منطق الطير-زهرة هراوة
منطق الطير
زهرة هراوة
ومن تكن العلياء همة نفسه *** فكل الذي يلقاه فيها محبَّبُ[1]
قلت للصقر وهو في الجو عـــال***اهبط الأرض فالهـــــــــواء جديب
قال لي الصقر: في جناحي وعزمي *** وعنان السماء مرعى خصيب[2]
«يابنيَّ كن ذا همة عالية:
فالسماء خُلِقت لنرقى لها، ونسمو إليها، فما سُمِّيت سماءً إلا لأنها تسمو بكل من يعقد العزم لأن يسعى إلى وصالها وأنعم به من وصال!
كن شغوفًا بها لا يثنيك عنها خاذل ولا يثبطك مثبِّط.
ولتكن شجاعَ القلب سديدَ الرأي شهما جسورا؛ لا تخف ولا تتراجع عن رأيك إذا اعتقدت بصحته، وابتعد عن سفاسف الأمور وكل ما يجذبك إليها، واهجر بغاث الطير هجرًا جميلًا، وإياك والرعاديد ممن يرهبون ساحات السمو ويدسون أنوفهم في الرغام، فاحفظ نفسك عنهم وعن كل ما ينتقص منها.
وعش عزيزًا، جريئًا قويًا، ودع لين الجسد والراحة للخاملين، فرياض الدنيا وسهولها لم تُخْلَق لنا، وإنما خُلِقنا لعنان السماء وقنن الجبال، فاسمُ بجناحيك للعلا ولا تخش الخطوب، واسْعَ في طلب رزقك، ولا تكن عالة على أحد، وكن للمستضعفين حليفًا ونصيرًا.
وتأكد أنك لن تنال المجد وقد ألفت الراحة والدعة، ولن تسمو روحك وأنت منغمس في النعيم والترف.»
على هذا كانت وصية أبيه دائما؛فحَبَّب إليه السماء والعيش فيها وبَغَّض إليه ما دون ذلك.
ما إن كبر “شاهين”وصار قادرا على الطيران،حتى استعد لمغادرة العش الذي نشأ فيه، فرفرف بجناحيه، وقاوم ضغط الهواء، وشق بمنقاره القوي ذرات الهواء المتراصة، فانصاعت لذلك الطير المثابر وأخلت له المكان ليعلو ويعلو، ولما وصل إلى الارتفاع المنشود بسط جناحيه على امتدادهما، وصار يحلق عاليا فوجد كل المتعة في الارتقاء؛ رأى في تلك الأجواء أجواءً مقدسة لا يصل إليها إلا كل من صفت نفسه وتألقت، وحملت بين طياتها قلبًا طاهرًا من كل دنس، نقيًا من كل شائبة.
ولأنه قد ينزل الأرض مضطرًا، فيجد في نزوله تزودا لرحلته السماوية، فلا يملأ بطنه إلا ما يقتات منه، ويعلم أن من أسرار سرعة طيرانه وعلوه: خفة بطنه، ومن خفة بطنه قناعتها باليسير المفيد. وإن أراد الراحة اتخذ من أعالي الأشجار مقرا له يرتاح بعض الوقت ليواصل مشواره وهذا دأبه دأب كل شخص تسمو نفسه للمعالي فنفسه لا ترضى إلا كل ما يضاهيها رفعة وعلوَّ همة.
ومع ذلك لم يكن بمنأى عما يحدث في الأسفل فقد نذر نفسه لخدمة أهله والرقي بهم؛ كان له بصر حاد يرى من علوه كل ما يحدث، وما إن يرى ما يستدعي تدخله يهرع إليه مصلحا مرشدا.
ولأن من يختبر تلك الحياة السامية وروعتها لا يحب الاستئثار بها لمفرده، بل يود مشاركتها مع غيره، فيدعو من حوله؛ يحبب إليهم المعالي، يشحذ فيهم الهمم ؛ لكنه كان يجد نفورا وصدودا كلما دعاهم.
رضوا بالدون، وركنوا إلى الأرض وأخلدوا إليها ، واستثقلت أنفسهم الطيران، فقد تمكنت الشهوات منهم، وترسخت أقدامهم في الأرض، وضربت فيها جذورا وتعمقت.
فكلما دعاهم انصرفوا عنه هازئين ساخرين من رؤيته الغريبة التي تزعم أن السماء أرفع شأنا.
تلك الطيور خسيسة الهمة؛ ليس لها من هَمٍّ إلا ما يبتغيه جسدها من طعام، ضاق طموحها فضاق أفقها وغاياتها، فلا تبالي إن خرب الكون أو عمر مادام تتحصل على قوتها، فقد صار تعبيدا لشهواتها عوض أن تتحرر من تلك القيود المكبلة، وتنطلق إلى المعالي.
بعد محاولات عدة باءت كلها بالفشل لاحت له فكرة أن يبدأ مع الصغار، فهم لا يزالون صفحات بيضاء يمكن أن يملأها بما يشاء.
