المروءة – أ.أبي إسلام منير
[cl-popup title=”ترجمة الكاتب” btn_label=”ترجمة الكاتب” align=”center” size=”s” paddings=”” animation=”fadeIn”]رئيس شعبة جمعية العلماء المسلمين بولاية وهران[/cl-popup]
لن أكتب شيئا عن تعريف المروءة فهي أكبر من أن تُعرّف .ولقد اجتهد الفقهاء قديما حين كان للمروءة معنًى أن يضعوا لها ضوابط من تعدّاها فقد خرم المروءة أو انخرمت مروءته، وبقيت المروءة أعمّ مما قعّده الفقهاء .
فهي ليست تأمّلا فكريا باردا، ولا فلسفة تتعامل مع قضايا مجرّدة، ولا حِكَما تُحفَظ لتُردّد في المجالس، وإنّما هي الخيط الناظم لمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، ومن طالع ما أُثِر عن العرب في جاهليتهم وعن المسلمين في القرنين الأوّلين من الهجرة خاصّة رأى ما لا ينقضي منه العجب .
كان النُّبْل والوفاء والشهامة والشرّف والكرم والفداء والعفّة والصدق والشجاعة والتضحية سِيمَا كلّ سيّد وشريف في قومه، ووصفَ كلّ خليفة وأمير ووزير، و خصلة كلّ عالم وإمام ربّانيّ نحرير .
وقد نال العربُ من ذلك حظا وافرا، لم يُنقَل عن الأمم الأخرى معشاره وإن لمْ تخْلُ منه أمّة، فإنّ خصال المروءة هي خلاصة الإنسانيّة السويّة التي يفقد الإنسان بدونها معنى وجوده .
وممّا يجب أن يُذكر ويؤَكَّد ذكرُه أن البيئة الاجتماعيّة والعلميّة كانت كلّها وإلى عهد قريب تدفع إلى المروءة وتزّينها في أعين النّاظرين والطالبين وتفخر بها وتباهي بخصالها وتُعلي من شأن أهلها وترفع مكانتهم الاجتماعيّة وتُسقط من يفقدها وتسخر منه وتستهزئ به حتى ليَصل الأمر إلى أن تُردَّ شهادته في القضاء .
ولقد نقلت كتب التاريخ والأدب نقلا مستفيضا أنّ أهمّ ما كان يحرص عليه الملوك والأمراء والعلماء والأعيان والأشراف وأهل الدّين والصلاح أن يجدوا لأبنائهم مؤدّبين يغرسون في نفوس الأبناء هذه المعاني النبيلة الشريفة ويُؤطِرونهم عليها أطرا، ولو بقدرٍ من الشدّة والعنف، وكان هؤلاء المؤدّبون من أهل الذكاء والعلم والفطنة والبصيرة التربويّة، فلم يكونوا مجرّد معلّمين ينالون أجرة على عمل عاديّ يؤدّونه وينصرفون .
كان الأصل في غرس المروءة في أنفس الأطفال والناشئة، هو تعليمهم القرآن حفظا ومدارسة وفهما، ثم تأديبهم بآداب السنّة التي اشتملت على مكارم الأخلاق في أرقى صورها التي عرفتها البشرية، ثمّ كان الشعر العربي وأيّام العرب في الجاهليّة والإسلام بعد ذلك حاضريْن في التأديب والتربية على علوّ الهمّة والوفاء والكرم والعفو عند المقدرة والحِلم والترفّع عن الدنايا والشجاعة ورباطة الجأش في مواجهة المصاعب والمصائب وخدمة النّاس ونصرة المظلوم .
إنّ المروءة منظومة أخلاقيّة متكاملة، لا يُغني فيها الجانب النّظري عن الممارسة اليوميّة، ولا تُغني فيها المشافهة عن المواقف. ولئن كانت هذه المنظومة في الجاهليّة يشوبها النّقص ويشوّهها الرياء وحبّ الثناء والمدحة من الناس والشعراء فإنّ الإسلام هذّبها ونفخ فيها من روحه، وكمّل نقصها وألبسها ثوب الإخلاص وجعل غايتها مرضاة الله وطلب الثواب والأجر منه لا من النّاس ونفى عنها الظلم والبغي بغير الحقّ.
