فلسفة التواصل في التراث العربي الإسلامي – أ.د. بدرالدين زواقة -الجزائر-
فلسفة التواصل في التراث العربي الإسلامي
أ د بدرالدين زواقة
يعد التواصل بين الثقافات من الجوانب الهامة في التراث العربي الإسلامي، حيث شهدت هذه الثقافة تبادلًا حضاريًا مع العالم الغربي عبر العصور، وقد تمثلت هذه العلاقات في المجالات الفكرية والعلمية والفنية والثقافية، وقد أثرت هذه التبادلات على كلا الثقافتين بطرق متعددة. فقد تبادل العرب والمسلمون المعرفة العلمية مع العالم الغربي في العصور الوسطى، كما استوحوا منه تقنيات في الزراعة والعلوم والرياضيات حيث تجسدت هذه العلاقات في مدن مثل الأندلس وصقلية والقسطنطينية والآثار التي خلفتها هذه التبادلات الحضارية تعكس التأثير المتبادل بين الثقافتين، كما يعتبر التواصل فطرة إنسانية يصبح سهلا علينا أن نتعلم أنه وجد في التراث الغربي والتراث العربي القديم كذلك، وقد اهتم به العرب خاصة وأن العرب أصحاب لغة واهتمامهم باللغة جعلهم يهتمون تلقائيا بالتواصل، وكلما كانت اللغة سليمة كان التواصل أرقى، وهذا جعلهم يُنَّظِرون ويُقَعِّدون ويضعون لها أركانا وأهدافا ووصلوا لتحديد التواصل حسب الطبقات الاجتماعية والألفاظ، وذلك ما أورده الجاحظ وهو من أكبر روَّاد التواصُل في التراث العربي.
أولا: نظرية التواصل في التراث العربي.
يُعتبر الجاحظ من أبرز العلماء العرب الذين فصَّلوا القول في نظرية التواصُل، من خلال إثارة مجموعة من القضايا كانت بمثابة أرض خصبة لظهور عدة أبحاث في هذا المجال، ويشير حمادي صمود في كتابه (التفكير البلاغي عند العرب: أسسه وتطوره) إلى أن اللغويين العرب يؤمنون بأن مكونات التواصُل ثلاثة، هي: المتكلم، والمخاطب، والكلام، والرابط بين هذه الأطراف هي الوظائف الثلاثة: الوظيفة الإفهامية، والوظيفة الخطابية، والوظيفة الشعرية.1
انطلاقًا من هذه المقولة نستنتج وجود العناصر التواصُلية على شكل ثلاثة أطراف، وهي: المتكلم أو المرسِل للرسالة التواصُلية، والمخاطَب أو مُتلقي ومستقبِل هذه الرسالة، إضافة إلى الموضوع، وهو الرسالة المنقولة من المرسِل إلى المخاطَب؛ إما لوظيفة إفهامية أو خطابية أو شعرية، وقد أكَّد الجاحظ أن الوظيفة الإفهامية قائمةٌ على الفهم والإفهام كشرط أساسي لكل خطاب لُغوي، وهو ما نلمسه في قوله: «وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة وحسن الاختصار ودقة المدخل، يكون إظهار المعنى، وكلما كانت الدلالة أوضحَ وأفصحَ، وكانت الإشارةُ أبينَ وأنورَ، كان أنفعَ وأنجعَ (…)، والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى (…)؛ لأن مدار الأمر والغايةَ التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع»2
وبذلك حدد الجاحظ أدوات البيان وقسمها إلى خمس وهي:
-
اللفظة.
-
الإشارة.
-
الخطاب.
-
مراعاة المستوى.
-
اختلاف اللغة باختلاف طبقات المجتمع.
وبناءً على هذا التقسيم أسس الكثير من الباحثين نظرياتهم في التواصل، ومن التقسيمات المشهورة نجد التقسيم الخماسي التالي:
-
القائل: وهو يقابل المتصل القائم بالاتصال (المرسِل): وترتكز دورة الكلام على الذات المرسِلة التي تحدِّد نوعية التواصل3.
-
السامع: وهو يقابل المتلقي (المستقبِل).
-
كل شيء كشف لك القناع، وهو يقابل الرسالة.
-
الدليل أو أصناف الدلالات على المعاني من لفظ أو غير لفظ، وهو يقابل الوسيلة.
-
الغاية التي يجري إليها القائل (الفهم والإفهام)، وهي تقابل التأثير4.
رغم أن الكثير من العلماء قديما حاولوا التأسيس لنظريات في التواصل إلا أن الظروف لم تسمح لهم بالوصول بها لبلورتها والوصول بها للظهور كنظرية كاملة كما يحدث اليوم مع الغرب.
