معادلة:الإنسان+التراب+الوقت=الحضارة،تفكيك حدها الأول، وأثر تفعيل مضامينه في صناعة التنمية المستدامة.د.محمد سنيني
[cl-popup title=”ترجمة الكاتب” btn_label=”ترجمة الكاتب” align=”center”]
[/cl-popup]
معادلة: الإنسان+التراب+الوقت=الحضارة
تفكيك حدها الأول، وأثر تفعيل مضامينه في صناعة التنمية المستدامة
تقديم:د/محمد سنيني
خُطط رُسمت، ميزانيات رُصدت، أموال ضُخت، هياكل قاعدية ثُبتت، مكاتب دراسات جُندت، ترسانة من القوانين أُحضرت، توقعات استُشرفت، وأطر بشرية جُمعت، ومع كل ذلك لم نرى أن السياسة الاقتصادية التي اتبعت قد أتت أُكلها؛ فقللت من التضخم، أو امتصت البطالة، أو رفعت من معدلات النمو، أو أحدثت تغييرا ملحوظا في صادرات خارج المحروقات.
لا شك أن ثمة عدة عوامل قد غُيّبت، أو غابت مجتمعة في كل ذلك، إلا أن عاملا أساسيا وجوهريا قد يغض عنه الطرف، بل قد يرمى من يرفعه إلى تلك المكانة بالوهم، والتخلف.
إن ذلك العامل هو الالتفات إلى تنمية بشرية مبنية على منظومة قيمية، تراعى أول ما تراعي القيم الإنسانية المشتركة، ورأس سنامها العدل، وما ينضم إليها من نواميس التغيير.
فمداخلتنا ستركز على هذا العامل مبرزة ما يلي:
- بيان مركزية هاته القيم.
- العدل، وكونه رأس سنام منظومة القيم، وأثر تفعليه، وكونه يمثل منصة لا بديل عنها لأي إقلاع كان اقتصادي أو غيره.
مركزية منظومة القيم في التنمية:
غني عن القول أن المؤثرات الخارجية التي تدفع بالإنسان إلى أن يسلك سبيل الرشاد، وقد أعطى للمواطنة حقها أن يساس بالوازع الاجتماعي، والوازع السلطاني.
إن الوازع الاجتماعي، وإن كان ينحصر في عامل “القدوة”، وفي التنشئة في بيئة صالحة، فإنه اليوم اتسع إلى مجتمعات جديدة؛ إلى رقابة المجتمع المدني، إلى رقابة الوسائط المعلوماتية المختلفة.
إن الأمم الغربية؛ المسؤولون فيها يحسبون ألف حساب لتلك المجتمعات؛ فتجدهم إذا ما كشف فسادهم يسارعون إلى التنحي وتقديم الاستقالة غداة نشر ما رموا به.
إن هذه الدرجة العالية من الوازع التي أحدثها تلك المجتمعات أثرت بشكل كبير في الاستقرار الاقتصادي والسياسي، كما أنه في الوقت نفسه فرضت على صناع القرار، وعلى الدوائر الحكومية الالتزام بالحذر في أي تحرك كان قد يغضب ويؤدي إلى ثوران تلك المجتمعات.
إن تلك المجتمعات بصنيعها هذا؛ والمتمثل أساسا في تتبع أي خطة حكومية أو مؤسستية كانت، أو في رصد صناع القرار، وكبار المسؤولين، بل حتى من هم في أدنى الهرم ولدت منظومة قيم كان لها الأثر الكبير في نهضة ونمو متزايد للتك الدول.
أما الوازع السلطاني أو قل ما يقوم به القضاء في تلك الدول دون محاباة أو انحياز من فرض سلطته شكل هو الأخر في نفوس الكل قيمة مضافة تمثلت في احترام قراراته والركون إليها، واللجوء إليه في فك النزاعات والخلافات.
