التراث الإسلامي…بين يدي كارل بروكلمان -شعثان صفية
التراث الإسلامي…بين يدي كارل بروكلمان
شعثان صفية
جامعة الجزائر (1) كلية العلوم الإسلامية
“…وكانت أشد أمانيّ إلحاحا عليّ أن أعيش فيما وراء البحار على ظهر سفينة ،أو ترجمانا ،أو مبشّرا دينيّا…”
إنّها المقولة الشهيرة لأحد أئمة تاريخ التّراث الإسلامي،والدراسات السّامية بالجامعات الأوروبية في النّصف الأول من القرن العشرين … المستشرق الألماني “كارل بروكلمان ” (1956م) عميد الدّراسات الشرقية بألمانيا،والذي فاقت شهرته مجال نشر الفهارس والمخطوطات والنّصوص العربية …،[إلى تقييمه ونقده وتوجيهه أيضا…، وهذا ما يؤكّد خطورة هذه الشخصية، والحاجة الملحّة لدراستها والوقوف على حقيقتها ومنهجها في تناول تراثنا المعرفي…]
وإنّ الحديث عن هذه الشخصيّة الاستشراقيّة [الكبيرة] وما ساهم به في مجال العلم والمعرفة [بكتبه المهمة ومؤلفاته القيمة ] [أكبر من أن يستوعبه أو يحيط به مقال …،]ولهذا ..[سأكتفي في هذا المقال بالتعريف بهذه الشخصية، مترجمة ًله من جهة علاقته بتراثنا المعرفي وخدمته له]
ولد المستشرق الألماني كارل بروكلمان في 17سبتمبر 1868م،بمدينة “روستوك”الألمانية،وبدأت ميوله للدّراسات الشرقيّة واللّغات السّامية تظهر عليه منذ أن كان طالبا في الثّانوية حتى استطاع أن يضع مشروعا لكتاب نحو لهجة البانتو …
وكان أمله في أن يعمل فيما وراء البحار طبيبا على ظهر سفينة أو ترجمانا أو مبشّرا دينيّا، ولهذا السبب كان يحضر دروس الأستاذ “نرجر” في اللّغة العربية حتى أتقنها قراءة وكتابة،وليست هي اللغة الوحيدة التي برع فيها، بل إلى جانبها أتقن عدّة لغات سامية أخذها على يد أساتذة مشهورين آنذاك أمثال:هوبشمن،فلبّي،ليّو، فرنكل، هلبّرنت …وغيرهم، حتى سمي ضليع اللّغات السامية بحق بإتقانه …[لإحدى عشرة لغة..]
التحق بروكلمان بجامعة “روستوك” الألمانية عام 1886م ودرس هناك إلى جانب الشرقيات الفيلولوجيا الكلاسيكية “اليونانية واللاتينية “والتاريخ…وحبّه الكبير للتّجوال والترّحال جعل منه يتلقى عدة دروس من أساتذة كبار آنذاك أمثال “نولدكه” شيخ المدرسة الألمانية ، والذي انتقل إليه “بروكلمان” في ربيع 1888م في “اشتراسبورغ ” يقول بروكلمان :”…وعنده تعلمت الكثير …”،ولما رأى فيه “نولدكه” جدّيته وتعمّقه البحثي كلّفه بالقيام بدراسة عن العلاقة بين:” كتاب التاريخ لابن كثير”،” وكتاب أخبار الملوك والرّسل للطبري “رسالة الدكتوراه من جامعة اشتراسبورغ 1890م ، وهو أول باكورته[لفظة باكورة تغني عن لفظة أول] العلّمية …
وخلال هذه الفترة التي قضاها في “اشتراسبورغ” شغل عدّة مناصب كتعيينه مدرسا خصوصيا في منزل العالم الفيسيولوجي “جلوتي”، ومدرّسا في المدرسة البروتسّتانتية
وبالعودة إلى جهوده البحثيّة في الدّراسات الشرقية فقد قرأ مع “نولدكه 1888م ” القسم الأول من” ديوان لبيد” مترجم عن طبعة “فيينا” ومزوّد بحواش ،والقسم الثّاني منه منشور وفقا لمخلّفات الدكتور _هوبر_ طبع في برلين 1891م …
وبعد خروجه من المدرسة البروتستانتية وانتقاله عام 1892م إلى “برسلاو” تحصل على دكتوراه التأهيل للتدريس في 28 يناير 1893م ،برسالة حملت عنوان :”عبد الرحمن أبو الفرج ابن الجوزي_ كتاب تلقيح فهوم الآثار في مختصر السير والأخبار_ كما اصدر بعد رسالة الدكتوراه هذه “معجما سريانيا جديدا في فبراير 1895م”، وهو معجم تأصيلي مقارن بين اللّفظ السرياني وما يقابله من ألفاظ في اللّغات السامية الأخرى.
وبعدها اشترك “بروكلمان” في إعداد نشرة نقدية محقّقة “لطبقات ابن سعد” بدعوة من الأستاذ “سخاو ” ودعاه ذلك للسفر إلى لندن واسطنبول بحثا عن مخطوطات هذا الكتاب …وخلال فترة إقامته “باسطنبول ” (1895/1896م)، انتهز الفرصة ونسخ نسخة من كتاب:” عيون الأخبار لابن قتيبة” _ظهر الجزء الأول منه في برلين 1900م ،أما الجزء الثاني ففي سنة 1903م _،وبعد زيارته لاسطنبول عاد “لبرسلاو” منتهيا من تحقيق هذا الكتاب الذي طبع في برلين 1904م .