لقد أشار كثيرٌ من الباحثين العرب إلى نظرية التواصُل من خلال مجموعة من الإشارات، إلا أنها لم تَرتَقِ إلى مستوى النظرية العلمية، كما نجدها عند كثير من علماء الغرب المعاصرين، بقدر ما كانت إشارات تأتي في سياقات مختلفة، وفي ظل علوم متنوعة، والسبب في ذلك راجعٌ إلى عدم مواكبة هذا النضج الذي كانت عليه الأمة في ذلك الوقت، فالعلماء الأجلَّاء رحمهم الله أحاطوا بكامل العلوم بشكل كليٍّ، ليبقى للباحث دور التفصيل والتدقيق، وهو الأمر الذي لم يكن؛ للظروف السياسية التي شهدها تاريخ الأمة الاسلامية.
ثانيا : لغة الجسد في التراث العربي.
حينما أشار الجاحظ إلى قضية التواصُل كما أسلفنا، ركَّز على الإشارة باعتبارها شريكة اللفظ في إبلاغ الرسالة التواصُلية، ومن ثم فهي جزء مهمٌّ من نظرية التواصُل كما نظر إليها رحمه الله تعالى، والتواصُل في النظريات الحديثة ينقسم إلى شقَّين كبيرين كما بيَّنا في المبحث الأول (هل اللغة أصوات؟)، وضمن الشق الخاص بالتواصُل غير اللفظيِّ يندرج علم لغة الجسد، الذي عرف انتشارًا كبيرًا في السنوات الأخيرة؛ نظرًا لارتباطه بمجموعة من المجالات، منها السياسية والاقتصادية والفكرية وغيرها.
وعلم لغة الجسد لم يكن وليدَ اللسانيات الحديثة؛ وإنما سمي بالفراسة عند العربي، والدارس لتاريخ العرب سوف يقف عند هذه الحقيقة التي مفادها أن العرب قد برعوا فيه منذ أقدم العصور، إلى درجة أنهم يعرفون من أين قدم الشخص فقط من خلال لباسه ووجهه وحركاته، ويعرفون أهو من سكان المدينة أم البادية؟ وقد عرَّف البعض الفراسة بأنها فكرةٌ تقفز إلى الوعي فجأة، فيُنبئ صاحبُها بشيء لم يصل إلى فهم وإدراك غيره، وهي قد تكون فطريةً أو مكتسبةً.5
وذهب البعض إلى أن أرسطو هو أول من كتب فيه، وبرع فيه من بعده العرب والمسلمون، وعلى رأسهم نجد الجاحظ؛ حيث أشار إلى دور الإشارة فيما نتلفَّظ به، وقد سبق أن أشرنا إلى مجهودات هؤلاء الأفذاذ فيما ذكرناه سالفًا في محور التواصُل، يقول الجاحظ: «الإشارة واللفظ شريكان، ونِعْمَ العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ، وما تغني عن الخط»6
كما أشار أيضًا إلى دور بعض الإشارات في إبلاغ الرسالة التواصُلية، وأنها أبلغ من الكلمات؛ حيث يقول: «حُسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان، مع الذي يكون مع الإشارة من الدال والشكل والتفتل والتثني، واستدعاء الشهوة، وغير ذلك من الأمور»7
فالملاحظ أن الجاحظ رغم بعد الزمن الذي وجد فيه إلا أنه أدرك أن الإشارة والحركة لهما أهمية بالغة في التواصل وإيصال الرسائل، وذلك ما ذكره في كتابه التربيع والتدوير وهو كتاب يهجو فيه غريمه فيصفه بأوصاف تجعل القارئ يصل بخياله أن يرسم الشخص بعد جمع الصفات والمواصفات، وهذا ليس الا طريقة تواصل ذكية وغير مباشرة؛ والكتاب يتحدث عن لغة الجسد بوصفه لطريقة الجلوس والعبرة من الإشارة وغير ذلك فقال مثلا في وصف غريمه: «أخمص البطن، معتدل القامة، تام العظم، وكان طويل الظهر، قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر ساقه يدعي أنه طويل الباد، رفيع العماد، عادي القامة، عظيم الهامة، قد أعطي البسيط في الجسم، والسعة في العلم، وكان كبير السن متقادم الميلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد»8.؛ فليس غريبا أن هذا الكلام لو تأمله باحث ذكي لأسس منه لنظرية في التواصل.
ثالثا: التواصل الديني والثقافي والحضاري في العالم الإسلامي.
يعتبر الخطاب الديني جزءًا أساسيًا من التواصل اللفظي في التراث العربي الإسلامي؛ فهو الوسيلة التي يُستخدم من خلالها لنقل الرسالة الدينية والتوجيهات الإلهية إلى المجتمع، وهو نوع من أنواع التواصل ومن جانبه، يشغل القرآن الكريم مكانة خاصة في الحياة الدينية والثقافية للمسلمين؛ حيث يُعتبر كلام الله ومصدرًا للتوجيه والحكمة. وبالتالي، يعتبر فهم وتفسير وتلاوة القرآن أسلوبًا رئيسيًا للتواصل اللفظي في التراث العربي الإسلامي. يهدف هذا التواصل إلى استكشاف دور الخطاب الديني والقرآني في نقل الرسالة الدينية وتأثيره على الفهم والتصور الديني لدى المجتمع الإسلامي.
