مبدآن للانطلاق لا بد منهما-د. فاطمة الزهراء دوقيه-
د. فاطمة الزهراء دوقيه
مازالت أمتنا الإسلامية تعيش في عصرها الراهن متطلعةً إلى تغيير واقعها إلى الأحسن، وهو ما لن يتحقق إلا إذا انطلقت من مرجعيتها الإسلامية، أساس بنائها، مشكِّل معادلتها الاجتماعية والثقافية والنفسية، التي تنص على أن تغيير الواقع يتعذر ما لم يحدث ذلك التغيير الأساس الداخلي، تغيير ما بالأنفس، إذ قال سبحانه تعالى:﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم﴾ الرعد:١١، فالآية تضع قانوناً صارماً مفاده أن تغييراً مشروطٌ بتغييرٍ.ذلك هو المنهج الرباني في التغيير الاجتماعي والبعث الحضاري.
وللشروع في تغيير ما بالأنفس هذا، يلزم الإنسان الانطلاق من مبدأين هامين نذكرهما مختصرين كما يلي:
أولاً:العيب فينا والمشكل من عندنا:
قال الشافعي: نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا **** وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ **** وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
إن سوء واقعنا الإسلامي الشديد يدفع إلى التساؤل: أنى هذا الحال من التخلف والانهزام والشقاء والعسر في الحياة، ونحن مسلمون مؤمنون بالله وبدينه، فيفترض أن نكون منتصرين، وممكنين في الأرض، ونحيى الحياة الطيبة، وألا نشقى ونعيش في الضنك، كما وعد سبحانه في قوله:﴿ طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ طه:١-٢، وقوله:﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ البقرة:١٨٥، وقوله:﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة﴾ النحل:٩٧، وقوله:﴿وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ الروم:٤٧.
والقرآن الكريم قد وضع لهذا الاستشكال إجابته الواضحة،في سياق بَيان ماتعجبمنه السلف الصالح في عهد التنزيل عما سبب ما أصابهم من انهزام في غزوة أُحُد، كما يحكي قوله تعالى:﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ﴾ آل عمران:١٦٥، وفي موضع آخر يقول تعالى:﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ الشورى:٣٠، فما يصيب الناس من مصائب إنمايكون نتيجة أفعالهم وكسب أيديهم.
والآيات في هذه المسألة كثيرة في القرآن الكريم، وكلها تؤدي معنى واضحا، وتضع قاعدة أساساً للتفكير والنظر إلى ما يتعرض له الإنسان في هذه الحياة؛ فتفسر له أوضاعه، وهي أن مرد مشكلاته كيفما كانت إلى ما بنفسه، ومن ظلمهلها. وبذلك فإنها توجهه إلى تحصيل السبب الأعظم لتغيير واقعه، ألا وهو تغيير ما بالنفسواستقامتها وإصلاحها،مما يلزم إيقاف حالة التقمص لأدوار المظلوميات،والتحرر من تحكم عقلية المؤمراة، وسطوة الشعور بالطمأنينة إلى ما بالنفس وتزكيتها، لأن ذلك هو ما يوفر عوامل البقاء والاستمرار للواقع الذي يشكو منه، ولا يعي مقدار ما يسهم ما في نفسه في دوامه واستمراره.
إن هذا هو المبدأ الأول الذي ينبغي أن يتصدر حديثنا عن التغيير الإسلامي بكل مستوياته، وهو القناعة والوعي أن “العيب فينا والمشكل من عندنا”،وهو خطوة لها ما بعدها؛ إذتقود إلى وجهه العملي والسلوكي، الذي نعتبره المبدأ الانطلاقي الثاني لا ينفك عن الأول..
ثانياً: نقد الذات
إن المنطلق العملي الذي يرشد إليه المنهج الرباني في تغيير ما بالنفس، توجيه النقد إلى الذات واتهامها، شعوراً بالمسؤولية تجاه ما يجري من أحداث، وإدانة التفكير التبريري. والنقد الذاتي المطلوب هو ذلك النقد البناء المتوازن، لا الجلد ولا التعذيب للنفس، ولا إدخالها في دوامات الاكتئابِ والتوتر والأمراض النفسية، ومعناه “ذلك الأسلوب من التفكير الذي يحمل صاحبه المسؤولية في جميع ما يصيبه من مشكلات ونوازل، أو ما ينتهي إليه من فشل. ونعني بالتفكير التبريري: ذلك التفكيرَ الذي يفترض الكمال بصاحبه، وإذا أخطأ برأه من المسؤولية، وراح يبحث عن مبررات خارجية، وينسب أسباب الأخطاء أو القصور والفشل إلى الآخرين”[1].
بهذا المبدإ يمكن معالجة أعظم الأخطاء التي نقع فيها؛ حين نوجه الاتهام والنقد إلى الآخر، ونزكي ما بأنفسنا، بل ونستبعد إمكان الوقوع في الخطأ من ذواتنا، إذ لا يخفى أن ذلك يعطل الكشف عن الخطإ، وتشخيص الداء الحقيقي، ما يعني استمرار الحال على ما هو عليه.
