو تحريض وزعزعة الاستقرار وتشجيع على الإرهاب والتطرف …
– الوسطية بالنسبة للعلمانية هي انحصار الشريعة في العلاقة الروحية بين العبد وربه. بل العلمانية المغالية تذهب أبعد من ذلك؛ فتقول: الوسطية هي الوقوف على مسافة واحدة من التوحيد والشرك، والكفر والإيمان، والدين واللادين، والفضيلة والرذيلة.
– وليس بعيدا عن هذا المنوال المنحرف: اتخذ بعض المسلمين “الوسطية” متكئا مفاهيميا للوقوف في الوسط، أيِّ وسط كان، والقبول ببعض هذا وبعض هذا، مهما يكن هذا الهذا، ليس بالنظر لموازين الحق والعدل والقيم والمبادئ، ولا حتى بالنظر لقانون المرحلية والتدرج، ولكن بالنظر لميزان القوي والضعيف، والغالب والمغلوب، وسمّوا ذلك “واقعية”، و”منطقا عمليا” … ولهذا نجد من يقف في الوسط بين فلسطين وإسرائيل، ويقول حل الدولتين. ومنهم من قال دولة واحدة نسميها: “إسراطين”، وفي تاريخ نضالنا ضد الاستعمار وجد من يقف في الوسط بين الاستقلال والاستعمار، فقبل بعضهم بنصف استقلال، ونصف حرية، ونصف شرعية، وغيرها من أنصاف ما لا يقبل الانتصاف. حتى إن أستاذنا محمد الهادي الحسني –ذكره الله بخير- يسمي الاستقلال المعاصر: الاحتقلال، فهو نصف احتلال ونصف استقلال.
بينما الوسطية ليست هي التوافق بالضرورة، وليست هي الحياد الذي هو ثمرةٌ للعقل الهروبي من المسؤولية والفعل، ولو كان الأمر كذلك لكان النفاق وسطيةً واعتدالاً، بينما هو أشدّ ضررًا من الكفر، وأصحابه في الدرك الأسفل من النار.
بينما الوسطية تعني الخيرية والاستقامة، والله يقول في تفسير الخيرية: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)، ويقول في تفسير الاستقامة: (فاستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم).
وبناءً عليه؛ يمكننا القول: الوسطية هي حالة إيجابية فاعلة، تسعى لإقامة العدل، ودفع الظلم، وترسيخ القيم والمبادئ، بالوسائل المناسبة والملائمة والمجدية.
ولأجل هذا نقول: مفهوم الوسطية وغيره من المفاهيم والحقائق الشرعية ليس متروكا للأمزجة والأهوية والأذواق والأغراض، بل هو خاضع لمنهجية العلم، وموضوعية البحث، وقانون الشرع والعقل والفطرة والتجربة، وهو ما نحاول بيانه في هذه المداخلة الموجزة.
المقدمة الثالثة: مصادر مفهوم الوسطية ومعالمِها.
قبل الكلام عن معالم الوسطية في الإسلام؛ هذه المعالم التي تشكّل بمجموعها مفهوم الوسطية، يعرض سؤالان:
السؤال الأول يقول: من أين جئتم بأنّ هذا وسطي، وذاك غير وسطي، ومن أين ادّعيتم هذه المعالم؟
والسؤال الثاني -في شكل اعتراض- يقول: ليس هناك شيء اسمه “وسطية”، هناك الشريعة وأدلتها، فما جاءت به الشريعة أخذنا به، وسمُّوه ما شئتم، وما لم تجئ به الشريعة لم نأخذ به وسمّوه ما شئتم.
أمّا السؤال عن المصادر فجوابه:
مصادر الوسطية خمسة: الفطرة، والعقل، والتجربة، والشريعة، والأمة.
الفطرة: وهي ما أودعه الله تعالى في الإنسان من برامج أساسيةٍ للفهم والسلوك، فهي وسطية بالخلقة والجعل الإلهي.
العقل: هو قاعدة المدركات الفطرية والكسبية التي ينطلق منها الإنسان في عملية التفكير، وهو يمتلك القدرة الخَلْقية والكسبية للتوصّل إلى المفاهيم الوسطية، غير أنها قدرة محدودة ونسبية كما سيأتي.
