شهر رمضان وثلاثية مالك بن نبي (الإنسان – التراب – الوقت) أ. عثمان بندو – الجزائر
شهر رمضان وثلاثية مالك بن نبي رحمه الله
الإنسان والتراب والوقت
عثمان بندو
مقدمة :
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدّر فهدى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى، أما بعد :
يقول الله عز وجل : ( إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ) وشهر رمضان المبارك أهم فرصة للتغيير في حياة المسلم، وقد عرف ذوو الألباب ذاك فلزموه، وغابت هذه الفكرة عن كثير من الناس فلم يعبأوا برمضان، ولم يدركوا الغاية الحقيقية منه فأهملوا ليله ونهاره، وضيّعوا أوقاته، وقد ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قوله : ( ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء ) .
وشهر رمضان فكرة دينية تعدّل سلوك المسلم حتى تجعله قابلا لإنجاز رسالة محضّرة كما وصفها مالك بن نبي رحمه الله، فرمضان شهر يحلّ مشاكلنا النفسية والاجتماعية والأخلاقية .
ومن الأهداف التي أراد الشرع بلوغها في رمضان تقوية الروابط الاجتماعية، من خلال نشاط اجتماعي مثمر وفعّال يُرجى به بلوغ الغاية العظمى وهي الجنة .
ونظرات الناس اليوم إلى أنفسهم في دهشة، أولئك الذين عاشوا زمنا من القرن الماضي، تدلّ على تغيّر اجتماعي هائل لكن إلى غير ما يصبو إليه الشرع، فرمضان الذي يصنع الإنسان ويُقدَّس فيه العمل والإنتاج والوقت صار شهرا عاديا، بل ربما متميزا لكن بطريقة سلبية، فقد أحدث الناس فيه من القضايا ما يحيّر الألباب ويدهش العقول .
ورمضان الذي يمحّص القلوب وينمّي الأخلاق الفاضلة يخرج منه معظم الناس وكأنّ شيئا لم يتغيّر فيهم، بل كأنهم كانوا في سجن ثم أُطلقوا فانتشروا، أو في قبر فنُشِروا، وقد كانت المرأة المتبرجة قديما إذا دخل رمضان عدّلت ثيابها احتراما للشهر، وفارق وجهها مساحيق التجميل، فصارت اليوم لا تعبأ بذلك، فرمضان كغيره، وكان مدمن المخدرات إذا دخل رمضان انقطع عنها بالجملة احتراما للشهر، فصارت عنده اليوم كالطعام والشراب والشهوة، يدعها نهارا ويرفث إليها ليلا .
الغريزة الفردية :
اشتهر في الجزائر اجتماع العائلات المتفرقة في رمضان في البيت الواحد، وعلى مائدة واحدة، يحيون علاقاتهم الاجتماعية ويشدّونها، مستغلّين بركة الشهر ورحمته .
ورفْع التحدّي في رمضان ( يستلزم تعاضدا أو ارتباطا تعاونيا معيّنا ) كما وصفه بن نبي، ولهذا اشتهر شهر رمضان بخاصيّتين عن غيره من الشهور، إحداهما للإنسان والأخرى للمجتمع .
قال الزهري رحمه الله عن رمضان : ( إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام ).
وإطعام الطعام اختصار لكل معاني الجود والكرم والبذل والتعاون، ويستمر طيلة الشهر اقتداء بالني صلى الله عليه وسلم، فقد رُوي عنه أنه كان أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة .
ويتجلى التعاون الاجتماعي بوضوح في نهاية الشهر من خلال زكاة الفطر، فقد فرضها النبي صلى الله عليه وسلم على الجميع : الذكر والأنثى والصغير والكبير والحر والعبد من المسلمين، ليشارك الجميع في هذا النشاط الاجتماعي .
وعبارة إطعام الطعام تعني تقديم خدمة لإشباع حاجة، ولم تكن في ذلك العصر خدمات متعددة، لم يكن إلا إطعام الطعام، وقد اشتهر ذلك بين العرب، وساد الناس بإطعامهم للطعام وقد قال الشاعر :
عمرو الذي هشم الثريد لقومه قوم بمكة مسنتين عجاف
فحاجة الناس إلى الطعام كانت أهمّ حاجة، وإشباع الحاجات اليوم مجال واسع ومتنوع، أفضل طريقة لذلك إنفاق المال وترك الحرية للمحتاج لإشباع رغباته وحاجاته .
هذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه الناس في شهر رمضان، غير أن المجتمع غلبت عليه غرائزه الفردية، وما نتج عنها من قطع للأرحام وسوء للجوار وإسراف وتبذير وتثاقل عن فعل الطاعات .
والطعام حاجة، وبذلها متعة، والحرص عليها صفة حيوانية مقيتة، وقد جاء في الحديث : ( طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة ) .
لكن هذا الطعام إذا انتقل إلى كونه رغبة جامحة يندفع الإنسان إلى إشباعها بشتى الوسائل بدل مشاركتها، فإنه كما قال مالك بن نبي : ( فحاجة القوت الأساسية تستدعي الغريزة الفردية، وتستلزم منافسة أو مزاحمة معينة، يتصرّف فيها كل فرد لحسابه الخاص مدفوعا بالقوانين السفلية الموروثة عن النظام الحيواني ) .
وهو ما يفسّر طوابير الحليب والخبز، والموائد التي تفيض، وزوايا رمي النفايات التي تنكمش على نفسها باكية، يقابل ذلك كله بطون تنكمش من الجوع .
فمن علم أن رمضان ليس شهر الطعام لأكله بل لبذله، وأنه شهر الصبر والصيام لا شهر الطعام، ثم لم يفعل ذلك شيئا في ضبط الغريزة فمتى سيتمكن من ضبطها ؟
وإذا بخل الإنسان بكسرة خبز أو حبة تمر هل نعتمد عليه في بناء حضارة وإنقاذ أمة ؟
الإنسان في رمضان :
يختصر بن نبي المؤثرات التي يمكن للفرد أن يؤثر بها على المجتمع في ثلاث : بفكره وبعمله وبماله .
ولا يمكن للفرد أن يكون مؤثرا في رمضان إذا لم يحاول تصفية عاداته وحياته مما كان يشوبها قبل رمضان .
وأهم ما يجب على الإنسان أن يعالجه في رمضان انحداره الأخلاقي، خاصة في زمن المؤثرات التكنولوجية، غير أن اشتغال الناس بمسلسلات وبرامج متدنّية ولو على سبيل المزاح لا يزيد الداء إلا استفحالا، وفرق بين المتديّنة والمتدنّية .
ويتأفف المسلم من موعظة أخلاقية قصيرة، ويطيل الاستمتاع ببرامج لا فائدة منها، ثم يضيّع الوقت مرة أخرى في نقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي لاجدوى منها .
وعوض أن يجعل المسلم شهر رمضان ساحة تدبرية فكرية، ينتقل فيها من قراءة القرآن وتفسيره إلى روضة الأذكار، ومنها إلى متابعة البرامج الهادفة، وهو في هذا كله مرتبط بما يحدث للمسلمين في فلسطين والسودان وغيرها، إلا أنه صار تحت تأثير أفكار لا رمضانية، بل ولا دينية، توجّهه برامج لا أخلاقية، وأفكار تافهة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه الأوقات لو عمّرها الإنسان بأعمال صالحة لكان خيرا له .
إن منظر المسلم وهو يسهر ليل رمضان وينام نهاره، أو منظره وهو يطيل الاتكاء والجلوس والعبث، ليَبعث على الحزن، وفي هذا المعنى يتسائل مالك بن نبي : ( فالمسلم يتصرف مثلا في أربع وعشرين ساعة كل يوم، فكيف بتصرّف فيها ؟ وقد يكون له نصيب من العلم أو حظ من المال فكيف ينفق ماله ويستغل علمه ؟ ) .
وأعداؤنا يراقبوننا في شهر رمضان، هذا النموذج الذي من خلاله يستطيعون تقييم الأمة الإسلامية، هل هي أمة إيمان وعمل، أم تكاسل وخمول ؟
ذلك الذي وصفه مالك بن نبي بالجانب الكبير من ( اللافاعلية ) في حياتنا اليومية، إذ يذهب جزء كبير منها في العبث والمحاولات الهازلة .