وإنّ طوفان الحضارة الأوروبيّة الحديثة الجارف وأدوات العولمة ومؤسّساتها والفلسفة المادّيّة الكامنة خلفها، والتي اكتسحت مجالات حياتنا نحن المسلمين حتى تسرّبت قيمها ومفاهيمها إلى أدقّ تفاصيل شأننا الخاصّ فضلا عن العامّ قد جرف في طريقه المروءة وخصالها كما جرف غيرها، حتى أصبح أهل المروءات عملة نادرة أعزّ من الكبريت الأحمر كما يقال، وحتى صارت خصالها نِسْيا منسيّا، وحتى تُرِك ذكرها والحثّ عليها في المدارس والمنابر ومناهج التربيّة، فإذا ذُكِرت فإنّما تُذْكَر مثلما يُذكر الشنفرى وعروة بن الورد والأحنف بن قيس تاريخا بعيدا يشبه الأساطير، وحكايات كأنّها ضربٌ من أحاديث الخرافة .
وإذا كانت المدرسة قد أفلست ونفضت يديها من كلّ ما هو (تربيّة ) وإذا كان المسجد قد أُريد له أن يكون مؤسّسة مثل مؤسّسات النفط والكهرباء وصناعة السيّارات، وإذا كان الإعلام المقروء والمرئيّ في الغالب عدوّا للمروءة ومحرّضا على كلّ ما ينقضها ويقوّضها؛ فلم تبق سوى الأسرة محضنا يتلقّى فيه أبناؤنا هذه القيم والمفاهيم والمعاني، ويتدرّبون فيه على الالتزام بها ممارسة وسلوكا والتذكير بها بكرة وعشيّا بالقدوة أوّلا ثم بربطهم بالتراث الأدبيّ شعرا ونثرا، والتاريخ الغنيّ بآلاف المواقف الحقيقيّة على امتداد قرون من الزمن .
إن المروءة في بعض مناحيها هي الرجولة، وإنّها لجريمة في حقّ أنفسنا وأبنائنا ووطننا أن نترك نبعها يغيض ونهرها يجفّ ومعالمها تُطمَس، وألا نسعى ونجتهد في إحيائها وجعلها بعد الإيمان والتوحيد شرطا في التعامل مع الأشخاص في السياسة والتجارة والعلاقات الاجتماعيّة والأسريّة، وألّا نضع المناهج والخطط التي تضمن ذلك وألّا نذكّر بها في المحافل والمجالس وألّا يكون لنا وِرْد من أذكار المروءة نُقِيم به ما اعوجّ من رجولتنا و نقويّ به ما ضمُر من شهامتنا .
نسيت في النهاية أن أقول إن المروءة ليست من خصائص الرّجال وحدهم، بل للنّساء منها نصيب وأيّ نصيب، وكيف نطمع في مروءة رجل تنجبه وتربّيه وتصنع شخصيّته وتكون رفيقة دربه في حياته امرأة لا تعرف من المروءة ولا عنها شيئا؟
إنّ المروءة كما هي منظومة أخلاقيّة متكاملة، فهي كذلك منظومة اجتماعيّة متكاملة .
وإنّني لأذكر المروءة كلّما قرأتُ رائعة الشيخ الإبراهيمي : الشباب الجزائريّ كما تمثّله لي الخواطر، وأقرأ نماذج منها في ديوان الحماسة لأبي تمّام، وأكاد أرى رأي العين صورا منها في سِير أعلام النّبلاء وما أكثرهم وأعظمهم في تاريخ أمّتنا ..و :
لولا المشقّة ساد النّاس كلهمُ ** الجود يُفقِر والإقدام قتّالُ !
قالت العرب قديما : المروءة أن لا تعمل عملا في السر تستحي منه في العلانية …
المروءة قيمة إنسانية عالية من امتلكها امتلك زمام كل القيم الأخلاقية …
بارك الله فيكم ونفع بعلمكم…
هل النشر في المجلة متاح للطلبة والباحثين؟