والتجربة: هي الفعل البشري المنظّم الذي انطلق من مقدمات ووصل إلى نتائج ملموسة، فبالإعادة والتكرار يهتدي بها الإنسان إلى معالم الوسطية.
لكنّ هذه المصادر الثلاثة غير كافية ولا مضمونة النتائج في التوصل إلى الوسطية الشاملة والكاملة في مختلف توازناتها الدقيقة، بل يمكن القول: إن الإنسان عاجزٌ عن إنشاء نظام متوازن في كل صغيرة وكبيرة، ومسألة الوسطية أكبر من أن يقدر عليها الإنسان معوِّلاً على عقله وفطرته وتجربته.
فأمّا الفطرة فيدخلها التعديل والتحريف عن الوضع الأساسي بقدْرٍ يقلّ ويكثر، بحسب قلة وكثرة المعدِّلات.
وأمّا العقل فيصعب جدا أن يتمحّض لعملية التفكير المجرّد، بل يتأثّر بالميول والعواطف والمشارب والبيئة والأهواء والمطامع والرغبات والرهبات.
وأمّا التجربة فقد تتخذ مسارا طويلا جدا يتخبط الإنسان في أثنائه في تضاربات وتناقضات قبل أن يصل إلى بعض معالم الوسطية، ولهذا فالحس شاهد أنه لم يخل نظام بشري قط من الشطط والإفراط والتفريط.
على هذا الأساس؛ تعدّ الشريعة المصدر الأوثق والأكمل والأشمل في الهداية إلى الحقائق والمعارف والمفاهيم التي منها: حقيقة الوسطية.
وبعد الشريعة تأتي الأمة، الأمة في سوادها الأعظم كيف فهمت الشريعة، وكيف اتجهت إرادتها لتجسيد ما فهمته في الواقع، هي من حجج الوسطية. فكلّ فهم، أو مشروع يقفز على إرادة الأمة وفهمها وتطلعاتها وآفاقها المشروعة، أو يضادها، ويحاربها، فلا يمكن أن يكون من الوسطية في شيء.
أمّا الاعتراض الثاني: أنّ الشّريعة حجّةٌ على الوسطية، وليست الوسطية حجّةً على الشّريعة؛ فجوابه:
أنّ خصائصَ الشريعة وأوصافَها العامةَ ومقاصدَها: هي معمولة الأدلة ومستقرأة منها ومستخرجة من مجموعها، ولكنها ترجع لتعمل في الاجتهادات الجزئية، والخلافات الفرعية، لتكون معيارا بين المختلفين فيما يقبل الاختلاف.
فمعلومٌ أنّ الدليل الجزئي إذا كان ظنّياً تعتوره الدلالات، وتتجاذبه وجوهُ الفهم، وأطرافُ الرأي، وإذا كان كذلك؛ فلا ينتج قولاً وسطياً بالضرورة، ليس عيبا في الدليل، ولكن لقصور نظر المستدِلّ عن استنطاق الدليل استنطاقا صحيحا. فتأتي هذه المعالم لتنتصب معيارا من المعايير التي تحكم الاستدلالات الجزئية، وتنأى بها عن الشطط وطرفي الغلو والانحلال.
وهذا كل قواعد الشريعة وسماتِها ومقاصدِها؛ تؤخذ من مجموع أدلة الشّريعة، ثم ترجع لتعمل في الظنيات والاجتهادات الجزئية.
وهذا البيان يقودنا للكلام على أمر مهمّ، وهو: التمييز بين الوسطية في نفس الأمر، وبين مقاربة الوسطية، أو بين الوسطية القطعية، والوسطية الاجتهادية.
الوسطية القطعية: تترجم عنها قواعد الشريعة وأصولها ونصوصها القطعية.
الوسطية الاجتهادية: هي مقاربة الوسطية فيما لا قطع فيه، على ضوء المقطوع به من طريقة الشرع وعادته.
