حصريا

منزلة البُغية في تراجِم النُّخبة- د.محمد جمعة الدِّربيّ- مصر-

0 314
  • تنقسم كتب التراجم والطبقات إلى كتب تراجم عامّة مثل: سير أعلام النبلاء للذهبي(ت748ه)، والأعلام للزركلي، ومعجم المؤلفين لرضا كحالة، وكتب تراجم متخصصة في نُخبة من الأعلام مثل: مراتب النحويِّين لأبي الطيب اللُّغويّ(ت351ه)، وطبقات النحويِّين واللُّغويِّين للزُّبيديّ(ت379ه)، وإنباه الرواة عن أنباه النحاة للقفطيّ(ت646ه).

ومن هذه الكتب المتخصصة كتاب بغية الوعاة في طبقات اللغويِّين والنحاة لجلال الدين عبد الرحمن السيوطيّ(ت911ه) صاحب التصانيف الكثيرة([1]). وقد طُبع الكتاب بتصحيح محمد أمين الخانجي في مطبعة السعادة بالقاهرة عام 1326ه= 1908م، ثم حقَّقه محمد أبو الفضل إبراهيم في مطبعة عيسى الحلبي بالقاهرة عام 1964م، ثم صدر بالتحقيق نفسه عن المكتبة العصرية ببيروت في جزأين: الجزء الأول(607صفحة)، والجزء الثاني(601صفحة)([2]).

ومحقِّق الكتاب هو الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم المتخصِّص في تحقيق كتب التراجم مثل: مراتب النحويِّين، وطبقات النحويِّين واللُّغويِّين، وإنباه الرواة عن أنباه النحاة([3]). وقد بذل في تحقيق البغية جهدًا يليق بمكانته، وألحق به كشافات- وسماها فهارس- الأعلام المترجمين، والشعر، والأماكن والبقاع، والأمم والقبائل([4]) والطوائف. ولكن لم يسلم التحقيق من الأخطاء التي أشار المحقق إليها- أو إلى بعضها-في استدراك بنهاية الكتاب.

وأصلُ هذا الكتاب على ما بيَّنه السيوطيّ طبقاتُ النحاة الكبرى، وهي مجموعةٌ كبيرة أودع فيها حميعَ ما في كتب الأدب والتاريخ من ترجمة نحويٍّ طالتْ أو قصُرتْ، خفِيت أخباره أو اشتهرت، وبلغت مسوَّدته سبع مجلَّدات. ثم أشار عليه صديقه وشيخه الحافظ تقيّ الدين أبو الفضل محمد بن فهد في مكة بأن يلخِّص منها طبقات في مجلَّد يحتوي على المهمّ من التراجم، ويجري مجرى ما ألِفه الناس من المعاجم([5]). وكان السيوطيّ يفتخر بطبقات النحاة الكبرى؛ فقد قال ضمن التحدُّث بنعمة الله:” ومهرتُ في النحو… …ومَن طالعَ كتابي(جمع الجوامع) على صِغَره، و(تذكرتي)، و(الطبقات الكبرى) تيقَّن ذلك” ، كما وصف السيوطيُّ بغية الوعاة؛ فقال: ” طبقات النحاة الصغرى مجلَّد “، ووصفها باعتبار الأصل فقال:” طبقات النحاة الكبرى تسمَّى بغية الوعاة”([6]).

ومن مظاهر العبقرية الفترةُ الزمنية لتأليف الكتاب؛ ففي بدايته:” فجرَّدتُ الهِمَّة في سنة ثمانٍ وستين وثمانمائة إلى جمع كتاب في طبقات النحاة جامع مستوعِب للمهمّات…”، وفي نهايته: ” آخر طبقات النحاة الصغرى. قال مؤلِّفها: فرغتُ من تأليفها في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وثمانمائة “([7]).