ومن صور ذلك الاحترام والانقياد إلى القانون، وإلى ما أرساه من تنظيم العلاقات المختلفة؛ ما حدث من خلاف بين رئيس أوباما والكونغرس بشأن الموازنة، ورفع سقف الدين العام في أواخر سنة2013، والذي أدى إلى تعطيل الدوائر الحكومية 17 يوما، بل وإلى إلغاء زيارة آسيوية للرئيس أوباما؛ ومنها حضوره لجلسات منظمة(APEC) كانت مبرمجة لدليل ناطق على مدى تغلل الاحتكام إلى النظام، وعدم مخالفته قيد أنملة.
إن ذلك الاحتكام للنظام، وإن أفرز في بعض صوره أزمة، والتي لم يقتصر ضررها على أمريكا كما مثلنا، بل تعدى إلى العالم بأسره ليكشف عن عرف متجذر في العالم الغربي، كان له الانعكاس الكبير على استقراره السياسي، وتبوّء اقتصادياته المراتب الأولى، وقدرتها في الوقت نفسه على مواجهة الأزمات والتقلبات.
إن انضمام الوازع الاجتماعي بصوره الحديثة، إلى الوازع السلطاني، وكونهما يمثلان وحدة تتكامل، ولا تتصادم، وحدة تدرأ المفاسد وتجلب المصالح، وحدة تعزز المساواة، وحدة تبين سبل تفعيل مبادئ المواطنة الحقة، وحدة تكشف المخبوء، وحدة تفرض على صناع القرار مزيد من الشفافية، وحدة تدفع بالحوار لأن يكون مجتمعيا، لأن يكون تقليدا، من حاد عنه قذف بالشذوذ، أقول: ذلك الانضمام هو صمام أمان لأي انتكاسة محتملة، ولا نغفل أن ذلك الانضمام يصنع الأمن السياسي، والاقتصادي والاجتماعي، وفوق ذلك كله يأتي العدل بكل صوره وأشكاله ليضع بصمته؛ فيقيم المجتمع بكل درجاته وأطيافه على السكة الصحيحة، ويرفعه، ويقوي استقراره، ويزيد من ديمومته.
لقد لفت انتباهي ما صرح به وزير الخارجية الجزائرية رمطان لعمامرة في يوم الديبلوماسي الوطني يوم 08 أكتوبر 2013 لما قال:”لا بد أن نتسلح بالقيم المرجعية لشعبنا”؛ إن تصريحه هذا لعله يعكس إنذارا إذا ما ولينا ظهرنا لتلك القيم، فتهدد سيادتنا، واستقلالنا، ويمتد ذلك الإنذار لمشاريعنا؛ وخاصة الاقتصادية منها.
إن النفس البشرية تتأثر أفعالها إيجابا أو سلبا بما تختزنه في داخلها، حتى لو ما كان تكنه أوهاما([1])؛ فالذكاء يتبع دائما حال النفس، فإذا ما فقدت النفس صفاءها فقد الذكاء عمقه([2])؛ وبناء على ذلك فإن القيم المركوزة ستحدث بلا شك انقلابا في الخارج، وخاصة إذا انضم إلى ذلك حمل الذاكرة المجتمعية لتلك القيم، فإن المدفوع بها لا يحس بالشذوذ، وإنما سيبذل أقصى جهده لتفعيل ما بداخله؛ لأن التيار معه، وليس ضده.
إن القيم كلما ترسخت، وانتقلت من كونها ظاهرة، ثم إلى تصبح من جملة العوائد أتت أكلها، ورمي مخالفها بالشذوذ([3])، بل ذلك التطبيق العملي لها بتكررها، واعتيادها يرتقي بها إلى أن تصبح في درجة الظواهر الطبيعية؛ فيصعب أو يستحيل ردها، أو السير في غير مسلكها، ومواجهتها، فما على غير الملتبس بها إلا الرضوخ لتيارها وسيلها، وإن كان ذلك على وجه النفاق والمداراة.
إن مركزية منظومة القيم تستمد موقعها هذا في كون فقدها يعد السبب الجوهري في ضعفنا ومرضنا([4])؛ ضعفا ومرضا؛ فإذا انعدمت تلك القيم أو ندرت حل محلها مزيج من فقر وجهل، أو جهل وترف([5]).