فهنا لا يُعلم حدّ الوسط على جهة القطع، وإنما على جهة المقاربة، وقد يصيب المجتهد ما في نفس الأمر من الوسطية، وقد يخطئه، ففي هذه المساحة إذا كثُر صواب المجتهد، وقلّ خطؤه، إذا غلب اهتداؤه بمعالم الوسطية، وقلّ شذوذه عنها، فلا يخرجه ذلك من نحلة الوسطيين، بينما لو تنكّب هذه المعالم كلها أو أكثرها؛ كان بالطرفية ألحق منه بالوسطية.
وعلى هذا ليست الوسطية فرقة بعينها، ولا مذهبا، ولا جماعة، بل هي دائرة تتسع لعدة مذاهب ومشارب، تتفاوت قليلا أو كثيرا في السداد والمقاربة.
المبحث الثاني: بعض معالم الوسطية.
المطلب الأول: الوسطية بين العقل والنقل.
حدّ الوسط في هذه القضية أنّ: الشريعة تثق في العقل الموضوعي والمتخصّص –لا سيما المؤمن-، وتفسح له مجالات الاجتهاد والتفكير العلمي المنهجي، على ألا يخرج عن الإطار الكلّي الذي رسمه الوحي.
أمّا ثقة الشريعة في العقل فتتجلّى في مناحي عديدة؛ نذكر منها:
1. جعلت العقل طريق الإيمان:
أ. فلا إيمان إلا بالعقل، ولهذا قال علماؤنا: أوّل واجب على المكلّف النظر، وقالوا إيمان المقلِّد لا يُقبل، كما نص اللقاني في الجوهرة فقال:
إذ ْكلُّ من قلّد في التوحيدِ .. إيمانه لم يخلُ من ترديدِ
والقرآن أنكر على المقلّدين في العقائد، القائلين: (إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مقتدون)، وقال في مقابل ذلك: (فاعلم أنّه لا إله إلاّ الله)، والعلم الإدراك، وآلته هي العقل وروافده الحسية.
ب. جاءت النّبوات لتختصر على العقل قليلاً من التفكّر والتدبّر، ولكن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة، ودلالة المعجزة على الإيمان دلالة عقلية.
ج. عندما نقرأ في القرآن الحواراتِ البرهانيةَ والإقناعيةَ مع إبليس، وفرعون، والمشركين، وأهل الكتاب؛ نفهم أنّ الشريعة لا تهدف إلى مجرّد قهر المكلّف وإخضاعه لسلطان العبودية والتكليف، بل تهدف إلى تكوين قناعة المكلّف بجدوى التكليف، ليكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبدٌ له اضطرارًا.
قال صاحب البردة:
لم يمتحنّا بما تعيا العقول به … حرصًا علينا فلم نرتبْ ولم نهمِ
د. التفكر عبادةً من العبادات الجليلة.
2. جعلت العقل مناط التكليف:
فلا تكليف إلاّ بعقل، وعلى هذا الأساس قال جمهور العلماء في مسألة التحسين والتقبيح: العقل يحسّن ويقبّح، لأنّه مناط التكليف، والشريعة أقنعت العقول بجدواها وحقيتها انطلاقا ممّا تستحسنه وتستقبحه العقول، وليس كما قال بعضهم: ليس الحسن والقبح قيما ذاتية، بل هي قيم شرعية، والصدق والكذب قبل ورود الشرع متساويان.
وأما أنها فسحت للعقل مجالات الاجتهاد والتفكير العلمي المنهجي، فمظاهره عديدة نذكر منها:
1. أنها أوكلت كثيرا من أمر التشريع إلى الاجتهاد:
قال الشيخ الطاهر بن عاشور: (ولقد يُعدّ ممّا يناسب عموم الشّريعة أنّها أوكلت أموراً كثيرةً لاجتهاد علمائها …)، هذا الإيكال والتوكيل يظهر جليا فيما يلي:
أ. عمدت الشريعة إلى التحرج من الغلط في الاجتهاد فرفعته، بل جعلت المجتهد مأجورا سواء أصاب أم أخطأ.
ب. جعلت معظم أحكامها مبنية على التعليل، قال الأصوليون: الأصل في الأحكام التعليل لا التعبد. والعلة أكثر مسالكها عقلية، وتحقيقها في الفرع عملٌ عقليٌّ محض.