ومن العبقرية أيضًا استيعاب السيوطى للمصادر التي سبقته؛ فقد أودع في البغية صفوة جميع الكتب التي سبقته في هذا الموضوع، وزاد عليها ما انتقاه من كتب الأدب والتاريخ والتراجم ومعاجم الشيوخ، فضلًا عن مشاهداته وأخبار شيوخه وعلماء عصره؛ ولقد صدق في وصف كتابه حين قال: ” بنيتُ فيه للنحاة طبقاتٍ قواعدُها على ممرِّ الزمان لا تهي، وأحييتُ فيه ميَّتهم؛ فلم أغادر شهيرًا ولا خاملًا إلا نظمتُه في سِلْك عِقده البهيّ… …ولم ندعْ فيها أحدًا ممَّن تحقَّقنا أنه نحويّ إلا ذكرناه”([8])، ومن المصادر التى ذكرها السيوطيّ في مقدمة البُغية كتاب السيرافي، وسمَّاه ” طبقات النحاة البصريِّين للسيرافي”، ومراتب النحويِّين لأبي الطيب، وطبقات النحاة للزُّبيديّ، والبلغة، ثم قال: ” فلم أرَ في ذلك ما يشفي العليل، ولا يسقي الغليل؛ فجرَّدتُ الهِمَّة… …وعمدتُ إلى التواريخ الكبار التي هي أصول وأمَّات، وما جُمع عليها من فروع وتتمَّات، وطالعتُ ما يَنيف على ثلاثمائة مجلَّد”([9]).

ويُفهَم من كلام السيوطيّ وصنيعه أن مفهوم الطبقة عنده أعمّ من مفهومها عند من سبقوه مثل الزُّبيديّ؛ إذ لم يقتصر السيوطي على البصريِّين، ولا على النحويِّين، ولا على الأعيان، ولكنه شمل كلَّ من تحقَّق السيوطيّ أنه نحويّ.

والكتاب مرتَّب على حروف المعجم مع إسقاط الزوائد مثل: (أل)، و(أبو)، إلا أن السيوطيّ بدأ بباب المحمَّدين ثم الأحمدين قبل حروف الهجاء تبرُّكًا باسم محمد وأحمد، على خيرِ وأفضلِ من تسمَّى بهما أفضل الصلاة والسلام.

واحتوى الكتاب – حسب ترقيمه- على (2209) ترجمة، وفي ذيل التراجم أبواب مهمَّة تكشف عن عبقرية السيوطيّ ويغفل عنها الكثيرون؛ أولها: ” باب الكنى والألقاب والنَّسَب والإضافات، وهو باب مهمّ تشتدُّ إليه الحاجة يُذكر فيه من اشتُهر بشيء من ذلك؛ لننظر اسمه ويسهل الكشف عليه من بابه “، ويليه ” فصل فيمن شهرته باسمين مضمومًا كلٌّ منهما إلى الآخر”، ويليه ” باب المتفق والمفترق، وهو أن تتفق الأسماء وتختلف المسمَّيات، ولم أذكر منه ما تعلَّق بالأنساب لكثرتها جدًّا”([10])، ويليه ” باب المؤتلف والمختلف، وهو المتفق خطًّا المختلف لفظًا”([11])، ويليه ” فصل فيمن آخر اسمه ويه “، وبعده ” فصل في الآباء والأبناء والأحفاد والإخوة والأقارب”، ويليه ” باب في أحاديث منتقاة من الطبقات الكبرى”.

ولا ريب أن الترتيب والاختصار – بجانب كثرة عدد التراجم- من مزايا هذا الكتاب. ولكن هناك أخطاء يرجع بعضها إلى المؤلف، ومنها ما يرجع إلى المحقِّق.

ومن هذه العيوب الخلط بين بعض الأعلام مثل: الحسن بن أحمد، والحسين([12]) بن أحمد، وبين الأبذي شيخ أبي حيان وغيره! وتكرار بعض التراجم مثل: ترجمة أبي عثمان الأشنانداني، وترجمة أحمد بن المبارك بن نوفل، وترجمة ميمون(أبي توبة) النحويّ، وترجمة يوسف بن أحمد بن طاوس([13])!