يقول محمد الغزالي رحمه الله تعالى:”إن المجتمعات التي يروقك شرف معاملاتها، وجمال آدابها، وصدق اتجاهاتها؛ هي هذه المجتمعات؛ التي تأصل فيها العلم، وسادتها العافية، وتقاربت فيها العقول، وتساوت فيها الحقوق، وأمكن التفاهم والتعارف وتجاوبت فيها العواطف”([6]).
إن بلاء الحضارات قديمها وحديثها ليس كامنا في ضعف إمكاناتها المادية أو منجزاتها العلمية، وإنما في قيمها الأخلاقية التي تسودها، وتحتكم إليها؛ يقول:مارتن لوثر:”ليست السعادة البلاد بوفرة إيرادها، ولا بقوة حصونها، ولا بجمال بناءها، وإنما سعادتها بعدد المهذبين من أبنائها، وبعدد الرجال ذوي التربية والأخلاق فيها”([7]).
لقد كان للأثرة والجشع الحظ الأوفر في الهيمنة على الدنيا الأعمال، وقد تسببا في جملة من الفضائح هزت أمريكا في أواخر الستينات، بل حتى الأزمة العالمية الحالية كانت وليدة ذينك العاملين، وفي كلا الوقتين تصاعدت أصوات من مفكرين، وساسة، وصناع القرار بضرورة تلقيح دنيا الأعمال بجملة من المبادئ الأخلاقية.
إن المفتاح يكمن في إرساء ما سمي بـ”النظرية الأخلاقية التجارية”؛ تلك النظرية التي ازدهرت في أوائل الثمانينات بأمريكا، وما لبثت أن انتقلت إلى أوروبا، واستقبلت بحفاوة كبيرة؛ ففي أمريكا صار أكثر من ثلاثة أرباع المشروعات الكبرى مدونة سلوك، وأقيمت لجان أخلاق النظرية، وفي فرنسا مثلا تسللت هاته النظرية إلى التعليم العالي، فأنشأ كرسي النظرية الأخلاقية التجارية والحضارة الأوروبية([8]).
لقد تفطن الغرب إلى الأخطار التي قد تعصف بالتنمية بكل أشكالها إذا ما أبعدت منظومة القيم، وسارع إلى القول أن صون تمام الطبيعة ومستقبل الإنسان مرهون بمدى تفعيل تلك النظرية، ورقي بها كمسؤولية([9]).
إن دولة كفنلندا ذات 5 ملايين نسمة وبدخل قومي قدره 240 مليار دولار سنويا صُنف شعبها أنه من أكثر الشعوب سعادة، لقد أرجع وزير التجارة والصناعي الفنلندي ذلك التصنيف إلى ستة عوامل:
- من الله؛ الطبيعة الجميلة جدا.
- استمتاع الشعب الفنلندي بالإخلاص في العمل.
- الشفافية وانعدام الفساد الإداري.
- العدالة الاجتماعية.
- الاستقلال التام للقضاء.
- التعليم الجيد مع الضمان الصحي.
كـمـا أن في فـنـلـنـدا لا يـتـبـعون سياسة الباب المفتوح، بل أبوابهم مغلقة وبالتنظيم والقانون يأخذ كل ذي
حق حقه، حقّه كاملا وحقّه فقط ([10]).
العدل رأس سنام منظومة القيم:
العدل ناموس كوني؛ به قامت السموات والأرض؛ به تتحرك المجرات، وما فيها من شموس وكواكب وأقمار في حركة معتدلة متوازنة، لا يغشاها اصطدام، ولا انحراف عن مساراتها؛ فقد جاء:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَر؛َ فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُودِ خَيْبَرَ، قَالَ: فَجَمَعُوا لَهُ حَلْيًا مِنْ حَلْيِ نِسَائِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: هَذَا لَكَ، وَخَفِّفْ عَنَّا وَتَجَاوَزْ فِي الْقَسْمِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُم،ْ فَأَمَّا مَا عَرَضْتُمْ مِنْ الرَّشْوَةِ؛ فَإِنَّهَا سُحْتٌ، وَإِنَّا لَا نَأْكُلُهَا، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»([11]).