ج. جعلت عقل المجتهد مرتكَـزاً لكثير من مسالك وقواعد الاجتهاد، منها مثلاً:-
أصل الإجماع:
فإنّ منزع حجّيته هو الثقة في الملكة العقلية لأهل الاجتهاد، كما قال الأستاذ الدريني: (إنّ الشّريعة إذِ اعتبرت الإجماع في ذاته قرينةً قاطعةً على الحقّ، والعدل، والمصلحة الحقيقية المعتبرة؛ فذلك لاعتبارات مردُّها الوثوقُ بصدق البصيرة النافذة لدى المجتهدين العدول التي صقلها طول ممارسة التفقّه في أصول الشّريعة …).
قاعدة العرف:
وهي إحدى الكُبَر الخمس من قواعد الفقه، مبنيةٌ أيضًا على الثقة فيما تواطأت عليه العقول السليمة من محاسن الممارسات، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيِّـئا فهو عند الله سيِّء).
قاعدة المناسبة:
مبنيةٌ أيضًا على الثقة فيما تلقّته العقول الموضوعية المتخصّصة بالقبول، ولهذا نجد الدّبوسي من أئمة الحنفية يعرّفها بأنها: (ما لو عُرض على العقول تلقّته بالقبول).
تحقيق المناط:
وهو النظر في المحلّ الذي يراد تنزيل الحكم عليه، هل متعلقات الحكم من سبب وشرط ومانع وعلة ومقصد متوفرة فيه أم لا، وهو نظر عقلي بحت.
وتحقيق المناط يعده الغزالي تسعة أعشار الاجتهاد، ويعده الشاطبي شطر الاجتهاد.
والحقّ أنّ الاجتهاد كلَّه مبنيٌّ على الثقة في عقل المجتهد: تفسير النصوص الظنية، والقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، وتحقيق المناط؛ كلّها من عمل العقل المتخصص المتأهل المشرّب بالدين والتقوى والإيمان.
فمن أين يُقال بعد هذا إنّ العقل بمعزل تامٍّ عن الشّرع. وإنّ الشريعة تحجر على العقل، وتلغيه، وتقصيه، ونحو ذلك من الكلام المتهافت.
هذا شطر المواسطة التي نحن بصددها، أمّا الشطر الثاني، وهو قولنا: على ألا يخرج العقل عن الإطار الكلي الذي رسمه الوحي. فمبني على المسوغات الآتية:
1. العقل محدود:
العقل هو قاعدةُ المدركات، والمدركات طريقها الحواس، والحواس محدودة في الزمان والمكان والإمكان، وعالم الحسّ نفسه عالم محصورٌ بالنّسبة إلى مجموع المدركين، ويزداد انحصارًا بالنّسبة إلى كلّ مدرِك على حدة، فلزم أن تكون مدرَكات العقل -فردياً كان أو جماعياً- محصورة، ومن هنا كان العقل عاجزا عن إدراك مغبّات الأمور البعيدة، غير قادر على الاستيعاب الشامل لوجوه انتظام المصالح. وهو مصداق قوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). بينما الهداية الربانية آفاقها غير منحصرة، وأبعادها غير محدودة.
2. العقل لا يتجرّد:
فهو لا يصل إلى النتائج مباشرة، بل يقوم بعدّة عمليات من الربط، والتحليل، والتركيب، والمقايسة، والموازنة، والترجيح، وإبّان ذلك يعسر أن يتجرّد عن كثير من العوامل التي تؤثِّر في هذه العمليات، كالعجلة، والإلف، والعادة، والتقليد، والعواطف من المحبة، والكره، والرّجاء، والخوف، والفرح، والحزن، والرّضا، والسخط وهلمّ جرّا، ناهيك عن الأهواء والرغبات. ودخول هذه المؤثرات يحول دون الرّبط الصّحيح بين المقدّمات والنتائج.
