حصريا

مسّ الجنّ – دراسة بمنظومة عوائد العرب -1-الباحثة: مختارية بوعلي

0 211

مسّ الجنّ – دراسة بمنظومة عوائد العرب -1-

الباحثة: مختارية بوعلي

 

تأسيس ومِهاد:

الجنّ والغول، الهواتف والخوافي، النسناس والسّعالى وغيرها كثير، عالم يعترض في الفيافي والخلوات، ويغشى في الجبال والفلوات، موروث أدركناه من معين الرواة وسمعناه من الأكابر في الرّحلات، ممّن شقّوا أراضي الجزيرة العربية شمالها وجنوبها، فحكوا عن الجنّ في قبائلها وعشائرها وملوكها، هذا ما تحدّثت عنه موروثات العرب ودواوينها في الجاهلية والإسلام.

عقائد ومسلّمات في رؤيا الجنّ ومخالطتها، وعوائد ومذاهب مبتدعات في مسّها وأخرى في سُبل دفع أذاها والتقرّب إليها ,اعتقدها العرب في الجاهلية وانتهجوها وساروا عليها بعد أن اختل أمرهم وتغيّر حالهم بمرور العصور وتطاول الدّهور, فأهملوا ما كانوا عليه شرائع الدّين وتركوا سديد القوانين, ودانوا بما سمحت به قرائحهم في مثل هذه الأمور وغيرها.

مسّ الجنّ, موضوع سنتناوله توصيفا وتتبّعا بمنهج منظومة عوائد العرب في غضون هذه المسالك:

  • البيان المجمل لمصطلحات الموضوع المراد دراسته, وذلك من خلال عرض المعاني الدلالية المنتقاة من التركيب بالنّظر إلى معاني الحروف.
  • البيان التفصيلي للمصطلحات بسوْق المعاني تتبعًا واستقراءا لمدونات أهل اللّغة ومصّنفاتهم, قصدا إلى تقريب الحقائق للأفهام وإزالة اللُّبس والإبهام.
  • إعمالا لمنظومة عوائد العرب ومعهوداتهم وعرضا لمذاهبهم ومعتقداتهم, أوردنا صورًا لتوضيح ما كانوا عليه في تعاملهم مع الجنّ ومسّها.
  • الإحالة على مقاصدهم من خلال الصور التي سُقناها وبيّناها.
  • لنحطّ الرِّحال ونكشف الغطاء عن الخلفية الإعتقادية التي لاحت لنا بعد معاشرتنا لبيئة العرب والوقوف على عوائدهم ومذاهبهم في مسّ الجنّ لابن آدم.

 

 

المسلك الأول:  البيان المجمل:

والذي نقصد به تخريج المعاني التي دلّت عليها مصطلحات الموضوع محلّ الدراسة- مسّ الجنّ– عن طريق الإجمال, وبالأخصّ تلك المنقدحة في الذّهن عن طريق السّمع وما تُثيره من إيحاءات لدى السّامع, باعتبار هذه الأخيرة – الإيحاءات- تحمل معانٍ دلاليّة تزيدُ في تعميق المعنى في النّفس وتصويره, وهذا ما أشار جمعٌ من أعيان أئمة اللغة والأدب في مصّنفاتهم.

وعليه فإنّا جعلنا البيان المجمل يتوزع على نحوين:

أوّلا: بيان معاني حروف التركيب لكلا اللفظين: المسّ و الجنّ.

إنَّ الأحرف لها معانٍ, وتلك المعاني التي يتكون منها التركيب تتفاعل معًا, ومن هذا المنطلق نخلص إلى أنّ المعنى العام لأي تركيب أو كلمة هو حصيلة لهذا التفاعل, وممّا لا شكّ فيه لأنّ العرب كانوا يُدركون المعنى المتكامل الذي هو حصيلة هذا التفاعل عندما اختاروا لكلّ لفظ أحرفا معيّنة وبترتيب معيّن, ليُّعبر عن معنى معيّن.

ويُمكن أن نُجمل معاني أحرف التركيب فيمايلي:

  • الميم والسّين: تعبّر الميم عن تضامٍّ ظاهري أو باطني والسّين عن نفاذ بدقة وامتداد, والفصل منهما يعبّر عن مخالطة لأثناء شيءٍ سريانًا وامتدادًا فيها بدقة لطف أو حدّة ذات أثر. ومن المخالطة الدقيقة القوية الأثر جاء ” المسّ” بمعنى الجنون, كأنّه نفوذ إلى النّفس ومخالطة للحال مع دقة وخفاء.

