نظرية الجوائح: مفهومها وأدلة مشروعيتها
نظرية الجوائح: مفهومها وأدلة مشروعيتها
يوسف العلمي
أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي
باحث بسلك الدكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة -المغرب-
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد حاولت من خلال هذه الأسطر الحديث باختصار عن مفهوم نظرية الجوائح مع ذكر أدلة مشروعيتها من القرآن والسنة وغيرهما، وذلك في الآتي:
-مفهوم النظرية لغة واصطلاحا:
النظرية في اللغة من فعل “نظر” وهو التأمل والمعاينة والتفكر والتدبر؛
يقول ابن فارس: “النون والظاء والراء أصل صحيح يرجع فروعه إلى معنى واحد وهو تأمل الشيء ومعاينته، ثم يستعار ويتسع فيه. فيقال: نظرت إلى الشيء أنظر إليه، إذا عاينته…” (1)
ويقول ابن منظور: “…وإذا قلت نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكرا فيه وتدبرا بالقلب” (2)
والنظرية: قضية تثبت صحتها بحجة ودليل أو برهان. (3)
وهو ما ورد في المعجم الوسيط: “النظرية قضية تثبت ببرهان” (4)
أما في الاصطلاح فعرفت بتعاريف أذكر منها:
- الإطار التصوري الملائم لتفسير الظواهر والمواضيع، لتصبح مفهومة من خلال هذا الإطار والتوجيه النظري” (5)
- مجموعة من المصطلحات والتعريفات والافتراضات لها علاقة ببعضها البعض والتي تقترح رؤية منظمة للظاهرة وذلك بهدف عرضها والتنبؤ بمظاهرها، أي أنها تضع تفسيرا علميا لموضوع معين، مما يكسبه معنى واضح في الذهن. (6)
وعرفها موريس أنجرس بأنها مجموعة من المفاهيم والتعريفات والاقتراحات التي تعطينا نظرة منظمة لظاهرة ما عن طريق تحيددها للعلاقات المختلفة بين المتغيرات الخاصة بالظاهرة، وذلك بهدف تفسير تلك الظاهرة أو التنبؤ بها مستقبلا. (7)
فالنظرية يمكن القول أنها عبارة عن تصور كامل ودراسة شاملة لموضوع معين تخيط بين روابطه وتجمع بينها لإعطاء نظرة وفكرة عامة يمكن من خلالها تفسير الموضوع أو الظاهرة تفسيرا صحيحا سليما.
- مفهوم الجائحة لغة واصطلاحا:
الجائحة في اللغة بمعنى الجوح: والجوح الاستئصال، من الاجتياح. جاحتهم السنة جوحا وجياحة وأجاحتهم واجتاحتهم: استأصلت أموالهم… واجتاح العدو ماله: أتى عليه. والجوحة والجائحة: الشدة والنازلة العظيمة التي تجتاح المال من سنة أو فتنة. وكل ما استأصله: فقد جاحه واجتاحه. وجاح الله ماله وأجاحه، بمعنى، أي أهلكه بالجائحة. (8)
وجاء في المصباح المنير: “الجائحة الآفة يقال جاحت الآفة المال تجوحه جوحا من باب قال إذا أهلكته” (9)
وفي الاصطلاح لها تعاريف:
- عرفها الشافعي في الأم بقوله: “كل ما أذهب الثمرة أو بعضها بغير جناية آدمي”. (10)
- وقال الباجي: الجائحة اسم لكل ما يجيح الإنسان وينقصه إلا أن هذا له عرف في الشرع واللغة فإذا أطلق فهم منه فساد الثمرة. (11)
- وفي البهجة: الجائحة تكون في الثمار وما ألحق بها. وكل ما لا يستطاع الدفع له جائحة مثل الرياح المرسله (وكل ما) أي شيء (لا يستطاع الدفع له) والاحتراز منه إذا أصاب الثمر فأتلف ثلثها فأكثر فهو (جائحة) لها وذلك (مثل الرياح المرسله) تسقط الثمرة بها والثلج والبرد والمطر الغالب والعفن والجراد والدود والطير والفأر والنار وغاصب وسارق. والجيش معدود مع الجوائح كفتنة وكالعدو الكاشح (والجيش) يمر بالنخل ليأخذ ثمرته (معدود من الجوائح) لأنه لا يستطاع دفعه (كفتنة) تقع في البلد فينجلي عنه أهله أو يقل وارده بسببها فلا يجد مشتري الثمرة من يبيعها له…” (12)
وعرفتها منطمة الصحة العالمية: بكونها مرض يشكل أحداثا يتعذر التنبؤ بها ولكنها متكررة، ويمكن أن تؤثر تأثيرا بالغا على الصحة والمجتمعات الاقتصادية في جميع أنحاء العالم. (13)
يمكن القول أن مفهوم الجائحة حدث شامل يصيب العموم أثناء تنفيذ العقد مما يترتب عليه خسارة إذا استمر في الالتزام به وببنوده.