3. العقل نسبي:
فهو يختلف باختلاف الأشخاص، ولهذا تجد أحكام العقول تختلف حتى بين أكبر العقلاء، بل تختلف عند الشّخص الواحد باختلاف ما عنده من المخزونات المعرفية التي هي مادّة التفكير، فـتجده يرى الرأي في الصّباح ويغيِّره في المساء، كما تجده حاذقًا فيما ارتاض عليه من علوم ومعارف، وبليدا فيما لم يرتض عليه منها، ومن هنا يخطئ من يُعمل مخزوناته الخاصّة بمجال ما؛ في التفكير والتعقّل في مجال آخر مختلف؛ ظنًّا منه أنّ حذقه هناك يصلح للتحذلق هنا أيضاً.
على أساس من هذه الخصائص لم يصلح العقل ليستقل بالتشريع، كما قال الشاطبي: (عُلم بالتجارب والخبرة السّارية في العالم من أوّل الدّنيا إلى اليوم أنّ العقول غير مستقلّة بمصالحها استجلابًا لها، أو مفاسدها استدفاعًا لها …).
وعلى ضوء من هذا التفصيل المختصر؛ توصّل العلماء إلى الموازنة الوسطية في موضوع العقل والنقل؛ فقالوا: العقل تابع، والنقل متبوع. عبّر الغزالي عن هذا المعنى فقال: (اعلم أنّ العقل لن يهتدي إلاّ بالشّرع، والشّرع لم يـتـبـيَّن إلاّ بالعقل .. فالعقل كالسِّراج، والشّرع كالزّيت الذي يمدّه، فما لم يكن زيت لم يحصل السِّراج، وما لم يكن سراج لم يضئ الزّيت … فالشّرع عقلٌ من خارج، والعقل شرعٌ من داخل، وهما متعاضدان بل متّحدان).
وقال الشاطبي: (إذا تعاضد النّقل والعقل على المسائل الشَّرعية فعلى شرط: أن يتقدَّم النّقل فيكون متبوعًا، ويتأخَّر العقل فيكون تابعًا، فلا يسرح العقل في مجال النَّظر إلاَّ بقدر ما يُسرحه النَّقل).
بعض الآثار العلمية والعملية للوسطية بين العقل والنقل:
1. لا تعارض بين عقل صريح ونص صحيح:
وما يظهر من التعارض بينهما نسبي إلى الأذهان لا إلى نفس الأمر، والخلل إمّا أن يكون فيما ادُّعيت عقليته، أو فيما ادعيت نقليته. وفي هذا كتب ابن رشد: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وكتب ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل، وكتب الحجوي: التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين.
ومن فروع ذلك: عدم جواز التسرّع في طرح النصوص بدعوى مخالفتها للعقل، ويجب أن نفرق بين حديث: (الباذنجان لما أُكل له)، وحديث: (زمزمُ لما شُرب له)، فالأول موضوع مصادم لحقائق العلم، والثاني صحيح غير مصادم لشيء من تلك الحقائق.
2. مشروعية الحوار والنقد في علوم الدّين كما في علوم الكون:
وليس كما تقول المسيحية: الدين فوق العقل، وتقول بعض الصوفية: اعتقد ولا تنتقد.
3. العلمانية عمياء:
ترى بأنّه مادام الدّين اصطدم بالعقل والعلم في التجربة الغربية فيجب أن يصطدم بكلّ دين في كل تجربة. بينما في تجربتنا الحضارية ابن رشد رائد الفلسفة العقلانية، وشارح أرسطو، حتى الغرب يعترف له بهذه المرجعية؛ ابن رشد هذا هو قاضي قضاة قرطبة، قضى بأحكام الشريعة، وألف كتابا في الفقه المقارن (بداية المجتهد).
4. ليس في الإسلام دولة دينية:
بل هي دولة مدنية بشرية في إطار مرجعية دينية، الحاكم فيها بشر، تختاره الأمة، ويجتهد اجتهادا بشريا في تجسيد المرجعية الدينية، يصيب في ذلك ويخطئ، وينتقد، ويعارض، ويعزل.
المطلب الثاني: الوسطية بين الظاهرية والباطنية، وبين النصوص والمقاصد.