وبالعودة إلى كتاب:” نشر عيون الأخبار”، فقد تولى “بروكلمان” نفقته بنفسه إلى أن وجد في “فلبر” في “فيمار” ناشرا مستعدّا لتحمّل نفقات الطّبع شريطة أن يقدم إليه كتابا أكثر رواجا لأن “النّص العربي لعيون الأخبار” ، لم يعد يهم إلا فئة قليلة من المتخصّصين في المكتبات العامة،وهذا ما دفعه إلى تصنيف كتابه الشهير”تاريخ الأدب العربي” هذا المؤلف الضّخم على الإطلاق المكوّن من خمس أجزاء، والذي يحوي كل ما يتعلق بالمخطوطات وأماكن وجودها، وليس هذا فحسب إذ لا غنى للباحثين في مجال الأدب العربي منذ مطلع القرن العشرين في أن يستعينوا به في بحوثهم، باختصار فهو-جريدة إحصاء لكل من كتب- في كل فن من فنون المعرفة من الشعر إلى التاريخ إلى الفلسفة وغيرها …و ظهر النّصف الأول من الجزء الأول لهذا الكتاب عام 1897م، والنصف الثاني عام 1898م ،أما الجزء الثاني منه ظهر سنة 1902م ،ثم أعاد “بروكلمان” طبعه في مجلدين مع توسعات كثيرة جعلها متماشية مع طبعة الملحق هذه في ليدن 1943/1949م ،وهكذا اخذ المؤلف شكله النهائي من خمس مجلدات الأول والثاني هما الأصل أما الثلاثة الباقية فهي عبارة عن ملاحق .
و”لبروكلمان” مشاركة في سلسلة “تاريخ الآداب في الشرق عام1901،وذلك بتاريخ موجز “للأدب العربي”، وله أيضا كتاب في هذه السلسلة بعنوان:” تاريخ الآداب المسيحية في الشرق “،كما قام بفهرسة مجموعة من المخطوطات في مكتبات همبورج وبرسلاو…
وفي عام 1903م ألف كتابا بعنوان :”موجز النحو المقارن للّغات السامية” في مجلدين 1907/1913م”، وتلاه موجز صغير في “النحو المقارن للّغات السامية”،وهو المجلد 21 من مجموعة باب اللّغات السامية 1908م، وكان قد اصدر قبله كتيبا صغيرا بعنوان علم اللّغات السامية.
وبعد دعوة “بروكلمان ” لشغل منصب أستاذ في جامعة “هلّه” أتم كتاب موجز “النّحو المقارن للّغات السامية الجزء الثاني منه”، كما أعاد طبع ألمعجم السرياني 1928م للمرة الثّانية.
وكان اهتمام ضليعُ اللّغات السامية باللّغة التركية واضحا وتجلى ذلك في كتاب:” كنز اللّغة التركية الوسطى تبعا لديوان لغات التّرك لمحمود الكاشغري” والذي ظهر كمجلد في سلسلة تدعى :”المكتبة الشرقية الهنجارية “،وأيضا كتاب “نحو اللّغات التركية الشرقية الوارد في اللّغات المكتوبة الإسلامية في آسيا الوسطى 1951/1953م”.
ولعلّ تعليقه في الفترة مابين “1845/1914م ” عن كل ما يصدر عن تاريخ الإسلام من مؤلفات وبعد ذلك ب “25 سنة ” عاد ليكتب المجلد الكبير:” تاريخ الشعوب الإسلامية “،الذي صدر سنة 1939م ،وترجم بعدها لعدّة لغات سامية …وفي عام 1945م وبعد إحالته للتّقاعد من جامعة “برسلاو” وتعيينه محافظا لمكتبة “الجمعية الشرقية الألمانية “بحيث أعاد تنظيمها واستعاد الكثير من مخطوطاتها ،وبعد تعيينه أستاذا شرفيا سنة 1947م ،ألقى العديد من الدّروس والمحاضرات لطلابه في مجال الدراسات الشرقية.
وفي عام 1954م استعان بتلميذه هود “كونردفون رابناو” بعد تدهور حالته الصحيّة وذلك بأن يساعده في إتمام كتابه الأخير في نظم اللّغة العربية وبعد بلوغ “بروكلمان” سن الـ 70، صنف “أوتو أشبيس” 1938م ثَبْتًا لمؤلفاته. هذا وقد ترك بروكلمان ترجمة ذاتية مخطوطة موّجهة لابنه، والتي فرغ منها في 14 سبتمبر 1940م ونشرها “رودلف زلهيم” في مجلة تحت عنوان:”تخطيطات في السيرة الذاتية وذكريات لبروكلمان “…
كما كان لضليع اللّغات السامية والتراث الإسلامي مشاركات عديدة في عدة مجامع علمية داخل أوروبا وخارجها، وتقديرا لجهوده العلمية؛ فقد نال العديد من الجوائز، أبرزها كانت داخل بلده، وذلك بأن منحته الجمهورية الألمانية الديمقراطية سنة 1951م وسام الجائزة الوطنية الألمانية …
وبعد حياة عامرة بالبحث والتأليف والتّصنيف الأكاديمي في مجالات الدّراسات السامية وتاريخ التّراث الإسلامي، توّفي عميد الدّراسات الشّرقية بألمانيا “كارل بروكلمان” في 6/5/1956تاركا وراءه أعمالا ضخمة ، والتي بلغت 555مؤلفا ما بين تأليف وبحوث ومقالات وغيرها …