من الأندلس إلى بغداد سيرا على الأقدام-زهيرة بودهان-الجزائر-
بحثتُ في برنامج الخرائط في شبكة الإنترنت عن المسافة بين إسبانيا والعراق، كانت النتيجة أن المسافة تزيد عن 5140 كيلومتر، فتساءلتُ، كم ستكون مدة المسير فيما لو أراد الإنسان قطعها ماشيًا بلا انقطاع، فكان تقدير برنامج الخرائط هو قرابة ست وثلاثين يومًا، يمرّ المرء فيها على عدد من البلدان.
تساءلت في نفسي والموقع يعرض لي المرور عبر القارة الأوروبيّة -وقد تماثلت لذهني صورة العلماء الرحّالة في طلب الحديث- تُرى هل مر بَقِيّ بنُ مَخْلَدٍ الأندلسيّ بنفس المسار الذي أظهره البرنامج أم اختار بلدان شمال إفريقيا حتى يصل إلى غايته؟
يا لها من غاية جليلة تلك التي دفعَته ليواجه مخاطر السفر كل هذه المسافة ويتحمل المشقة والتعب يَحُثُّ الخُطى مواصِلًا السير مُصِرّا على الوصول إلى العراق مهما لاقى في رحلته ما لاقى!
ما قصة ذلك الأندلُسي العصامي، وما الكنز الذي سافر إلى العراق بهدف الوصول إليه، ومن أين أتى بذلك العزم، وتلك الشجاعة، وذلك الصبر؟ ولماذا لم يُؤْثِر الراحة بركوب راحِلة تُبلغه مرامَه كالحصان أو الجمل؟ كان ذلك سيفي بالغرض بكل تأكيد لقطع هذه المسافات الشاسعة؟
الرحلة إلى لقاء العلماء
عشرات الأسئلة الأخرى جاءت لذهني، إلا أن أكثرها إلحاحًا كان لماذا المشي بالذات، بمَ كان يحدث نفسه كلما قطع خطوة؟ وكيف كانت السعادة تغمره كلما اقترب من مراده الذي تهون المتاعب في سبيله؟
تلك التضحيات النبيلة والصبر العظيم كان في سبيل لقاء العلماء، فتمشي لأجل ذلك الأقدام آلاف الخطوات ولا تبالي، للقاء الإمام أحمد بن حنبل سافر بَقِيّ بنُ مَخْلَدٍ الأندلسيّ من الأندلس إلى العراق ماشيًا على قدميه لهدف واحد، ألا وهو “طلب العلم”.
فرق شاسع بين حالٍ مضى كان يرحَل فيه آلاف الأميال للسماع على عالم جليل، وبين واقع اليوم في عام ألفين وواحد وعشرين، حيث يتوفّر مسند الإمام أحمد بنقرة واحدة على لوحة المفاتيح وفي أقل من ومضة!
يحدّثنا بقيٌّ عن نفسه ومعاناته في أسفاره، فليس له عيش إلا “ورق الكرنب الذي يرمى”، إلا أنه بالرغم من ذلك كله يقول: “سمعتُ مِن كُل مَن سمعت منه في البلدان ماشيًا إليهم على قدمي”، وقد صدَق -رحمه الله- فقد قيل عنه: إنه “لَمْ يُرَ راكِبا دابةً قَط”. (1)
لقد قطع بَقِيُّ بنُ مَخْلَدٍ تلك المسافات كلها ليسمع من إمام السُّنَّة حديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وحُقّ له ذاك! فما أدراك من هو أحمد، وهل أتاك حديث المحنة والفتنة التي وقف فيها شامخًا صابرًا راسخًا؟
هل أتاك صوت السوط حين يهوي على ذلك العالِم الجليل جَلدًا وظلمًا وتعذيبًا إلا أنه آثر تذوّق العذاب على أن يريح نفسه من ألمه وإن كان المقابل كلمة عابرة تعبّر عن غير ما يقتنع به.