حدّ الوسط في هذه القضية ما قاله الشاطبي: (العمل بالظواهر على تتبّع وتغال بعيدٌ عن مقصود الشرع، وإهمالها إسراف أيضا).
فالوسط بين يتعامل مع نصوص الوحي تعاملاً حرفيا، ويفهمها فهماً معجميا، ولا أقول لغويا، لأنّ اللغة مضافا إليها السياق والسباق واللحاق وعاءٌ بيانيٌ واسعٌ جدّا، يتسع للحقيقة والمجاز والكناية والاستعارة والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد، وللتنبييه بالأدنى على الأعلى وبالأعلى على الأدنى وبالمساوي على المساوي، ولجزء المعنى وضد المعنى ومعنى المعنى، ولأغراض المتكلم الكثيرة.
ولكن التعامل الظاهري يكاد يهمل كل هذا، حتى قالت الظاهرية: البكر إذا تكلّمت بالرضا لم ينعقد نكاحها، لأنّ النص قال: وإذنها صماتها. بينما نقطع أنه مجرد تنبيه بالأدنى على الأعلى. وقالوا: من غسل رأسه في الوضوء لم يجزئه عن المسح، بينما نقطع أن الغاسل ماسح وزيادة. وقالوا: لو صبّ البول في الماء الدائم من إناء جاز له الغسل فيه.
وبين من زعم أنّ الوحي شريعةٌ وحقيقة، وأنّ الشريعة غير الحقيقة، وأنّ النص الواحد من القرآن والسنة يخاطب أهل الشريعة بمعنى، ويخاطب أهل الحقيقة بمعنى آخر … ومن قال: الظواهر غير مقصودةٍ بإطلاق، وأنّ لكلّ آية ظاهرا وباطنا، وأنّ علم الباطن خصّ الله به أصفياءه وأولياءه، لا يطّلع عليه ملكٌ مقرّب، ولا نبيٌّ مرسل، ففسّروا الكلمة بسبعة إلى سبعين وجها. فقالوا: (الصراط المستقيم): الإمام علي. (وألنّـا له الحديد): سهّلنـا له صعب الكلام، (السموات والأرض): النطقاء والأئمـة والحجج الذيـن هم سموات الدّين وأرضه. (ليلة القـدر): فاطمـة. (ذو القرنيين) علي ابن أبي طالب … وهكذا إلى ما يسمّى بالتفسير الإشاري. وهكذا إلى من قال: إذا تعارض النص والمصلحة فالمصلحة مقدمة بإطلاق، فجوّزوا الرّبا، وأباحوا شرب الخمر، وتبرّج النساء، ومنعوا القصاص، واعترضوا على قسمة المواريث، وعطّلوا الحدود، وقالوا: الصيام يعرقل الاقتصاد، والزكاة تعلّم الكسل، والصلاة تأكل من وقت الإنتاج … وتعلقوا بمقالة للإمام نجم الدّين الطوفي زعموا أنّها تؤسّس لما ذهبوا إليه.
بينما تدلّ قواعد الشريعة أن الظواهر ليست مقصودة بإطلاق؛ إذ الدلالة عند أهل اللغة والأصول هي فهم المعنى مقيَّداً بعنصر (القصد)، وليس فهم المعنى بإطلاق، قال التهانوي: (أهل العربية يشترطون القصدَ في الدلالة، فما يُفهم من غير قصدٍ من المتكلِّم لا يكون مدلولاً للفظ عندهم، فإنّ الدلالة عندهم هي فهم المراد، لا فهم المعنى مطلقا) (كشاف اصطلاحات الفنون).
وإذا كان كذلك فالعبرة بإرادة المتكلم لا بمطلق لفظه، قال ابن القيم: ( … والألفاظ ليست تعبدية، والعارف يقول: ماذا أراد؟ واللفظي يقول: ماذا قال؟ … -إلى أن قال- وقد كانت الصّحابة أفهم الأمّة لمراد نبيِّها، وأتبع له، وإنّما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده …) (إعلام الموقعين).
وقال الشاطبي: (الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، بناءً على أنَّ العرب إنّما كانت عنايتها بالمعاني، وإنّما أصلحت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلومٌ عند أهل العربية، فاللفظ إنّما هو وسيلةٌ إلى تحصيل المعنى المراد) (الموافقات).