إن ذلك الناموس المبثوث في كتاب الله المنظور تراه بنفس الحضور في كتاب الله المقروء، وفي ذلك تلميح قوي أن المجتمعات والدول إذا ما أرادت أن تقوم، وتقام، وأن ترقى، وأن تكون آمنة في حياتها فلتعضد على العدل، بل إذا أرادت أن تسخر لها السماوات والأرض فلتجعل العدل في ناصية كل حراك.
إن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية جاءت حافلة بإبراز قيمة العدل، ودعت إلى الاحتكام إليه مع القريب والعدو؛ فقد قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(135)﴾(النساء)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8)﴾ (المائدة)، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(25)﴾ (الحديد)، وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»([12])، وينضم إلى تلك النبذ من النصوص الشرعية آية حملت المصالح كلها فأرشدت إليها، والمفاسد كلها فزجرت عنها، وجاء العدل متصدرا ومقدما؛ قال العز بن عبد السلام:”وأجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها والزجر عن المفاسد بأسرها قوله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)﴾(النحل)؛ فإن الألف واللام في العدل والإحسان للعموم والاستغراق، فلا يبقى من دق العدل وجله شيء إلا اندرج في قوله:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ ولا يبقى من دق الإحسان وجله شيء إلا اندرج في أمره بالإحسان، والعدل هو التسوية والإنصاف، والإحسان: إما جلب مصلحة أو دفع مفسدة وكذلك الألف واللام في الفحشاء والمنكر والبغي عامة مستغرقة لأنواع الفواحش ولما يذكر من الأقوال والأعمال. وأفرد البغي – وهو ظلم الناس – بالذكر مع اندراجه في الفحشاء والمنكر للاهتمام به، فإن العرب إذا اهتموا أتوا بمسميات العام. ولهذا أفرد البغي وهو الظلم مع اندراجه في الفحشاء والمنكر للاهتمام به، كما أفرد إيتاء ذي القربى بالذكر مع اندراجه بالعدل والإحسان”([13]).
إن العدل، ومنه الإيفاء بالعقود والشروط والمواثيق يأتي في صدارة الالتزامات، وبقدر الإيفاء بها بقدر ما تسود الثقة، ثقة تضفي على المعاملات الشفافية والوضوح، وأدت إلى استقرارها، وجلبت الاستثمارات، ونشطت التداول، وقللت من هروب رؤوس الأموال، وسرعت وتيرة الحركة الاقتصادية، وخفضت معدلات البطالة، وأنعشت الخزينة العامة، وأبطأت التضخم، وهيأت الأمة لأن تدخل في عصر يسوده الاستقرار الاقتصادي، والاجتماعي والسياسي، وقد حلت فيه بعض الرفاهية ورغد العيش، وتواصل بين طبقات المجتمع، وقد أدى كل واحد واجبه قبل أن يطلب حقوقه.
وفي استهلال سورة المائدة المدنية التي قالت عنها عائشة رضي الله عنها إنها آخر ما نزل من القرآن بقوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(المائدة:1) توجيه منه سبحانه إلى الالتزام بالعهود والالتزامات صغيرها وكبيرها.
إن ذلك الإيفاء تحت مظلة العدل أملى علينا أن نلتزم بالعهود حتى إن طلب منا إخواننا في الدين مناصرتهم على قوم بيننا وبينهم ميثاق؛ قال تعالى:﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(الأنفال:72).
إن ذلك النص القرآني؛ وهو يصور العدل في أسمى معانيه، ويدفع بالنفوس إلى احتضانه حتى في هذه الحالة أنطق هذا النص وزير عدل سابق في فرنسا؛ فقال: “لو كانت هذه الآية عندنا في الإنجيل لأمرت أن تكتب على أبواب كليات الحقوق”.