وقد يلتزم الإنسان بعمله أو دوامه مُجبرا، لكن من يُلزمه باستغلال شهر رمضان في الأعمال الصالحة إذا لم يكن يملك وازعا دينيا ؟
ومن قرأ هدْي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهدي الصحابة والتابعين من بعده سيدرك الفجوة بين مجتمعنا ومجتمعاتهم، فرمضان كان عندهم شهر العمل والبذل والتضحية والجهاد رغم قساوة العيش وظروف الحياة الصعبة .
والمطّلع على حالهم في التأثير بأموالهم يزيد عمق هذه الفجوة، في زمن غلب عليه الشح والبخل .
لم يدرك كثير من الناس أن المال مال الله، وأن الغنى ابتلاء وليس اصطفاء، وأن للسائل والمحروم حقا في مال الغني، وأن الزكاة والصدقات والأوقاف هي التي كانت تؤثر إيجابا على الحياة الاجتماعية والعلمية، ولهذا كان أول قانون أصدرته السلطات الاستدمارية الفرنسية في الجزائر مصادرة الأملاك الوقفية وإلحاقها بالأملاك العامة تمهيدا لطمسها بعد ذلك وتجفيف منابع المؤسسات العلمية والخيرية .
فإذا لم يكن رمضان سببا في صناعة المسلم المُنفق فمتى سيُصنع ؟
والدعوة الإسلامية إنما سارت بمال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأموال خديجة وأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وبن عوف وسعد بن عبادة وغيرهم رضي الله عنهم جميعا .
فهل من باذلٍ لدعم مؤسسة خيرية أو جمعية دينية أو مسابقة قرآنية أو فكرة اجتماعية ؟ فيعيش مع هذا البذل شعور الآية الكريمة : (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) .
فيضاعف له حسناته، ويضاعف له ماله أيضا من حيث لا يحتسب ببركة الله وعنايته .
عنصر التراب :
ننطلق هنا من قول مالك بن نبي : ( ونقطة الانطلاق في كل إصلاح اجتماعي هي أولا توفير القوت والملبس، ثم نطرح القضية على بساط التخطيط ) .
وإنه لمن المؤسف أن يكون المأكل والملبس غاية الفرد المسلم، فلو تمّ تأمين غذائه ولباسه ليحصل عليهما بسهولة ثم توجيهه إلى التفكير السليم في خدمة دينه ووطنه لكان أفضل .
وككل عام في رمضان وفي غيره تنشأ مشكلات الاكتفاء الغذائي، ويكون الحل في استيراد اللحوم والمواد الغذائية، كأن هذا التراب لا يمكن أن يصنع اكتفاء ذاتيا من الغذاء.
إني أدرك حقيقة سايكس بيكو، فهي ليست مجرد تقسيم لقطع أرضية والهيمنة عليها، وليست مجرد رسم لحدود وهمية، بل هي تقسيم للعمل أيضا، فكلّ بلد يختصّ في إنتاج شيء معين بحسب حاجة الدول الكبرى إليه، ويُنتج خاما، والدول الكبرى هي التي تشتقّ منه ما ينتج عن ذلك من مواد، والبلد الذي لا يُحتاج إليه حاليا يبقى يعاني الفقر وهو نائم على ثروات، ودول كثيرة ممنوعة من استغلال ثرواتها بالمكر أو بالقوة حتى لا تنافس إنتاج دول أخرى استأثرت بذلك لنفسها .
لكن وإن رضينا بقسمتهم على هذا الأساس، فينبغي لنا أن لا نرضى بها إذا تعلّق الأمر بأمننا الغذائي، بل نفرض ذلك فرضا، فإن مُنعنا عن التصدير للشمال وجدنا في الجنوب سوقا مفتوحة .
وهناك مشكلة أخرى تحيّرني، وهي كيف يصبح الاقتصاد الرسمي موازيا والموازي رسميا ؟ فاللحم في السوق الرسمي ثمنه 2500 دينارا، فتفتح الحكومة أسواقا موازية لبيع اللحم بسعر 1200 دينارا .