وعلى هذا الأساس لا يكون الوضع الإفرادي للكلمة، ولا المعنى المعجمي كافيا في الدلالة على المقصود، بل الغالب ألَّا يُعرف المقصود إلاّ بنظْم الكلام مجتمعًا، قال الجويني: (إنّ المعاني يتعلّق معظمُها بفهم النّظم والسِّياق، ومراجعة كتب اللغة تدلّ على ترجمة الألفاظ، فأمّا ما يدلّ عليه النّظم والسِّياق فلا) (البرهان).
ولكن في نفس الوقت لا يمكن إهمال الألفاظ إهمالا كليا؛ فإذا كان فهم المعنى مع وجود الألفاظ عملية دقيقة؛ فما بالك بفهم المعنى مع عدم الألفاظ كلّية، تلك عملية مستحيلة.
ولهذا كان العلم باللغة ومقتضيات اللسان العربي شرطا أساسيا من شروط الاجتهاد. وبناء عليه؛ فالقاعدة الوسطية في هذا الباب: أنّ الأصل في الظواهر أنّها مقصودة، حتى تثبت الأدلة التي تصرفها إلى غير الظاهر.
هذا بالنسبة لمقاصد الخطاب، وهناك مستوى أعلى لا بدّ من مراعاته أيضا، وهو مقاصد الأحكام. وهو الذي يقول عنه الشيخ عبد الله دراز: (إنَّ لاستنباط أحكام الشّريعة ركنين: أحدهما: علم لسان العرب، وثانيهما: علم أسرار الشّريعة ومقاصدها … ) (الحاشية على الموافقات).
وهو المسمى بعلم مقاصد الشريعة، وقد ذكر ابن عاشور وغيره أنّ إهماله كان سببا في جمود الفقه، فقال: (كان إهمال المقاصد سبباً في جمودٍ كبير للفقهاء، ومعولاً لنقض أحكام نافعة).
وأجمع الصحابة على الاجتهاد المقاصدي عندما جمعوا القرآن، وقتلوا الجماعة بالواحد، وضمنوا الصناع، وورثوا المبتوتة في مرض الموت، والتقطوا ضالة الإبل، وضربوا الدية على أهل الديوان، وجمعوا الناس على التراويح، وشركوا الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم، وغيرها من عشرات الاجتهادات المقاصدية …
وانطلاقا من ذلك شنّعت الأمة على طرفي الغلو في هذه المسألة: الظاهرية والباطنية؛ تشنيعا كبيرا.
فأمّا الظاهرية؛ فعدّوها بدعة ظهرت بعد المائة الثانية، بدعةً هادمة للشريعة، كما قال ابن العري: (إنّ في اتِّباع الظّاهر على وجهه هدمَ الشّريعة حسبما بيّناه في غير ما موضع) (أحكام القرآن).
ولم يعتدوا بخلافهم في المسائل المتعلقة بإنكار المقاصد والعلل، وبعضهم سلب عنهم صفة العالمية، قال إمام الحرمين: (الذي ذهب إليه أهل التحقيق أنَّ منكري القياس لا يُعَدُّون من علماء الأمّة، ولا من حملة الشَّريعة) (البرهان). وقال أبو بكر الجصّاص: (ولا يُعتدّ بخلاف من لا يعرف أصول الشّريعة، ولم يرتض بطرق المقاييس، و وجوه اجتهاد الرَّأي) (الفصول في الأصول). وعبارات مشابهة منقولة عن الزركشي، وابن دقيق، وأبي العباس القرطبي، وغير واحد من الأئمة.
وأمّا الباطنية: فأشدّ خطرا وانحرافا وهدما لأصول الشريعة ومبانيها الكبرى.
وقد صنف الغزالي كتابا كاملا في الردّ على الباطنية سمّاه “فضائح الباطنية”، وقال في جملة ما قال: (فإن إبطال الظواهر رأي الباطنية الذين نظروا بالعين العوراء إلى أحد العالَمين).