نجمل المعنى في قولنا: “المسّ: السريان في الأثناء أو المخالطة القوية”

  • الجيم والنّون: تعبّر الجيم عن تجمّع هشّ كثيف له حدّة ما, والنون عن امتدادٍ باطنٍي أو جوفي, والتركيب منهما يعبّر عن ستر الشيء في الأثناء بكثيف يغشاه, ومن ذلك: “الجِنِّ والجِنّة” نوع من العالم استجنّوا عن الأبصار, ومن ذلك: “الجنون” لأنّه استتار العقل أو غيابه.

وفي التركيب استعمالات أخرى كثيرة لا تخرج عن معنى “الستر والاستتار في الأثناء”.

 

ثانيًا: البيان المجمل للتركيب : “مسّ الجنّ”.

بعد إنعام نظرٍ في اللّفظين ودون إغفال جانب معنى التركيب ذي الأحرف التي سبق تفصيلها, تتقرّرت لدينا معانٍ مكينة في النّفس, متقدّمة في التأثير, تتبادر إلى الذهن, يَحسن بنا إجمالها في نفاذٍ وامتدادٍ باطني, تعتريه مخالطة في الأثناء بحدةٍ ذات أثر, في غضون استتار كثيف.

لنصل بذلك إلى أنّ جملة هذه المعاني قد حواها موضوع الدراسة “مسّ الجنّ” وما اُشتق منه من تصاريف.

 

 المسلك الثاني:   الييان التفصيلي:

التوصيف لمصطلحات الدراسة: بعد البحث والتنقيب في مدونات أهل اللّغة من المعاجم والقواميس والمصنّفات التاريخية, قصد الإحاطة بمعاني وحقائق مصطلحات موضوع الدراسة, اتضحّت لدينا في نهاية المطاف معانٍ عدّة, أوردناها فيمايلي:

أوّلا: المسّ: ألفيناه على نحوين: حسيّ ومعنويّ.

ومن مُثُل الحسيّ ما يلي:

  • المسُّ مسُّكَ الشيءَ بيدك مَسّاً , وهو إِدراكٌ بظاهِرِ البَشَرَةِ([1]). قال ابن فارس في هذا السِّياق في المقاييس:” الميم والسين أصل صحيح واحد يدل على جسّ الشيء باليد.ّ”([2])
  • ومن هنا اُستُعير للأخذ والضرب, لأنّهما باليد. يُقال: مسَّ من الشيء أي أخذ منه, ومسَّه بالسّوط ضربه,كما جاء في اللّسان.([3])
  • ثمّ اُستُعير للجماع لأنّه مسّ ولمس, يقال: مسّ المرأةَ وماسَّها, كناية عن المباضعة.
  • ومن كلام العرب: مُسَّ الفرسُ: صار في يديه ورجليه بياضٌ لا يبلغُ التَّحجيل.
  • ثمّ مسُّ الحمّى: أي رسَّها وبَدأَها قبل أن تأخذ وتظهر.([4])
  • يقال: مُسَّ اللّبن: إذا أخذت فيه الحموضة.([5])

 

أمّا المعنوي نحو قولهم:

  • المَسُّ : الجُنون, مُسَّ بالضّم فهو ممْسوسٌ, يقول ابن منظور: “ثم اُستعير المسّ للجنون كأنّ الجنّ مسّته, يقال به مسّ من جنون.”([6])

تقول العرب: قد مسّتهُ مَوَّاسُّ الخَبَل أي الجنون, ورجل مخبَّلٌ لا فؤادَ معه.

  • والمسُّ: لينُ الجانب وحسنُ الخُلق. والشّاهد قول امرأةً في معرِض وصفِ الزّوج:  “المسُّ مسُّ أرنب.”
  • وجرى على لسان العرب قولهم: “وإنّه لَحَسنُ المسِّ في ماله” يريدون الأثر الحسن وحسن التصّرف فيه.

ثانيًا: الجنّ:

  • لفظ الجنّ مشتق من الإجتنان, والجيم والنون تدلان على الستر والاستتار. وكلّ ما قد سُتِر عنك فقد جنَّ عنك.([7])
  • والجنّ خلاف الإنس والواحد جنيّ, وسميّت بذلك لاجتنانهم عن الأبصار أي تُتَّقى فلا تُرى. قيل جُنَّ الرجل فهو مجنون لزوال عقله أو فساد فيه.([8])
  • ومنه الجَنُّ وهو ستر الشيء عن الحاسة, والمِجنَّة وهو الموضع الذي يُستتَر فيه.
  • والعرب تقول: أجنَّه الليل وجَنَّ عليه: إذا أظلم حتى يستره بظلمته.([9])
  • وقولهم جَنَّ النبات جُنونا أي طال والتفَّ وخرج زهره وقيل غلظ واكتهل.      قال الشاعر: أَلَمّا يَسْلَم الجِيرَانُ مِنْهُمْ … وقَدْ جُنَّ العضَاةُ منَ العَمِيمِ
  • وتطلق الجِنُّ ويُراد بها الأول والمُبتَدا فيُقال: كان ذلك في جِنِّ شبابه أي في أوّله وحدثانه وجدتّه.
  • واشتُهِر: جُنّ الذباب أي كثُر صوته إذا طار وهاج, أنشد الشاعر فقال:

فهذا أوانُ العِرْضِ جُنَّ ذُبابُهُ … زنابيرُهُ والأزْرَقُ المُتَلَمِّس

وحاصل القول: أنّ المسّ هو تعرض الجنّ للإنس بالأذيّة من خلال الوسوسة, أو الجنون مما يمنع وقوع الأفعال والأقوال على النّهج المستقيم إلا نادرًا. ([10])

 

 

المسلك الثالث:   حقيقة مسّ الجنّ لابن آدم تتبعًا بمنظومة عوائد العرب:

عرض الصُور:

لبيان ماكان عليه عرب الجاهلية في باب مسّ الجنّ للإنس والتعرّض له, سنورد ههنا صورًا من مذاهبِ العرب وتخيلاتها وزعاماتها في الجنّ, ممّا قد أدّى بنا المقام إلى ذكرها, والعجب أنّ هذه المذاهب تردّدت بين الإستعاذة منها والإستعاذة بها. حتّى صارت لدى نفرٍ من العربِ قواعدٌ مطرّدة ومسلّماتٌ لا يمكن لأحدٍ التوّقف في قبولها ولا التردّد في الإذعان لها.

فأمّا مذاهبهم في الإستعاذة منها:

أولا: من خرافاتهم في التعوّذ من الجن أنّ الرّجل منهم كان إذا خاف دخول قرية واعتقد سُكنى الجنّ فيها, نهق نهيق الحمار (يسمّى نهيق التعشير), ثمّ علَّق على عنقه كعب أرنب ليكون عوذة له من الجنّ وحرز من دخول الروح الخبيثة فيه.([11])

ثانيا: ممّا اشتُهر بينهم بل أصبح قاعدة مطّردة عندهم, قولهم :” من علّق عليه كعب أرنب لم تقربه جنان الدار ولا عمّار الحيّ” فلا يقربه شيطان الحماطة (شجر شبيه بالتين وهو أحب إلى الحيّات) ولا جار العشيرة (العشرة شجرة) ولا غول القفر.

وكانوا يُعلِّقون على صبيانهم سنّ الثعلب وسنّ الهرّة خوفا من خطفة الجنّ. ويروون على لسان جنّيّة تعتذر إلى قومها لعدم قدرتها على صبيّ:    كان عليه نُفره…ثعالب وهرره. ([12])

ثالثا: ومن تخيلاتهم كانوا إذا خافوا على الرجل الجنون وسُكنى الجنّ فيه وتعرّض الأرواح الخبيثة له, نجّسوه بتعليق الأقذار عليه كخرقة الحيض وعظام الموتى وقالوا: بل أنفع من ذلك أن تُعلّق عليه طامث عظام موتى.([13])

رابعا: من مذاهبهم كانوا إذا قتلوا ثعبانا خافوا من الجنّ أن يأخذوا بثأره ويُقدمون على أذيّتهم, فيأخذون روثة ويُفتونها على رأسها ويقولون: روثة راث ثائرك.

خامسا: ومن عجائب اعتقاداتهم في علاج مسّ الجنّ بعد وقوعه, إذا طالت علّة الواحد منهم وظنّوا  به مسّا من الجنّ, عملوا جمالا من طينٍ وجعلوا عليها جَوالِق وملؤُوها حنطةً وشعيرًا وجعلوها إلى باب جحرٍ جهة المغرب وقت الغروب, فإذا أصبحوا نظروا إليها فإن وجدوها بحالها قالوا لم تُقبَل الديّة وزادوا فيها أضعافًا, وإن كانت تساقطت وتبدد ماعليها قالوا قُبِلت الديّة وشُفيَّ مريضنا وضربوا بالدّف.

والجنّ أصناف متنوّعة عند العرب ذكرها أهل اللّغة والبيان والعلم باللّسان, فهم على مراتب, نذكر البعض منها:

  • فإذا ذكروا الجنّ خالصا قالوا جنيّ.
  • فإن أردوا أنّهم ممّن يسكن مع النّاس قالوا عامر والجمع عُمّار.
  • فإن كان ممّا يعرض للصبيان قالوا: أرواح.
  • فإن خبث وتعرّض قالوا: شيطان.
  • فإن زاد أمره على ذلك وقوي وتأمرّ قالوا: عفريت.