إن من العدل أن تكون لنا غيرة وحب لوطننا، فمن لا غيرة له وحب لوطنه؛ فإن جبلته وفطرته مصابة.
إن من العدل أن تحترم آجال المشاريع.
إن من العدل أن تصرف الميزانيات إلى ما رصدت له، لا أن تذهب يمنة، ويسرة.
إن من العدل أن تنفذ المشاريع وفق الشروط والمعايير المصاحبة للعقود والصفقات.
إن من العدل أن تمنح المشاريع إلى من يتقن القيام بها على وجه التمام والكامل تحت قبة الشفافية، لا أن تمنح في الظلام على وجه المحاباة وتلقي الرِّشا، والقفر فوق المقاييس، ونكث لواجبات للمسؤولية.
إن من العدل أن يعاقب المسيء، ويجازى المصيب.
إن من العدل أن تكون (3T Les)-Travail, Temps, et Transport- مرفوعة اللواء؛ مجسدة، يبتغى فيها الذروة؛ إنها من معالم التحضر، بها تقاس الأمم في مدى نجاعة سياستها التنموية.
إن من العدل أن ترسم الأولويات؛ فلا يقدم المؤخر منها، ولا يؤخر الأول منها.
إن من العدل أن يشدد في الشروط الاستيراد.
هذه مضامين لا بد أن تراعى في”الإنسان” إذا أريد لمعادلة مالك بن نبي أن تتحقق؛ فتوصله على الأقل إلى بوابة الحضارة؛ فيلامس “الإنسان” جدارها، ويقف على أعتابها؛ وقوف يبدأ بمشاريع، ولبنات قد رصت في منهج قد استوفى نواميس التغيير.
إن تلك المعادلة إذا اكتنف حدها الأول”الإنسان” الظلم، وجانب العدل، ومضامينه، فإن تلك المعادلة تقترب إلى أن تكون سالبة، موغلة فيه بقدر ما يتجذر الظلم، ويصبح عادة، وظاهرة، وينقلب العدل إلى أن يصبح غريبا، فيركن في خانة الشذوذ.
إن الظلم ليس محصورا في ألا يؤتى بالواجب البتة، وألا يوضع الشيء في غير محله، وإنما يدخل فيه حتى لو أنقص منه.
إن من الظلم أن يولى غير الكفء.
إن من الظلم أن تنتهك العهود والشروط.
إن من الظلم أن يصبح الوقت إذا ما ديس عليه، والآجال إذا تجوزت لا تثير حفيظة أحد.
إن من الظلم ألا تدرس المخاطر المصاحبة للمشاريع؛ فيحضر لها ما يخفف وطئتها، ومن باب أولى ما يدفع عدم حصولها.
إن من الظلم ألا نتعلم من التجارب السابقة؛ فنكرر الأخطاء السابقة، غير مبالين ما تكلفه من جهد ومال.
إن من الظلم ألا نسمع لبعضنا البعض؛ أن نصم أسمعنا، ونغض أبصارنا، ونرد النصيحة، والأخطر أن نتهم من ينصحنا بشتى النعوت.
إن من الظلم أن تكون المراقبة القبلية والبعدية للمشاريع تجري وفق الأهواء والشهوات، وتدخلها المحاباة، والرشا.
إن من الظلم أن نستورد خدمات وسلع وعتاد وغيرها، ولنا مثيلاتها أو أقرب منها في أسواقنا الوطنية.
إن العدل لا يتلاقى مع الظلم؛ فإذا ما أريد للعدل أن يحل فلا مناص من طرد الظلم وأهله عملا بقاعدة: النقيضان لا يجتمعان.
إن هويتنا ومرجعيتنا وقفت بحزم ضد الظلم؛ فلعنة الله لاحقة بالظلم والظالمين، ومحبته سبحانه وتعالى لا تصاحبهم؛ فما لهم من نصير؛ إن مصيرهم الهلاك، وليس بالضرورة أن يكون هلاكا أخرويا، ولكن هلاكا دنيويا، يسري إلى السياسة، كما يسري إلى الاقتصاد، وهكذا دواليك.