ومن تم فنظرية الجوائح تصور كامل ودراسة شاملة للحدث الشامل الذي قد يصيب العموم أثناء تنفيذ العقد والذي يترتب عليه خسارة وضرر، كل ذلك من أجلإعطاء نظرة وفكرة عامة يمكن من خلالها تفسير الحدث تفسيرا مناسبا.
- أدلة مشروعية اعتبار الجائحة:
يستدل على مشروعية اعتبار الجائحة بأدلة مختلفة نذكر منها:
- القرآن الكريم:
قوله تعالى: {ولا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتاكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} (14)
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}(15)
فما أتت عليه الجائحة من الزروع والثمار مثلا ينبغي أن يحط ويخفض من الثمن بقدر التالف حتى يتم إعادة التوازنبين ما يعطى كل من المتعاقدين وما يؤخذ وإلا اختل هذا التوازن فأخذ
أحدهما أضعاف ما أعطى، أو العكس، وهو ضرب من أكل أموال الناس بالباطل ودون مقابل، ذلك لأن ما استفيد نتيجة للظروف لا يقوم على سبب ثابت في نظر الشرع وهذا هو الباطل الذي لا يقوم على سبب شرعی معتبر، و كذلك إذا حال العذر الطارئ دون تمكن أحد طرفي العقد من استيفاء المنفعة مع كونهما قائمة.(16)
- السنة النبوية:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”
وفي هذا الحديث دلالة واضحة على منع إلحاق الأذى بالغير وأخذ مالا يستحقه.
- القواعد الفقهية:
توجد مجموعة من القواعد الفقهية التي ربطها العلماء بالجوائح في الفقه الإسلامي، من ذلك: قاعدة درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وذلك بدفع الضرر الناتج عن هذه الجائحة في حالة تعارضه مع المنفعة في ذلك. وكذلك قاعدة الضرر يزال فكل ضرر ناتئج عن الجائحة ينبغي أن يزال.
- مقاصد الشريعة الإسلامية:
وذلك من خلال النظر في مآلات أفعال الجائحة، وذلك بدفع الضرر أينما وجد. فمما دعت إليه مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ مصالح المكلفين بدفع الأذى والضرر عنهم في المعاملات وغيرها.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين
الهوامش:
(1) معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفى: 395هـ)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399هـ – 1979م، ج5 ص 444.
(2) لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (المتوفى: 711هـ)، دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1414 هـ، ج5 ص 217.
(3) معجم اللغة العربية المعاصرة، د أحمد مختار عبد الحميد عمر (المتوفى: 1424هـ) بمساعدة فريق عمل، عالم الكتب، الطبعة: الأولى، 1429 هـ – 2008 م، ج3 ص 2233.
(4) المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (إبراهيم مصطفى / أحمد الزيات / حامد عبد القادر / محمد النجار)، دار الدعوة، ج2 ص 292.
(5) نقلا عن النظرية العلمية وعلاقتها بالبحث العلمي، البحث الاجتماعي نموذجا، د. وشنان حكيمة، جامعة سكيكدة. مجلة آفاق للعلوم، العدد السابع، 2017، ص 266.
(6) نفس المرجع.
(7) منهجية البحث العلمي في العلوم الإنسانية، موريس أنجرس، ترجمة بوزيد صحراوي وآخرون، دار القصبة للنشر، الجزائر، 2006 ص 54.
(8) لسان العرب، مرجع سابق، ج2 ص 431 بتصرف.
(9) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس (المتوفى: نحو 770هـ)، المكتبة العلمية – بيروت، ج1 ص 113.
(10) الأم، الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204هـ)، دار المعرفة – بيروت، بدون طبعة، 1410هـ/1990م، ج3 ص 58.
(11) المنتقى شرح الموطإ، أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي (المتوفى: 474هـ)، مطبعة السعادة – بجوار محافظة مصر، الطبعة: الأولى، 1332 هـ، ج4 ص 332.
(12) البهجة في شرح التحفة ((شرح تحفة الحكام))، علي بن عبد السلام بن علي، أبو الحسن التُّسُولي (المتوفى: 1258هـ)، المحقق:ضبطه وصححه: محمد عبد القادر شاهين، دار الكتب العلمية – لبنان / بيروت، الطبعة: الأولى، 1418هـ – 1998م، ج2 ص 53.
(13) قائمة مرجعية لمخاطر الأنفلوانزا الجائحة وإدارة أثرها، بناء القدرة للاستجابة للجوائح، منظمة الصحة العالمية، 2018، ص 02 بتصرف.
(14) سورة البقرة الآية 188
(15) سورة النساء الآية 29
(16) النظريات الفقهية، فتحي الدريني، الطبعة الثانية 1997هـ، منشورات جامعة دمشق، ص 158.