فانتحى جانبا بالصغار، وصار يبين لهم متعة العلو والرقي إلى أعلى، يوجههم لاتخاذ الأسباب من التحليق عاليا يذكرهم بقدسية تلك الأجواء ومنبها إياهم بضرورة التحلي بصفات الطهارة والرفعة والسمو، معزِّزا فيهم الهمم العالية.
بقي على هذه الحال أياما ألحقت بها شهورا، وهو في غفلة عن أهاليهم حتى بدأ بعض الصغار بالطيران.
رفرفت الأجنحة فرفرف القلب معها، وحلق الصغار فاهتز فؤاده طربا.
لم تدم فرحته طويلا؛ فقد انتبه الكبار لما يحدث، وهجموا عليه على حين غرة، فقاومهم بكل ما أُوتِيَ من قوة، لكنهم تغلبوا عليه، ولم ينصرفوا عنه إلا وقد كان غارقا في دمائه، والتفت إليه أحدهم ـ والغضب باديا عليه ـ قائلا: ما لك وصغارنا؟!
ارحل عنا، ولئن رآك أحدنا، أو سمعك قد اقتربت منا أو من الصغار؛ فلا تلومَنَّ إلا نفسك!
تحامل على نفسه بجناحيه المهيضتين؛ حلّق، ولم يرتفع مثل سابق عهده، فقد كان يعلو وينخفض، إلى أن رآه أحد الصيادين كان على مرمى بصره فأطلق عليه وابل من الرصاص ليهوي على إثرها، ويا ليته سقط أرضا لكانت حياته قد انتهت، وأسدل معها ستار مآسيه؛ بل سقط في عرض البحر لتتقاذفه أمواجه بينها، ويحلو لها التلاعب به، ولا تتركه يستريح ولا يستكين.
كان يقاوم بكل قواه التي بدأت ـ مع الوقت ـ تخور شيئا فشيئا، وقبل أن يسلم الروح لبارئها مرت سفينة بالقرب منه فلمحه عامل بها ـ كانت مناوبته في تلك الأثناء ـ فالتقطه، واهتم به: عالجه، وضمد جراحه، وجبر كسوره.
وما إن رست السفينة حتى تعافى قليلا واسترد بعضا من صحته، لكنه لا يزال عاجزا عن الطيران، فأخذه أحد الركاب معه بعدما تعهد لذلك العامل أن يوليه عناية خاصة.
انتقل “شاهين” مع صاحبه الجديد إلى مزرعته، وبنى له بيتا قرب خمّ الدجاج.
رغم استقراره إلا أنه لم يكن ينام من الليل إلا قليلا، إذ كلما غمض له جفن طاردته كوابيس تلك الأيام السوداء والمحن التي مرّ بها؛ فيهب مفزوعا مرعوبا مرتجفا، ثم يفيء إلى رشده، فيحمد الله على العافية، ويرضى بمقره الهادئ الآمن.
كان في تلك المزرعة بعض الطيور الداجنة التي لا تقوى على الطيران؛ تقتات على ما يرميه المزارع لها من حبوب كل صباح لتلتف حوله وهي تلتقط الحَبَّ هانئة قانعة بما يأتيها من رزق من غير تعب ولا نصب.
وصار “شاهين”مثلها يزاحمها على القوت فيقتات بالحبوب راضيًا تمام الرضا مقتنعا بما يقدَّم له، رغم أنه كان في بعض الأحيان يندب حظه على منقاره المعقوف فلا يلتقط الحَبَّ بِيُسْرٍ مثل باقي الطيور ذوات المناقير الحادة والمدببة.
مرت أيامه هادئة آمنة لا تروعه فيها مكائد أعدائه، ولا رصاص الصيادين الغادرة، ولا أمواج البحر الهائج إلى أن حلَّ ذلك اليوم؛ إذ رأى في الأفق طائرًا يحلق عاليًا باسطًا جناحيه، فاستيقظت روح الطير التي في داخله.
خفق قلبه بشدة، وتاقت روحه إلى السماء، وأحس بشوق غامر لها.
بقيت صورة ذلك الطير عالقة في ذهنه، وقد أرقته و أقضَّت مضجعه تلك الليلة.
وفي الصباح الباكر صعد إلى ربوة الديك الذي توجس منه خيفة وظن أنه سينافسه على دوره المعتاد كل فجر.
لم يعره اهتمامه؛ بلمدّ جناحيه ببطء شديد فقد تصلبتا أو كادتا أن تتصلبا، وجاهد نفسه حتى تمكن من بسطهما؛ وحركهما، فتناثرت ذرات الغبار حوله وثارت، ففزع الديك وولى هاربا ولم يعقِّب، أما “شاهين” فقد تمكن أخيرا من الطيران واعتلى صهوة المجد عاليا، وعادت إليه روحه الوثَّابة ذات الهمة العالية.
[1]البيت لمحمود سامي البارودي.
[2]لم أعثر على صاحب البيتين.