قال سبحانه: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)﴾(الأعراف)، وقال جل وعلا:﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾(هود:18)، وقال عز وجل:﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾(الشورى:40)، وقال جل شأنه: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾(المائدة:270)، وقال جلت قدرته:﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾ (الحج:71).
وجاءت سنة نبيينا صلى الله عليه وسلم مقوية لذلك الحزم؛ فقال صلى الله عليه وسلم:«اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ»([14])، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ:«وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ»([15])، فكيف بمن اقتطع حق أمة بأكملها، وقد تعهد بإيفاء الشروط والعقود، وعنه صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ:﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)﴾(هود)»([16]).
إن في قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ»([17])جزاء يقع على الأفراد والجماعات والمؤسسات إن هم رأوا واطلعوا على غياب المعايير الواجب توفرها في المشاريع.
إن العالم الغربي كان أفقه منا بما تضمنه النص النبوي، وإن كانوا قد استنبطوه بفطرتهم، وأملته ضمائرهم الحية، لقد أعدوا لذلك مجتمعا مدنيا، وسلطة رابعة يكشفان الخلل أينما وجد، ولو في أعلى هرم السلطة.
إن العدل إنما تبؤ هرم منظومة القيم؛ لأنه أصل كل خير؛ فالدنيا تدوم مع العدل والكفر، بل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة([18]).
وبالمقابل فإن الظلم أصل كل شر؛ فالدنيا لا تدوم مع الظلم والإسلام، بل إن الله لا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرحم»([19])؛ فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة([20]).
خاتمة:
كما أن الجيوش في الحروب والمعارك ينضم إلى استعدادها لها بأن تمر على التعبئة المعنوية؛ فتُلقن الروح القتالية، وتُشحن بروح المواطنة، فكذلك معركة التنمية الداخل فيها لابد أن يتسلح بأخلاقيات تقتضيها هذه المعركة؛ فلكل مهنة أخلاقياتها وميثاق شرفها.
إن امتلاك مستلزمات التمنية المادية من أموال وخطط وغيرها لا يكفي ما لم تُهيأ أوعية تحمل همّ التنمية مندفعة بروح المواطنة، ومستحضرة أن وطنها ينتظر منها الكثير، تعطيه أكثر مما ترجوه منه، تقدم واجباتها على حقوقها.
إن تلك الأوعية لا يكتمل دورها إلا إذا أقيمت وقامت بالعدل؛ عدل يُملي عليها التجرد في القيام بعملها؛ تطرد إملاءات هواها وشهواتها، متخلصة من أنانيتها، وشجعها وطمعها.
إن تلك التخلية من تلك الشوائب والموانع إذا ما أريد لها أن توضع على السكة، فلا مناص من أن تصاحبها عجلة أخرى؛ إنها عجلة التحلية.
إن من أولويات التحلية، بل عمودها وجذرها منظومة قيم متفرعة عن العدل؛ مُنكسة رأسها للظلم، رافعة الأمانة والبصيرة في أعلى عليين على حد ما جاء في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾(يوسف).
إن الإقلاع باتجاه الحضاري؛ ومنه التنمية؛ من معادلته ما اختصره مالك بن نبي بقوله المعادلة:”مبدأ أخلاقي+ذوق جمال=اتجاه الحضارة([21])، فأينما ولت وجهك تجد محفز”الأخلاق” أمامك؛ إنه ببساطة يقوم مقام le catalyseur في تحريك ودفع عملية البناء الحضاري والتنموي، بل هو صمام أمان لتلك العملية.
وإنه كما ارتفعت أصوات من كبار صناع القرار وخبراء الاقتصاد إلى ضرورة تلقيح الاقتصاد العالمي بجملة من المبادئ الأخلاقية للتخفيف من آثار الأزمة المالية العالمية، ورسم نظام اقتصادي جديد يحمل مناعة لأي هزات محتملة، يتحتم أن ينتقل ذلك التلقيح وذلك التفتح بنفس اللهجة، وبنفس القوة والوتيرة، وربما أكبر من ذلك إلى تنميتنا حتى يحق أن يطلق عليها “تنمية مستدامة”، لا “تنمية مستباحة”.