وأما أخطاء التحقيق فمنها تكرار المحقِّق رقم(1287) مع ترجمتين متتابعتين! ولا شكَّ أن هذه الأخطاء بنوعيها تؤثِّر على صحة عدد التراجم التي بلغت – حسب ترقيم المحقق- 2209 ترجمة! ولعلَّ هذه الأخطاء تحفِّز على مطالعة تحقيق الدكتور علي محمد عمر الصادر عن مكتبة الخانجي بالقاهرة عام 2005م.

وأوصي الشُّداة من الباحثين والمحقِّقين بثراء مصادرهم عند الترجمة لشخص معيَّن أو البحث عن عنوان محدَّد؛ فلا يصحُّ الاستغناء بكتاب واحد مهما كانت الثقة فيه؛ ويمكن التمثيل- ويكفي من القلادة ما أحاط بالجِيد- بما جاء في بغية الوعاة بلفظ: ” المجمل الكافي في خلل القوافي”([14])، وفي معجم الأدباء للحموي(ت626ه) بلفظ: ” الحَل الكافي في خَلَل القوافي”([15])، وفي هدية العارفين للبغداديّ(ت1339ه) بلفظ:” الجمل الكافي في خلل القوافي”([16])!

وبعد؛ فقد كان كتاب بغية الوعاة جديرًا بإثارة المعاصرين حوله؛ ويكفي التمثيل- حسب الترتيب الزمنيّ- بثلاث محاولات مثل:(مصادر السيوطيّ في التأريخ لنحاة الأندلس: دراسة توثيقيَّة في ضوء بغية الوعاة)([17])، و(سبل النحاة العرب في تبويب كتب الطبقات: كتاب بغية الوعاة في طبقات اللغويِّين والنحاة للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي 849ه-1445م، ت911ه-1505م أنموذجًا) ([18])، و(مقيَّدات السيوطيّ في بغية الوعاة في طبقات اللغويِّين والنحاة)([19]).

ولكن لا يزال السيوطيّ مفخرةُ صعيد مصر في حاجة إلى دراسة تكشف النقاب عن مصادره ومنهجه في التأليف العربيّ عامَّة، وعن عناوين كتبه المثيرة للجدل واستحياء البعض خاصًّة([20])؛ فهل من مُجيب؟

 

 

([1]) مؤلَّفاته مذكور معظمها- وليس جميعها- في كتابه ” التحدُّث بنعمة الله “، وللتعرُّف على مخطوطات مؤلَّفاته يمكن الرجوع إلى دليل مخطوطات السيوطيّ وأماكن وجودها- أحمد الخازندار ومحمد إبراهيم الشيبانيّ- مكتبة ابن تيميَّة- الكويت ط1/1983م.

([2]) اعتدَّ الدكتور أنور محمود زناتي بالصفحة البيضاء غير المرقومة في آخر الكتاب؛ فذكر أن عدد صفحات هذا الجزء(603 صفحة)! وزعم أيضًا أن البغية صدر عن مطبعة السعادة عام 1324ه، وعام 1326ه!! راجع مقاله بتاريخ 22/2/2016م على موقع الألوكة بعنوان: كتاب بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي(ت911ه-1505م).

([3]) مراتب النحويِّين لأبى الطيب اللُّغويّ(ت351ه)- دار نهضة مصر- القاهرة- مصر ط1/1974م، وطبقات النحويِّين واللُّغويِّين للزُّبيديّ(ت379ه)- دار المعارف- القاهرة- مصر ط1/1973م، وإنباه الرواة عن أنباه النحاة للقفطيّ(ت646ه)- دار الفكر العربي- القاهرة- مصر ط1/1986م.