الهمم الجليلة
لعلكم سمعتم أو قرأتم عن كثيرٍ من الأئمة الأجلاء من سلف الأمة، كسفيان الثوري، ويحيى بن معين، وشعبة بن الحجاج، ووكيع بن الجراح.
لا شك أنك –أيها القارئ- سمعت شيئًا عن الإمام البخاري وصحيحه، لكن أَوَقفتَ يومًا على تفاصيل حياته ومحنته وصبره وتعبّده وزهده؟
يعرفُ طلبة العلم كتاب “سِيَر أعلام النبلاء” الذي يترجِم ويشرح ويسردُ الكثير عن شخصيات من العلماء والمحدثين والرواة في تاريخ المسلمين، لقد كان الهدف الأسمى لهذا العلم –أي التراجم- أن نميّز بين “النبلاء” الذين حفظ الله بهم هذه السُّنَّة المُشَرّفة، فتركوا الراحة وهاجروا من بلادهم ورحلوا في شتى أنحاء الأرض للوصول إلى الغاية الكبيرة في الاطمئنان عندما يقال: هذا “حديث صحيح”.
بالتأكيد فإنك قد رأيت هذه الكلمات مكتوبة ذات مرة تحت حديث ما، سواء في تويتر أو فيسبوك أو أي مكان آخر.. لقد كان ثمن هذه الكلمة الكثير الكثير، كالرحلة الجليلة لبَقِيّ بنُ مَخْلَدٍ من الأندلس إلى بغداد..
همّة منذ الصغر
قد لا يكون الحضور الشبابي في أروقة التراث أمرًا عجبًا، فمع بدايات سنّ العاشرة –تقريبًا- بزغت أنجم علماء كثيرة، كالإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ومحمد بن إدريس الشافعي، والإمام سعد الدين التفتازاني وغيرهم الكثير من مفكري الإسلام وعلمائه، مما يفسّر عظمة العطاءات العلمية والمشروعات الفكرية التي قدمها الكثير من العلماء الأوائل؛ فقد كانت أعمارهم كلها تقريبا -إلا بضع سنين للنشأة الأولى- مبذولة للمحبرة والدواة.
جاء في “ترتيب المدارك” للقاضي عياض أن الإمام مالك جلس لتعليم الناس والفتيا وهو ابن سبع عشرة سنة، وعُرفت له الإمامة منذ ذاك (2).
لا يضرّهم من خذلهم
لقد بلغ من همم العلماء أنهم إذا أرادوا أن يحكموا على حديث ما بالصحة أو الضعف أن يتحروا ويبحثوا عن رواة هذا الحديث ويسافرون من بلد إلى بلد للسؤال عن حقيقتهم مهما كلفهم ذلك من مشقة وعناء! ثم يأتيكَ اليوم من يطعن في صحيح البخاري!
أنت يا من يرمي هذا الجبل بسيّئ الكلمات، سل عنه دواوين الخلود، فإن “كل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيًا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدّتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، هم حفظة الدين وخَزَنته، وأوعية العلم وحملته، [..] لا يَضرُّهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم، والمحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وإن الله على نصرهم لقدير” (3) ثم بعد كل هذا أتُراهُ أمرًا سهلًا أن أكتب عن علماء الحديث!
إن اللغة لترتبك في مخابئها حين أتحدث عن هذه الهمم، تحذرني من إخراجها بأسلوب ضعيف، بل إن القلم ليتقدّم خطوة ثم يتراجع عشرًا خوفًا من التقصير في الوصف، وهيبة من استخدام اللغة بمستوى لا يليق بتلك النفوس العظيمة، واستحياء من التقصير في حمل الأمانة، إنه حياء التلميذة من إهمالها علوم شيوخها وآبائها.
الإحالات
سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي، ج13، ص: 291.
ترتيب المدارك، القاضي عياض، ج1، ص58.
شرف أصحاب الحديث، الخطيب البغددي، ص: 28.
زهيرة بودهان