كما يلاحظ ذلك من خلال الهندسة المعمارية والتصميم الفني يتم استكشاف الأساليب والتقنيات التي استخدمها العرب الإسلاميون في البناء والزخرفة. يتضمن ذلك الاستخدام المبتكر للأقواس والقباب والأقواس الهرمية، وكذلك النقوش الفنية على الجدران والزجاج الملون في المساجد والقصور. يتم التركيز على كيفية استخدام التصميم الهندسي لتعزيز التواصل بين المسلمين وتحقيق التوازن والجمال في الفضاءات الداخلية والخارجية. ويتم أيضاً استكشاف كيف تم تطبيق هذه الأساليب في المباني والمعالم الإسلامية التي ما زالت قائمة حول العالم، مما يبرز أهمية التصميم الفني والهندسة المعمارية كوسيلة تواصل غير لفظية تعبر عن الثقافة والإبداع العربي الإسلامي.
إضافة إلى ذلك؛ تعد الفنون والأدب من أهم وسائل التواصل في التراث العربي الإسلامي، حيث تعكس اللوحات الفنية والأعمال الأدبية تاريخ وثقافة المجتمعات في تلك الحقبة، ويظهر التواصل من خلال القصص والروايات والتشكيل الفني للأشياء والمفاهيم، كما تعتبر الفنون والأدب وسيلة لتبادل الأفكار والتعبير عن المشاعر والقيم، حيث يوجد تنوع كبير في الأساليب والتقنيات المستخدمة في الفنون والأدب المتنوعة في التراث العربي الإسلامي، مما يعكس الغنى والتنوع في التواصل والتعبير الفني.
كما يعد الشعر والخط العربي من أبرز التعبيرات الفنية والأدبية في التراث العربي الإسلامي. يعكس الشعر والخط العربي تقاليد وقيم المجتمعات الإسلامية ويعبر عن مشاعرها وثقافتها، كما يعتبر الشعر وسيلة فعالة لتوثيق الأحداث ونقل المعلومات بطريقة إبداعية وجمالية. أما الخط العربي فيعتبر فناً وتقنية فائقة للتعبير الجمالي والديني، حيث يتميز بتنوع الأساليب والأشكال والتصاميم التي تعبر عن روعة الفن والجمال في التواصل بالكتابة، وفي المقابل نجد أنه في التراث العلمي والفلسفي في العالم العربي الإسلامي، لعبت العلوم الإسلامية والفلسفة دوراً كبيراً في التواصل ونقل المعرفة، وقد تميزت العلوم الإسلامية بتأصيل المفاهيم والمعارف باللغة العربية ونقلها للعالم، كما أسهمت الفلسفة الإسلامية في تطوير الفكر العلمي والفلسفي، وفتحت المجال للحوار والنقاش بين العلماء والفلاسفة في مختلف المجالات، وبذلك تعتبر العلوم الإسلامية والفلسفة جزءاً أساسياً من التراث العلمي والفكري في العالم العربي الإسلامي حيث تشمل العلوم الإسلامية مجموعة من التخصصات مثل الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك وغيرها، التي تطورت ونشأت في تلك الحقبة. أما الفلسفة الإسلامية فقد امتازت بتفكرها العقلاني والنقدي في مجالات متعددة من اللاهوت والميتافيزيقا والفلسفة السياسية والأخلاقية.
وختاما…
تعد العلاقات الاجتماعية في العصور الإسلامية من أهم وسائل التواصل الاجتماعي التي تعكس قيم وتقاليد المجتمعات الإسلامية، كما كانت تلك العلاقات تتمحور حول الأسرة والقبيلة والمسجد، حيث كانت تلك الأماكن مركزًا هامًا لتبادل الأفكار وتقديم المساعدة بين أفراد المجتمع، حيث عرفت وقتئذ تقاليد وبروتوكولات اجتماعية محددة تحكم التواصل بين أفراد المجتمع وتثبت العلاقات الاجتماعية بينهم.
يعتبر فهم هذه العلاقات ودورها ضمن الثقافة والتراث الإسلامي أمرًا بالغ الأهمية لفهم التواصل في مختلف الحقب الزمانية.
1–محمد إسماعيلي العلوي، التواصل الإنساني، دار كنوز المعرفة العلمية، ط 1، 2014، ص 24.
2–أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، البيان والتبيين، دار الكتب العلمية، بيروت–لبنان، ص 42-43.
3–عمر أوكان؛ اللغة والخطاب؛ رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 2011، ص 61.
4–محمد إسماعيلي العلوي، التواصل الإنساني، مصدر سبق ذكره، ص: 25.
5– أحمد بهيج؛ الفراسة: كيف تقرأ الناس عن بُعد؛ مكتبة الهلال للنشر والتوزيع ص: 50.
6–أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ؛ البيان والتبيين، مصدر سبق ذكره، ص:43.
7-(المرجع نفسه)، ص:45.
8–شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي، دار المعارف، ط 10، ص 179.