 

 

 

وأمّا عن مذاهبهم في الإستعاذة بها:

أولا: كان الرّاكب منهم والمسافر إذا خاف على نفسه من طوارق الليل عمد إلى وادٍ ذي شجر فأناخ راحلته في قرارته وعقلها وخطّ عليها خطًّا ثمّ قال: أعوذ بصاحب هذا الوادي أو قال: بعظيم هذا الوادي. يقول قائلهم:     يا جنّ أجزاء اللوى من عالج…عاذ بكم ساري الظلام الدّالج

لا تُرهقوه بغويّ هائجٍ

ثانيًا: من معتقداتهم بل ومن المسلّمات لديهم أنّهم يرَوْن الجنّ ويُظاهرونهم ويُخاطبونهم ويستعينون بهم وربما تزوجوهم وكان لهم منهم الولد.([14])

 

 

القدر الجامع بين الصور:  يمكن إجمال ما سُقناه من صور في قولنا:

أنّ العرب اعتقدت مسّ الجنّ لابن آدم والتعرّض له والتلّبس به, وبنوا على هذه المُسلَّمة عقيدتهم. بله أضحت لديهم قواعد مطّردة في هذا الباب لا يصوغ للواحد منهم أن يحيد عنها.

وأمّا اختلافهم القائم في التردّد بين مذهبي: الإستعاذة من الجنّ والإستعاذة بها فيمكن القول أنه مبني على اختلاف اعتقاداتهم, فإنّهم قلّما يتوافقون في العوائد والأعمال…

 

 المسلك الرابع:  مقاصد العرب من خلال ما أوردناه من صور وحقائق:

  • الإبقاء على الأنفس والأرواح والمُهج.
  • قضاء المصالح والحاجات.
  • دفع المضار والأذى وجلب النفع والصلاح.
  • رعي الحظوظ.
  • كسب رضا الجنّ.
  • ترسيخ العقائد في النفوس.

 

المسلك الخامس: الخلفية الإعتقادية لدى العرب:

  • اعتقاد: أنّ الجنّ عالم يملكون النّفع والضرّ.
  • اعتقادهم في ترائي الجنّ واعتراضها لهم في الفيافي والخلوات وغشيانها لهم في الجبال والفلوات.
  • التّقرب إلى الجنّ بالقربات سبيل جلب رضاها واجتناب أذاها.
  • يعتقدون في الجنّ القدرة على تقديم العون والتوفيق للّائذ بها.
  • اعتقادهم أنّ للجنّ مراكب من دوابّ الأرض وهوّامها ينبغي التودّد والإحسان إليها واجتناب قتلها أو أذيتها, فالاهتمام بها اهتمام بالجنّ واكتساب رضاها وحيازة نصرتها.
  • الإنسان يحلّ به غضب من الجنّ فيصيبه مسّ ومرض قد يهلكه إن أقدم على أذيتها .
  • اعتقادهم مظاهرة الجنّ والتزوّج بها والتناسل منها.
  • يعتقدون في رفات الموتى وعظام الدوّاب والجيف والنّهيق المداواة والعلاج من المسّ.

 

وستكون لنا بإذن الله وقفات شرعية في محاكمة مسّ الجنّ في بحث آخر…

[1] – المحيط في اللغة, لابن عبّاد ,ج 2 ,ص 247.

[2] – معجم مقاييس اللغة, لابن فارس, ج 5, ص 271.

[3] – لسان العرب, لابن منظور, ج 6 , ص 217.

[4] – المخصص في اللغة, لابن سيده, ج 4, ص 377.

[5] – المحيط في اللغة, لابن عباد, ج 2 , ص 247.

[6] – المغرب في ترتيب المعرب, ج 2,  ص 267.

[7] – فقه اللّغة, للصاحبي, ج 1 , ص 11, معجم مقاييس اللغة, لابن فارس, ج 1 ,ص 421.

[8] – الصحاح في اللغة, ج 1 , ص 104.

[9] – لسان العرب, لابن منظور,  ج 7 , ص 180.

[10]– التوقيف على مهمات التعاريف, للمناوي, ج 1 , ص 256.

[11] – ينظر: بلوغ الأرب للآلوسي, ج3,ص315, المفصل في تاريخ العرب, ج 15,ص 245.

[12] – بلوغ الأرب, ج2,ص325.

[13] – المصدر نفسه, ج3, ص319.

 

[14] – بلوغ الأرب, ج2, ص340.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.