كما تعقّب الشيخ محمّد الغزالي من قسّموا الدّين إلى حقيقة وشريعة، وعلق على كلام لأحدهم في هذا التفريق فقال: (وهذا كلامٌ باطلٌ لا ينطوي إلاّ على الفراغ والدعوى .. وليس في دين الله أهل شريعة وأهل حقيقة، ولا انقسم الوحي الإلهي إلى فريق لهؤلاء وفريق لأولئك).
وأمّا تعلُّق الحداثيين بنظرية الطوفي؛ فواه جدا. لأنّ نظرية الطوفي هي نفسُها نظرية الأئمة في تخصيص النصوص الظنية، لا القطعية بالمصالح المرسلة التي تستند إلى كليات معتبرة وقطعية، ككلية نفي الضرر. والطوفي صرّح بأنّ يقدم المصلحة الشرعية المعتبرة على النصوص الظنية، لا النصوص القطعية، وذلك بطريق التخصيص والبيان، لا بطريق التعطيل والافتيات.
كما أنّ الطوفي أشعريُّ الأصول، ويقول بمذهب الأشعرية في التحسين والتقبيح، ذلك المذهب الذي ينفي ذاتية الحسن والقبح، ناهيك عن قدرة العقل على إدراكها، ناهيك عن التشريع على ضوء ذلك الإدراك، وله كتاب يرد فيه على المعتزلة، عنوانه: درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح، فمن أين يقول مقالة هؤلاء الحداثيين المنفلتين من عقال الشريعة ونصوصها.
أمّا ما تعلق بالجزئيات والكليات؛ فقد وضع الإمام الشاطبي الهناء بموضع النقب من هذه القضية فبيّن أنّ الشريعة ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنّها في أصولها كذلك، ولا يصلح فيها غير ذلك. وأنّ المنطق التشريعي واحدٌ، غير مختلف ولا متناقض، والكليات هي الإطار العام لهذا المنطق، وهي المقصودة بالحفظ، وهي الواقعة في موقع المحكمات التي ترد إليها المتشابهات، والقطعيات التي تفهم في ضوئها الظنيات، ومن ثمَّ تعيَّن فهم الجزئيات في ضوء الكليات، لأنّ التمسّك بالكلّي إذا عارضه جزئي من الجزئيات يفسح مجالاً للتأويل، بحمل الجزئي على وجه من وجوه المؤالفة، فيتسنّى إعمالُ كليهما من غير إهدار، أمّا العكس، وهو التمسك بالجزئي ابتداءً فلا يفسح مجالاً للعمل بالكلي إذا تعارضا من كلِّ وجه؛ لأن الكلِّي لا يلحقه التأويل، ومن فعل ذلك أي تمسك بالجزئي بغض النظر عن المؤالفة بينه وبين الكلي؛ رمت به أيدي الإشكالات في مهاوٍ بعيدة، وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدِّين؛ لأنّه اتّباعٌ للمتشابهات، وتشكُّكٌ في القواطع المحكمات..
ولكن في نفس الوقت: الكُلِّي من حيث هو كُلِّي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات؛ فالوقوف مع الكُلِّي مع الإعراض عن الجزئي وقوفٌ مع شيء لم يتقرَّر العلم به بعد، فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراضٌ عن الكُلِّي نفسِه.
وهكذا خلص الشّاطبي إلى الوسطية في هذه القضية فقال: (فالحاصل أنّه لا بدَّ من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلِّياتها وبالعكس، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق، وإليه ينتهي طَلَقهم في مرامي الاجتهاد). وقال: (فلا يصحُّ إهمال النَّظر في هذه الأطراف، فإنَّ فيها جملة الفقه، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ، وحقيقته نظر مطلق في مقاصد الشَّارع، وأنَّ تتبع نصوصه مطلقة ومقيّدة أمرٌ واجب، فبذلك يصحُّ تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشَّريعة، ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار، وبالله التوفيق).
الهوامش:
المقال هو مزيج من أفكار الباحث ولغته، مع أفكار وجمل مستفادة من كتب ومقالات حول الموضوع، ولم يتيسّر توثيقه بالمنهجية الأكاديمية.