([4]) في طبعة المكتبة العصرية بلفظ: ” البقائل “!

([5]) راجع مقدمة بغية الوعاة للسيوطيّ(ت911ه)- تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- المكتبة العصرية – بيروت- لبنان(د.ت)، وراجع أيضًا: التحدث بنعمة الله للسيوطيّ ص80.

([6]) التحدث بنعمة الله للسيوطيّ- تحقيق اليزابث ماري سارتين- الذخائر(106)- الهيئة العامة لقصور الثقافة- القاهرة- مصر ط/2003م. ص106، وراجع ص110، 138. وللسيوطيّ كتاب آخر في التراجم هو ” تحفة الأديب في نحاة مغني اللبيب “، ويوصَف بأنه الطبقات الوسطى.

([7]) بغية الوعاة – طبعة المكتبة العصرية ص429، وراجع ص6.

([8]) مقدمة تحقيق بغية الوعاة ص6- 7.

([9]) بغية الوعاة ص3.

([10]) ممَّن ذكرهم السيوطيّ في هذا الباب: الأخفش، وأبو حيان، وسيبويه، وابن هشام. وقد فطن إلى أهميَّة هذا الباب الأستاذ مصطفى شعبان فنشره بتاريخ 11/4/2018م بموقع منتدى مجمع اللغة العربيَّة على الشبكة العالميَّة ضمن سلسلة سطور في كتاب(119) بعنوان:  باب المتفق والمفترق وهو أن تتفق الأسماء وتختلف المسمَّيات من كتاب بغية الوعاة في طبقات اللغويِّين والنحاة للسيوطي.

([11]) ممَّن ذكرهم السيوطيّ في هذا الباب: الأبذي والأندي، والجوزي والحوزي، والفالي والقالي.

([12]) راجع: إنباه الرواة للقفطيّ جـ1/314- 319.

([13]) بغية الوعاة للسيوطيّ، وقارن بين الترجمتين 684، 767، والترجمتين 1031، 1100، والترجمتين 1246، 1636، والترجمتين 985، 2050، والترجمتين 2170، 2180! وراجع جـ2/367، 399.

([14]) بغية الوعاة للسيوطيّ جـ1/597.

([15]) معجم الأدباء للحموي(ت626ه)- دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان ط1/1991م.جـ3/393.

([16]) هدية العارفين للبغدادي(ت1339ه)- دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان ط1/1992م. جـ1/399.

([17]) قام بهذه الدراسة الدكتور رجب عبد الجواد إبراهيم- مكتبة الآداب- القاهرة- مصر           ط1/ 2002م، وأصله بحث للمؤلِّف بعنوان:نحاة الأندلس في بغية الوعاة: دراسة توثيقيَّة- الجزء الثاني- المجلد 46- مجلة معهد المخطوطات العربيَّة- القاهرة- مصر ط/2002م.

([18]) نهض بهذا العمل  جمعة زروقي في العدد الثامن من مجلة الذاكرة- مخبر التراث اللغوي والأدبي في الجنوب الشرقي الجزائري- الجزائر ط/2017م.

([19])كتب هذه الدراسة الأستاذ إبراهيم بلفقيه اليوسفي، ونشرها على موقع الألوكة بتاريخ 10/11/2018م، وهي استدراك على تحقيق الدكتور علي محمد عمر الصادر عن مكتبة الخانجي بالقاهرة عام 2005م؛ حيث وقع اليوسفي على بضعة وسبعين لفظًا مقيَّدًالم يذكرها الدكتور عمر في كشَّاف تحقيقه، فضلًا عن مقيَّدات باب المؤتلف والمختلف.

([20]) وقد أشرتُ إلى هذه القضية في مقالي: قيمة الغلاف في التأليف العربيّ- العدد 15- مجلة الربيئة- نادي الرقيم العلميّ- جمعية العلماء المسلمين الجزائريِّين- الجزائر ط/2019م.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.