والقرآن الكريم يصر على جعل هذا المبدإ القاعدة الأساس في تفسير جميع الأخطاء الفردية أو الاجتماعية، وهو ما تدل عليه الآيات السابقة الذكر وغيرها، التي ترد المشكلات إلى ما بالنفس، وظلم الإنسان نفسه.
كما نجده يعرض لنا أنموذجا تطبيقيا لممارسة هذا النقد الذاتي وإدانة التفكير التبريري؛ من خلال قصة آدم وزوجه مع إبليس، يقول تعالى:( ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( 19 ) فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ( 20 ) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ( 21 ) ) فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٍۢ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾الأعراف:١٩-٢٢.
إن اللافت للنظر فيهذا المقطع القصصيالقرآني ذكر دور الشيطان في إغواء آدم وزوجه صراحةً، وكأنه هو المسؤول الأول، إلا أن الحقيقة غير ذلك؛وعبر عنها آدم وزوجه في قوله تعالى:﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الأعراف:٢٣؛ فهما يحملان نفسيهما مسؤولية الخطإ والمعصية، ولم ينسبا ذلك مطلقا إلى إبليس.
والقرآن الكريم يوثق لنا هذا المشهد، وذلك التصريح باللوم للذات واتهامها،بعد تسليط الضوء عليهما،قصد التربية والتوجيه لاتخاذ “النقد الذاتي منهجاً في تقويم الآثار السلبية التي تنتج عن الممارسات الخاطئة”[2].
أما التبرير وتبرئة الذات وتزكية النفس، إنما هو منهج الشيطان وديدنه؛ إذ عهدناه يتهم الآخر، ويتهرب من تحمل مسؤولية إضلاله للعباد؛ فها هو ينسب الإغواء إلى الله تعالى معانداً؛ حيث قال:﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾الأعراف:١٦. وفِي مواضع متعددة نراه يتبرأ مما فعله من الإضلال للناس؛ إذ يقول تعالى:﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ الحشر:١٦، ويقول تعالى عنه كذلك:﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ إبراهيم:٢٢.
والآية الأخيرة تعد أصلاً في التربية والاتعاظ؛إذ الطريف فيها أن الشيطان نطق حقا،وإن كان هروباً وغروراً؛ إذ يقر الله تعالى على لسانه هذا المبدأ،لما قال:﴿فَلا تَلُومُونِي ولُومُوا أنْفُسَكُمْ﴾، وقوله هذا “إبْطاللإفراده باللوم أو لِابْتداء تَوجيه المُلام إليه في حِين أنَّهم أجدر بِاللوم أو بِابتداءتوجيهه”[3]، ذلك لأنهماختاروا فاستجابوالمن لا حكمولا سلطان لهعليهم، كماتم تحذيرهم منه، وتنبيههم أن كيده ضعيف،لما قال تعالى:﴿إِنَّ كَیۡدَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ كَانَ ضَعِیفًا﴾ النساء:٧٦.
وقوله أيضا:﴿ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ ﴾، فيه من التربية والعبرة في نفس الاتجاه؛ إذ هو”بيانٌ لجملة النهي عن لومٍ؛ لأن لومه فيه تعريض بأنهم يتطلبون منه حيلةً لنجاته، فنفى ذلك عن نفسه بعد أن نهاهم عن أن يلوموه”[4].وأجمل البقاعي قول الشيطان:﴿وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي﴾؛ بأن قال:”ولما بين غروره، بين سهولة اغترارهم زيادةً في تنديمهم”[5].
لقدقضت رحمة الله تعالى بعباده أن يخبرهم “استقصاءً في الإبْلاغ ليحيط الناس علما بكل ما سيحل بهم، وإيقاظاً لهم ليتأملوا الحقائق الخفية فتصبح بينةً واضحة”[6]، فيضعهم بذلك أمام مسؤولياتهم وواجباتهم.
وهكذا نخلص إلى أناتهام الذات ولوم النفس هو الأجدر والأسلم، في طريق الإنسان لتغيير ما بنفسه، وإصلاح شأنه، وإن بداصعبا وشاقا عليه.وهو سجية سامية، ينبغي تحلي الإنسان بها فرداً وجماعةًفي مواقف الحياة كلها؛ حيث تجعله يتحمل مسؤولياته، ويوجه نظره نحو ذاته، ويشتغل بإصلاحها، كلما أشاح بنظره، وأشار بأصبع الاتهام نحو الآخر فيماتعرض له من مشكلات ونوازل.
[1]– الكيلاني، (ماجد عرسان)، مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح، كتاب الأمة، العدد (٢٩)، ط١، قطر: المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، ص ٥٧.
[2]– الكيلاني، نفس المرجع، ص ٥٧.
[3]– ابن عاشور، (محمد الطاهر)،التحرير والتنوير،طبعة ١٩٨٩م، تونس: الدار التونسية للنشر،١٣/٢١٩.
[4]– ابن عاشور، نفس المصدر،١٣/٢٢٠.
[5]– البقاعي، (برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر)، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، القاهرة: دار الكتاب الإسلامي،
(١٤٠٤هـ/١٩٨٤)، ١٠/٤٠٧.
[6]– ابن عاشور، مرجع سابق، ١٣/٢١٩.