واستغلال حاجة الصائم إلى غذاء يعوّضه عن صيامه وتعبه خاصة الذي يعملون أعمالا شاقة هو أمر خطير في الشريعة، ورفع الأسعار في المناسبات واحتكار السلع مما يمحق البركات ويرفع الخيرات نسأل الله العافية .
وإنه لمن العجيب التهامُ الإسمنت لأخصب أراضينا القريبة من البحر للتصدير، والاعتماد على الصحراء في إنتاج الغذاء .
وإنه ينبغي النظر جيدا إلى حجم ما نملك من ثروات والتخطيط الجيد لكيفية استغلالها حاضرا ومستقبلا .
عنصر الوقت :
يقول مالك بن نبي : ( إن من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لِخُطا الوقت الهارب ) .
ويمكنك أن تجلس على تلة مرتفعة وتشاهد ثرثرة القوم في مسألة زكاة الفطر بينما يُباد المسلمون وتُنتهك مقدساتهم .
وشهر رمضان لو فهمنا الغاية منه لكنّا أعلم الناس بقيمة الوقت وأهميته، قال تعالى : ( يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ) فوصفها بأنها أيام معدودات، وحثّ النبي صلى الله عليه وسلم على استغلال أوقات الشهر جميعا، ليله ونهاره فلعل المسلم إذا فاته شيء في النهار أدركه في الليل، وإذا فاته شيء من أول الشهر أدركه في آخره، قال صلى الله عليه وسلم : ( مَن صامَ رمضانَ وقامَهُ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ ، ومَن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ ) .
وليلة القدر فضلها عظيم، ومن فضائلها أنها تعدل أفضل من ألف شهر، ولهذا نزلت سورة باسمها تُتلى إلى يوم القيامة، وقد قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : ( فيهِ ليلةٌ خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ ، مَنْ حُرِمَ خيرَها فقدْ حرِمَ ) .
فأي إنسان يسمع هذا ثم يفرّط في ساعات رمضان وأيامه ؟
ورمضان شهر التغيير، ونحن أمة تواجه الأخطار والتحديات، أليس لابد من الاستماع إلى قول بن نبي : ( إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباء ) .
ومع هذا فإن أفضل أوقات البيع والشراء واللهو عند المسلمين هي في العشر الأواخر وفي لياليها خاصة، ولو انتظر الناس حتى يُصلوا العشاء والتراويح – على الأقل – لينالوا أجر قيام ليلة ثم يباشروا قضاء حوائجهم أو سعيهم في طلب الرزق بعد ذلك لكان أفضل .
ومن الظواهر التي انتشرت في فصل الصيف – وعسى أن تنقطع في فصل الشتاء – السهر ليلا بعد الإفطار واللهو واللعب والمشي في الأسواق والمحلات، وكأن القوم لا يُبالون بقيمة هذه الأوقات .
ففي ليلة القدر ينزل جبريل عليه السلام والملائكة إلى الأرض، وتُفتح أبواب الرحمة والعفو والمغفرة، وبعض الناس في لهوهم وعبثهم غافلون نسأل الله لنا ولهم الهداية .
ومما ذكره مالك بن نبي عن أهمية الوقت في حياة المسلم تعليم الطفل والمرأة والرجل تخصيص نصف ساعة يوميا لأداء واجب معين، بشكل منتظم وفعال لمصلحة الأمة الإسلامية، وهو ما يسمى اليوم بالتطوع أو الخدمة المجتمعية، هذا أفضل لدين المرء ودنياه من الجلوس في المقاهي وعلى الطرقات لساعات طويلة، ولكن هذه الثقافة التطوعية غائبة عن كثير من الناس، والفئة القليلة التي تسعى وتضحّي لا يمكنها أن تصنع التغيير لوحدها، بل لابد من مشاركة الجميع .
خاتمة :
كم تضيّع الأمة الإسلامية بابتعادها عن تقويمها ومواقيتها، إنها لا تتذكر التاريخ الهجري إلا في رمضان والعيدين، ولا تربط يومها بالصلوات الخمس المفروض التي كانت عليها كتابا موقوتا .
ولا تستغل المجتمعات الإسلامية فرصة شهر رمضان لإحداث تغيير حقيقي وجذري وفعال، وبعض الناس يُحدثون قضايا سلبية ويبتدعون عادات سلبية جديدة، والله المستعان .