ثبت المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- صحيح البخاري.
- صحيح مسلم.
- موطأ مالك.
- مسند الإمام أحمد.
- “الأخلاق في الإسلام”، لكايد قرعوش وآخرين. عمان: دار المناهج. الطبعة الثانية: 2001.
- “إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان”، لابن القيم الجوزية، تحقيق: علي بن حسين الأثري الحلبي. دار ابن الجوزي.
- “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، لمحمد الغزالي. القاهرة: نهضة مصر للطباعة. الطبعة الثالثة: 2005.
- حتى يغيروا ما بأنفسهم”، لجودت سعيد، تقديم: مالك بن نبي. غرداية، الجزائر: المطبعة العربية. طبعة: 1990.
- “شروط النهضة”، لمالك بن نبي، ترجمة: عمر مسقاوي، عبد الصبور شاهين. دمشق: دار الفكر. طبعة: 1986.
- “الفكر الأخلاقي المعاصر”، لجكلين روس، ترجمة: عادل العوا. بيروت: دار عويدات للنشر والطباعة. الطبعة الأولى: 2001.
- “قواعد الأحكام في مصالح الأنام”، لعز الذين بن عبد السلام، تحقيق: نزيه حماد، عثمان ضميرية. دمشق: دار القلم. الطبعة الأولى: 2000.
- “مالك بن نبي، مفكر اجتماعي ورائد إصلاحي”، لمحمد العبدة. دمشق: دار القلم. الطبعة الأولى: 2006.
- “مجموع فتاوى ابن تيمية”، اعتنى بها وخرج أحاديثها: عامر الجزار، أنور الباز. المنصورة، مصر: دار الوفاء. الطبعة الثالثة: 2005.
- “مقدمة ابن خلدون”. بيروت: دار صادر. الطبعة الأولى: 2000.
- “وجهة العالم الإسلامي”، لمالك بن نبي. بيروت: دار الفكر. طبعة: 2002.
([1])– انظر:”حتى يغيروا ما بأنفسهم” لجودت سعيد: ص98، وما بعدها.
([2])– انظر:”وجهة العالم الإسلامي” لمالك بن نبي: ص84.
([3])– انظر:”مقدمة ابن خلدون”: ص218؛ :”حتى يغيروا ما بأنفسهم” لجودت سعيد: ص105، وما بعدها.
([4])– انظر:”مالك بن نبي، مفكر اجتماعي ورائد إصلاحي” لمحمد العبدة: ص87.
([5])– انظر: “الإسلام والأوضاع الاقتصادية” لمحمد الغزالي: ص62.
([6])– انظر: “الإسلام والأوضاع الاقتصادية” لمحمد الغزالي: ص63.
([7])– “الأخلاق في الإسلام” لكايد قرعوش وآخرين: ص25-26.
([8])– انظر:” الفكر الأخلاقي المعاصر” لجكلين روس، ترجمة: عادل العوا: ص126-127.
([9])– انظر:” الفكر الأخلاقي المعاصر” لجكلين روس، ترجمة: عادل العوا: ص128.
([10])– جميل محمد فارسي، www.arabiyat.com ، تاريخ المعاينة: 20/01/2014.
([11])– أخرجه مالك في موطئه: ج2، ص239-240.
([13])– قواعد الأحكام في مصالح الأنام: ص315-316.
([16])– أخرجه البخاري: ج6، ص74؛ مسلم: ص1040.
([18])– انظر:”إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان”لابن القيم: ج1، ص848؛ “مجموع فتاوى ابن تيمية”:ج28، ص84 .
([19])– أخرجه الإمام أحمد في مسنده: ج34، ص9.
([20])– انظر:”إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان”لابن القيم: ج1، ص848؛ “مجموع فتاوى ابن تيمية”:ج28، ص84 .